كيف تدمر المكاتب المفتوحة إنتاجيتنا؟

انتشرَت صيحة المكاتب المفتوحة في عام 1900، لكنَّها لم تلقَ استحسان الناس في ذلك الوقت؛ نظراً لكون قادة الأعمال التجارية في بحث مستمر عن سبل لتعزيز الإنتاجية في مكان العمل، وأعدَّت الحكومة البريطانية في عام 1856 تقريراً عن تصاميم المكاتب، وجاء فيه: "يستلزم العمل الفكري وجود مكاتب منفصلة كيلا تنقطع سلسلة أفكار الشخص الذي يتطلب عمله مجهوداً ذهنياً؛ أما بالنسبة إلى الأعمال التي تتطلب الميكانيكية، فإنَّ العمل الجماعي لعدد من الموظفين في المكتب نفسه وتحت إشراف مناسب، هو الطريقة المناسبة لتعزيز الإنتاجية".



بعد ذلك ببضع أعوام، وفي عام 1906 على وجه التحديد شُيِّد "مبنى لاركن الإداري" (Larkin Administration Building) في أمريكا، وكان أول تصميم حديث للمكاتب. صمَّمَ هذا البناء المهندس المعماري الأمريكي "فرانك لويد رايت" (Frank Lloyd Wright) استناداً إلى رؤيته عن المكاتب المفتوحة، واستمر مفهوم المكتب المفتوح طوال القرن العشرين، لكنَّه لم يلقَ رواجاً حتى العقد الأول من القرن الحادي والعشرين بفضل عمالقة التكنولوجيا مثل: محرك البحث "غوغل" (Google)، والشركة التقنية "آبل" (Apple)، وشركة "فيسبوك" (Facebook) الذين اعتمدوا تصميم المكاتب المفتوحة.

عندما كشفَت شركة "فيسبوك" (Facebook) عن مقرها الجديد في عام 2012، زعم مؤسسها "مارك زوكربيرج" (Mark Zuckerberg) أنَّه سيكون "أكبر مكان عمل مفتوح في العالم". صمَّم هذا البناء المكون من غرفة واحدة شاسعة بمساحة نصف كيلو متر تقريباً المهندس المعماري "فرانك غيري" (Frank Gehry).

يعتقد بعض موظفي شركة "فيسبوك" (Facebook)، مثل مُصمِّم المنتجات "تانر كريستينسين" (Tanner Christensen) أنَّ البناء الجديد يشجع الإنتاجية والتعاون والإبداع؛ نظراً لأنَّه مثال لتصميم المكتب المفتوح الذي يركز على الحركة ويؤكد على الحدود الشخصية ويشجع على اللقاءات.

هذا صحيح في بعض الحالات، ولكن لا يستمتع معظم الموظفين بالعمل في المكاتب المفتوحة؛ ففي عام 2015، نشرَت صحيفة "واشنطن بوست" (The Washington Post) مقالاً ورد فيه نقد لاذع لصيحة المكاتب المفتوحة في شركات مثل: "غوغل" (Google) التي "تُدمِّر مكان العمل لأنَّها قمعية للغاية"، على حد تعبيرها، وفي عام 2017، ذكرَت صحيفة "وول ستريت جورنال" (The Wall Street Journal) أنَّ شركة "آبل" (Apple) لم تكن راضيةً عن تصميم المكاتب المفتوحة، وصرَّحَت أنَّ: "مطوري البرامج والمبرمجين قلقون من أن يكون حيز عملهم صاخباً للغاية ومشتِّتاً للانتباه".

في حين لا تعتمد أيٌّ من الصحيفتين المكاتب المفتوحة مثل: شركة "فيسبوك" (Facebook)، وتُسلط كلتا المقالتين الضوء على حقيقة أنَّ الشركات تُفضِّل التصميم على الأداء، فضلاً عن ذلك، أظهر ثلث المشاركين الذين بلغ عددهم 42764 في دراسة أجرتها جامعة "سيدني" (University of Sydney) حول الرضا في مكان العمل أنَّ "تصميم المكاتب المفتوحة أظهر معدلات عدم رضا أعلى بصورة ملحوظة مقارنة بتصميم المكاتب المغلقة".

في الواقع، صرَّح الباحثون أنَّ "ما بين %20 و40% ممن يعملون في المكاتب المفتوحة أبلغوا عن مستويات عالية من عدم الرضا نتيجة كون الأنظار موجَّهة دائماً إليهم، وأعربَ أكثر من 20% من الموظفين عن عدم رضاهم عن درجات حرارة مكاتبهم، بغضِّ النظر عن طريقة تنظيم المكتب"، إلى جانب عدم رضا الموظفين، تبيَّن أنَّ تصميم المكاتب المفتوحة مضرٌّ بالإنتاجية، مما يُنذر بحدوث مشكلات لدى شركة "فيسبوك" (Facebook) التي تعتمد هذا التصميم.

عوامل التشتيت تجعل التركيزَ أمراً شبه مستحيل:

هذا أمر واضح، فمَن منا لم يعمل مع زميل عمل صاخب وربما بغيض جداً لدرجة أنَّه يشتت انتباه المكتب بأكمله، فبدلاً من أن تكون قادراً على إغلاق الباب ومواصلة العمل دون إلهاء، يضيِّع عليك زملاؤك وقت العمل بثرثرتهم، ولقد وجدَت الأبحاث أنَّ سماع شخص يجري مكالمةً هاتفية يشتت الانتباه أكثر من الاستماع إلى شخصين يتجاذبان أطراف الحديث.

لاحظَ كلٌّ من البروفيسورة المساعدة في قسم إدارة التكنولوجيا "آن لور فيارد" (Anne-Laure Fayard) والبروفيسور في الدراسات الشرقية والإفريقية "جون ويكس" (John Weeks) في مقالهما "مَن حرَّك مكتبي" (Who Moved My Cube) أنَّ "بعض الدراسات تُظهر أنَّ الموظفين في المكاتب المفتوحة حينما يعلمون أنَّه قد يجري التنصت عليهم أو مقاطعتهم، تصبح محادثاتهم أقصر وأكثر سطحيةً".

وعلاوة على ذلك، وكما ورد في مجلة "نيويوركر" (The New Yorker): "وجد عالم النفس "نيك بيرهام" (Nick Perham) في دراسة تأثير الصوت على طريقة تفكيرنا، أنَّ ضجيج المكتب يُضعف قدرة الموظفين على تذكُّر المعلومات، وحتى إجراء العمليات الحسابية البسيطة"، ويزعم الموظفون أنَّهم يضيعون 86 دقيقة يومياً بسبب تشتُّت أذهانهم.

إقرأ أيضاً: 7 فوائد للمكاتب التي يستطيع الموظفون العمل خلفها وهم واقفين (وأفضلها)

هل المكاتب المفتوحة مرهِقة أم مُمرِضة؟

وجدَت دراسةٌ أجراها الدكتور "فينيش أومين" (Vinesh Oommen) من معهد الصحة والابتكار الطبي الحيوي التابع لجامعة "كوينزلاند" (Queensland) للتكنولوجيا أنَّ العمل في مكاتب مفتوحة "يتسبب في مستويات عالية من التوتر والأزمات وارتفاع ضغط الدم وارتفاع معدل دوران العمالة".

في دراسة أخرى شملَت 10 آلاف عامل "أفاد 95% من الموظفين أنَّ عملهم بمفردهم هام بالنسبة إليهم، لكنَّ 41% منهم فقط قالوا إنَّ لا مانع عندهم من العمل المشترَك، في حين اضطرَّ 31% إلى مغادرة المكتب لإتمام العمل".

عندما يمرض المزيد من الموظفين، تزيد حالات الغياب، وتذكر مجلة "نيو يوركر" (The New Yorker) أنَّ الشركات التي تعتمد تصميم المكاتب المفتوحة تزيد نسبة مرض موظفيها بنسبة 62%؛ لكنَّها ليست العامل الوحيد الذي يؤدي إلى تأثير الموظفين في تصرفات بعضهم بعضاً، كما تُظهر الأبحاث التي أجرتها جامعة "أوكلاند" للتكنولوجيا (Auckland University of Technology) أيضاً أنَّ المكاتب المفتوحة تؤدي غالباً إلى سلوكات انطوائية.

وجد الباحثون "زيادةً في التبعات الاجتماعية للموظفين العاملين في أماكن العمل المشتركة، وهذا يشمل عوامل التشتيت وعدم التعاون وانعدام الثقة والعلاقات السلبية، والأمر الأكثر إثارةً للدهشة هو تأزم الصداقة بين زملاء العمل وتغيُّر صورة الدعم المُتوقَّع أن يُقدَّم من المشرفين سلباً؛ وذلك لأنَّ الموظفين لا يشعرون كما لو كان لديهم إشراف داعم، إضافة إلى ذلك، يصبح الموظفون في المكاتب المفتوحة في نهاية المطاف أكثر غضباً وشكوكاً وعزلة".

شاهد بالفديو: 7 طرق في التعامل مع العلاقات السلبية

الانشغال عامل مساعد على الإنتاجية:

يقول "كال نيوبورت" (Cal Newport) في كتابه "العمل الحثيث" (Deep Work): "في غياب مؤشرات واضحة لما تعنيه الإنتاجية والفائدة في الوظائف، يستند العديد من العاملين في مجال المعلومات إلى مؤشر صناعي للإنتاجية وهو إنجاز الأمور بطريقة ملفتة".

يواصل "نيوبورت" (Newport) شرحه قائلاً: "إذا أرسلتَ رسائل بريد إلكتروني وأجبتَ عنها دائماً، وإذا نظَّمتَ مواعيد الاجتماعات وحضرتها باستمرار، وإذا كنتَ تثق في أنظمة الرسائل الفورية وغيرها، فستجعلك هذه السلوكات جميعها تبدو مشغولاً، وإذا كنتَ تستخدم الانشغال كبديل للإنتاجية، فقد تبدو هذه السلوكات هامةً لإقناع نفسك والآخرين بأنَّك تؤدي عملك على أتم وجه".

في المكتب المفتوح، يميل المديرون إلى تقييم أعضاء فريقهم استناداً إلى انشغالهم، فعندما يرون الأشخاص على أجهزة حواسيبهم، يظنونهم منهمكين في العمل، بينما ربما يلعبون على الحاسوب أو يتصفحون مواقع التواصل الاجتماعي.

إقرأ أيضاً: فيزياء الإنتاجية: قوانين نيوتن لإنجاز الأعمال

إنهاء الكابوس:

إذا كنتَ تعمل على تصميم حيز عمل جديد لتأسيس مشروع أو عمل تجاري خاص بك، فجرِّب التفكير في بعض البدائل لتصميم المكاتب المفتوحة، والنظام المحوري هو في الواقع مزيج من مكتب مفتوح ومغلق بآن واحد، حيث يتضمن مساحات وممرات مركزية مفتوحة، إضافةً لوجود مكاتب فردية، حيث يُعَدُّ المبنى رقم 20 الخاص بمعهد "ماساتشوستس" للتكنولوجيا (M.I.T) خير مثال للنظام المحوري (وضع العناصر المختلفة على جانبي الخط الرئيس).

ابتكرَ "نيوبورت" (Newport) تصميم مكاتب يدعى "يودامونيا" (Eudamonia) وفيه تنقسم المكاتب إلى خمس مساحات: المعرض، والبهو، والمكتبة، والمكتب، والغرفة، فيجب أن تعبُر كل غرفة للوصول إلى الغرفة التالية. ومع ذلك، يُشجع هذا التصميم على وحدات مكاتب عمل منفصلة لتركيز أكبر، ولا يجب أن يكون ملاذ الكاتب غرفةً معزولةً حرفياً؛ بل يمكِن في الواقع أن يكون أيُّ مكان يمكِنك فيه إنجاز العمل الجاد دون مقاطعة مثل: المقهى في حيك، أو المكتبة، أو حتى حيز صغير في أحد أركان المنزل.

ربما بدَت المكاتب المفتوحة وكأنَّها حلم طوباوي للعديد من رواد الأعمال في العقد الماضي، ولكن أثبتَ أداؤهم في السنوات الأخيرة أنَّها تُضعف الإنتاجية، وسينجح القادة الذين يتطلعون إلى الحفاظ على عقلانية فرَقِهم والعمل على استكشاف خيارات أخرى، كما يُعَدُّ إعطاء الأولوية للتصميم على حساب الأداء الوظيفي طريقةً ممتعة لإدارة الأعمال التجارية، ولكنَّها ليست طريقةً ذكيةً جداً.

 

المصدر




مقالات مرتبطة