تقبل الذات: تعريفه، وأسباب ضعفه، وكيفية تحقيقه

نحن نعيش في مجتمع تنتشر فيه مظاهر شتَّى من اللَّاتقبل الذاتي، فتجد النساء غير المتقبلات لأشكالهن وأجسامهن، بحيث يسعين بكل أشكال السعي للوصول إلى الجسد المثالي الذي يشبه جسد صديقاتهن أو جسد تلك الممثلة المشهورة، حتى تحوَّل المجتمع إلى نسخ كربونية من بعضه بعضاً واختفت كليَّاً تلك الملامح التي تميز كل شخص عن الآخر.



ومن جهة أخرى، بات التركيز على المظهر الخارجي أهم بكثير من التركيز على الجوانب الأخلاقية والروحية، فقد قَرَن معظم البشر قيمتهم بأشكالهم وممتلكاتهم ومناصبهم، فقلَّما تجد مَن يُعرِّف عن ذاته باسمه الأعزل، دون استخدام لفظة "الطبيب، أو المهندس، أو المدرب، أو الاستشاري الفذ"، وقد أصيب كثيرٌ منهم بجلطات دماغية وقلبية لمجرد خسارتهم مناصبهم، أو ممتلكاتهم، وكأنَّ لا قيمة لوجودهم بدون المال والممتلكات والألقاب الرنَّانة.

ينشغل كل المجتمع في مقارنة ذاته بالآخر، الأمر الذي يصيبه بالكآبة والحزن، ويغيب عن باله أنَّ لكل إنسان قصته الخاصة، وأنَّه لا مجال للمقارنة بين قصتين إنسانيتين، ومن جهة أخرى، أثَّرت مواقع التواصل الاجتماعي تأثيراً سلبياً في ارتفاع المعايير البشرية ارتفاعاً غير منطقي، بحيث فقد الإنسان السلام الداخلي؛ لأنَّه غير قادر على الوفاء بتلك المعايير التي وضعها بالاستناد إلى حياة المشاهير.

قدَّم معظم البشر رضا الآخرين على رضا الله، فجاهدوا من أجل كسب رضا الآخرين، غير مكترثين برضا الله، الأمر الذي جعلهم عبيد للآخر، غير قادرين على قول "لا" لكي لا يخسروه، ولا يستطيعون التعبير عن مشاعرهم الحقيقية لكي لا يتسببوا بمشكلات مع الآخر.

يعاني معظم المجتمع من فخ عدم تقبُّل الذات، بدءاً من الحب المشروط الذي يفرضه الأهل على طفلهم الصغير، انتهاءً بتشويه المعايير الخاصة لكل فرد، والتقليد الأعمى للآخر، والبعد التام عن الجانب الروحاني والأخلاقي، والعبودية التامة للقوالب الخارجية، والسعي المفرط إلى كسب الآخر بأي ثمن، والإدمان القاتل لمظاهر المقارنة وجلد الذات.

تقبُّل الذات؛ ماهيته وما هي الأسباب الكامنة وراء ضعف تقدير الذات، وكيف نصل إلى مستوىً عالٍ منه؛ مدار حديثنا خلال هذا المقال.

ما هو تقبُّل الذات؟

هو القدرة على تقبُّل كلا الجانبين المشرق والمظلم في داخلك؛ أي قدرتك على تقبُّل أخطائك قبل إنجازاتك، وعيوب شكلك قبل محاسنك، وضعفك قبل قوَّتك، ويُعدُّ تقبُّل الذات هو الجذر الأساس لكل المشاعر الإيجابية من السعادة والرضا والأمان النفسي.

ما هي الأسباب الكامنة وراء ضعف تقبُّل الذات؟

1. التربية:

يُعدُّ أسلوب التربية المتَّبَع من قِبل معظم الأهل من أهم مسببات ضعف تقبُّل الذات، فالأب الذي يزرع في عقل طفله أنَّه "لا ينفع لشيء"، "غبي"، "لا يستطيع الاعتماد عليه في أي شيء"؛ يُنمِّي لدى الطفل الصغير معتقدات خاطئة عن نفسه، بحيث يكبر في السن وتبقى هذه المعتقدات مرافقة له، معيقة مسار تطوره في الحياة. من جهة أخرى، يؤدي اعتماد أسلوب المقارنة مع الأطفال إلى بناء طفل مشوَّه من ناحية تقبُّله لذاته، على سبيل المثال: تُعدُّ جملة "تعلَّم من ابن خالتك وكن مهذباً مثله؛ ألا ترى الفرق الشاسع بينك وبينه؟"؛ جملة كارثية، تؤدي إلى ضرب ثقة الطفل بذاته.

يميل كثيرٌ من الأهل إلى كبت أطفالهم في سبيل إسعاد الطرف الآخر، فينمو الطفل وهو متبنٍّ فكرة "الآخر أهم مني"، "الأولوية للآخر وليس لي"، الأمر الذي يوقعهم في كثيرٍ من المشكلات والمشاعر السلبية، بحيث يسعَون إلى إرضاء الآخرين على حساب ذواتهم، على سبيل المثال: قد يكبت الأب طفله، ويحرمه التعبيرَ عن رأيه في حال وجود أناس غرباء في المنزل، ويعطي كامل اهتمامه للغرباء بدلاً من أطفاله.

يعطي معظم الأهل مشاعر الحب إلى أطفالهم، ولكنَّه حب من النوع المشروط، الأمر الذي يُضعف من تقبُّل الطفل لذاته، بحيث يشعر أنَّ والديه لن يحبانه ما لم يحقق شروطاً معيَّنة بذاتها، وأنَّه ليس مكتملاً بذاته وليس له قيمة ما لم يحقق معاييراً معيَّنة.

يتصَيَّد الأهل كثيراً من الأخطاء لأولادهم، بحيث ينتقدونهم على الدوام، الأمر الذي يضعف من تقبُّل الأطفال لذواتهم، فهم لا يحصلون على المديح والتشجيع الكافي، ممَّا يجعلهم في حالة جفاف عاطفي، وفريسة سهلة لدى كثيرٍ من المُستغِلِّين.

إقرأ أيضاً: تنمية تقدير الذات لدى الطفل

2. البيئة السلبية:

يؤدي تعاطي الطفل مع أطفال مُتنمِّرين وسيِّئي الخُلُق والقيم، إلى إصابته بكثيرٍ من العقد النفسية، ومنها ضعف تقبُّل الذات، حيث يميل بعض الأولاد إلى تجريح أقرانهم والسخرية الشديدة منهم والنيل من كرامتهم، وهنا على الأهل الانتباه إلى نوعية الأصدقاء المحيطين بطفلهم.

3. الأحكام:

مَن يعشق إطلاق الأحكام على الآخرين؛ هو في داخله شخص يرفض ذاته، وغير متصالح معها؛ ففي داخل الإنسان يوجد الخير والشر، ويوجد الملاك والشيطان، والإنسان المتوازن هو الإنسان القادر على تكامل كِلا الشقين معاً، مَن يعترف بوجود أقصى اليمين وأقصى اليسار في داخله، لا يحكم على الناس ويعيش بتصالح وأمانٍ نفسيٍّ عميق، بينما يُغلِق أبواب الحياة في وجهه كلُّ مَن يرفض الاعتراف بجانبه الشرير، ويعيش في صراعات داخلية كبيرة؛ لأنَّه يرفض قبول تنوع أشكال الطاقة التي في داخله، على سبيل المثال: "مَن يطلق حكماً قاسياً على إنسان يرقص في حفلة ما؛ فيقول عنه "ما هذا السخف، يا له من إنسان بعيد عن القيم والأخلاق"؛ فهو بهذه الحالة قد عبَّر عن رفضه لجزء ما من ذاته، وهو الجزء الراغب في الحرية، والتماهي مع أشكال الحياة، والتعبير الصادق عن الذات، ولن يتمتع هذا الشخص بالسلام الداخلي حتى يتعلَّم الوعي لمسألة الأحكام ويبدأ بعلاج ذاته من الداخل، حيث تظهر كل الحلول من الداخل فقط.

4. مواقع التواصل الاجتماعي:

يؤدي إدمان مواقع التواصل الاجتماعي إلى كثيرٍ من مشاعر رفض الذات، فكلما ازدادت مجموعات الناس التي تتابعها من مشاهير أو غيرهم ازدادت مشاعرك السلبية واضطربَت معايير السعادة لديك إلى حد التشوُّه، حيث ستبدأ بالمقارنة بينك وبينهم، فستجد صديقك على الفيسبوك الذي يمطر زوجته بالهدايا كلَّ يوم، وذلك المشهور الذي يسافر من بلد إلى آخر طوال العام، وتلك الصديقة التي تقود أحدث سيارة، فتقضي بالتالي وقتك في مقارنات قاتلة لا تؤدي إلَّا إلى إضعاف تقبُّلك لذاتك وواقعك، كما ستتشوَّه معاييرك للسلام الداخلي والسعادة في وسط مجتمع عاشق للمظاهر الخارجية والقشور.

5. البعد عن الله:

عندما يبتعد الإنسان عن المصدر الحقيقي للطاقة، ويلجأ إلى استمداد الطاقة من الناس؛ سيصاب حتماً بأعراض ضعف تقبُّل الذات، وذلك لأنَّه يشحن نفسه من المكان الخطأ، فكلما اقترب الإنسان من خالقه، وتأمل في النعم المقدمة إليه ارتفع تقديره لذاته، وشعر بقيمته كإنسان مستقل و كَتجسيد حقيقي لله على الأرض.

إقرأ أيضاً: كيف يُثري حب الله حياتنا؟

6. العلاقات السامة:

قد يؤدي اختبارك لعديدٍ من العلاقات السامة إلى إصابتك بضعف تقبُّل الذات، فلقد اعتدتَ على تطفل الآخر عليك، وتنازلتَ عن حدودك الشخصية وحقوقك في سبيل إسعاد الآخر، وتماديتَ في قول كلمة "نعم" لدرجة عدم قدرتك على قول "لا" تحت أي ظرف.

7. ضعف المهارات:

يؤدي عدم تفعيل نقاط قوَّتك إلى إصابتك بضعف تقبُّل الذات، حيث يؤدي سعيك للتطور والارتقاء المستمر إلى زيادة ثقتك بذاتك، وتقبُّلك لها.

8. السعي للمثالية:

يؤدي سعيك المفرط للمثالية، مع رفضك القاطع الوقوع في أخطاء؛ إلى إصابتك بضعف تقبُّل الذات، لأنَّك تعاند الطبيعة البشرية القائمة على أنَّ "الإنسان كائن خطَّاء". ليس الضعف أن ترتكب الأخطاء؛ بل الضعف هو ألَّا تتعلم من أخطائك.

9. تشوُّه مفهوم تقبُّل الذات:

يعتقد بعض الأشخاص أنَّ تقبُّل الذات العالي ضَرْبٌ من ضروب الأنانية، لذلك يبقون في حالة من التقبُّل المنخفض للذات بحجة كرههم للأنانية، في حين أنَّ الأنانية مختلفة تماماً عن تقبُّل الذات، فهي تقوم على التمركز حول الذات وتحقيق مصالحها مع عدم مراعاة مصالح الغير، فلن يمانع الشخص الأناني من أذية الأشخاص الآخرين في مقابل تحقيقه لما يريد، في حين يسعى مَن يملك تقبلاً عالياً إلى إسعاد ذاته والآخر، وتحقيق مصالحه فيما لا يتعارض مع مصالح الغير.

كيف أتقبل ذاتي؟

1. الاعتراف:

اعترِف بإنسانيتك، وكن طبيعياً، ولا تُعطِ الأمور أكبر من حجمها، وتقبَّل أخطاءك، فهي المعلِّم الأول لك، وتقبَّل الملاك والشيطان الذي بداخلك، وابتعِد عن الأحكام، وانشغِل بذاتك فحسب.

2. الأولوية:

أعطِ الأولوية لنفسك في كل شيء، ولا تتنازل عن حقوقك، واعلم أنَّك إن لم تحب ذاتك وتقدِّرها فلن يقدِّرك أحد، وعَبِّر عن كل ما يجول في داخلك من مشاعر، وكن واضحاً وحقيقياً وشفافاً.

شاهد بالفيديو: 8 نصائح لتحب نفسك وتمنحها حقها

3. القيمة:

أنت القيمة بحد ذاتك، فيكفي أنَّك صورة الله على الأرض لتكون كائناً مُكرَّماً ورائعاً، لذلك لا تنتظر على المنصب أو المجاملات المجتمعية أو الشهادات العلمية أن تمنحك قيمتك. تحرَّر من القشور واهتمَّ بالجوهر والمضمون.

4. الطلب:

تعلَّم لغة الطلب، ولا تخجل من الدفاع عن حقك، ومن رسم حدودك الشخصية، ومن الطلب من الآخرين احترامها وعدم المساس بها، وعَبِّر عن كل ما تشعر به بمنتهى القوة والجرأة.

5. الثقة بالله:

تأكد أنَّ تقبُّلك لذاتك نابع من ثقتك بالله ومن حسن الظن به، فعندما تسعى ضمن المتاح أمامك مع تسليم النتائج إلى رب العالمين؛ عندها ستشعر برضا وتقبُّلٍ عالٍ للذات.

6. المكافأة:

قارِن نفسك بنفسك، ولا تقع في فخ المقارنات مع الآخرين، فلكل شخص في العالم قصته الخاصة وظروفه وقيمه ورسالته، وكافئ نفسك بما يليق بها، كأن تهدي نفسك هدية بعد كل إنجاز تقوم به مهما كان صغيراً.

الخلاصة:

كن أنت، ثِق بـمهاراتك وقدراتك، وعزِّز صورتك الذهنية عن نفسك، واعترِف بأخطائك وتعلَّم منها، وأحسِن الظن بالله، وانشغِل في تطوير ذاتك، وابنِ رسالتك الخاصة، ودعك من الآخرين؛ عندها ستصل إلى مستوىً عالٍ من التقبُّل الذاتي.

 

المصادر: 1، 2، 3، 4، 5




مقالات مرتبطة