الكتمان أو الكبت في علم النفس: تعريفه، وأسبابه، وأعراضه، وطرق علاجه

لم تُؤخَذ إنسانيتنا في عين الاعتبار في أثناء التربية؛ فعوضاً عن الاعتراف بالأطفال ككائنات حساسة ورقيقة وحرة، تعرضوا إلى أكثر الأساليب قساوة وبعداً عن المشاعر، حيث صُدِّرت إلبهم معلومات كارثية مفادها أنَّ التعبير عن المشاعر ضرب من ضروب الضعف والمهانة، وأنَّ البكاء إثم عظيم، والحب رذيلة.



هذا ما هو إلَّا تناقضات خطيرة وتغيير جوهري يعبث في مضامين الحلال والحرام آتٍ من تشوهات فكرية معرفية، وليس من حقائق علمية؛ فقد حُورِبت الفطرة السليمة للطفل، وقُيِّدت حريته، وانتُهِكت خصوصيته وحقوقه؛ فطُلِب منه أن يكون آلة لا روح فيها، ولا تعترف بالمشاعر والتفاصيل الإنسانية.

لقد أصبح كتمان المشاعر والأفكار أسلوب حياة في مجتمعنا، معتقدين أنَّه ميكانيكية دفاعية توفِّر علينا عناء التعبير والإفصاح والمواجهة، وتحافظ على وجود الأشخاص في حياتنا.

نعم، لقد احترفنا ثقافة التأجيل، فلم يأخذ "حوارنا الصادق مع ذاتنا" مكاناً ضمن أولوياتنا، وتجاهلنا دواخلنا بطريقة مؤذية، وهرعنا إلى إرضاء الناس والصورة المجتمعية على حساب ذاتنا وصحتنا النفسية؛ هكذا إلى أن تحول معظمنا إلى أناس منافقين يُظهرِون عكس بواطنهم، ومشوَّهي الهوية والوجهة.

عندما نحمل معنا آهاتنا وآلامنا وتجاربنا المؤلمة وصدماتنا النفسية وذكرياتنا الصعبة، ونتجاهل وجودها تماماً عوضاً عن الاعتراف بها ومعالجتها المعالجة الصحيحة، ولا نعبِّر عنها، ونمضي قدماً في حياتنا معتقدين أنَّنا قد تحررنا من سمومها، إلى أن يأتي اليوم الذي ننصدم فيه بأنَّها باقية ومترسبة في لاوعينا، ومسيطرة على كل تفصيل من تفاصيل حياتنا، ومتحكمة بمعظم قراراتنا ومساراتنا؛ سنقف مع أنفسنا دقيقة صمت، مستدعين ذلك الشريط نفسه من الأحداث التي لم نُعطِها فرصة الظهور والتجلي، بل قمعناها وجردناها من قيمتها.

سيطفو كل شعور مكبوت على السطح يوماً ما؛ إذ لا يحتمل الإنسان كل تلك المدخلات من الأحداث والمشاعر دون أن يكون هناك آلية للمعالجة والتفريغ، وسيعرِّض اعتماد سياسة التحميل الإنسان إلى الانفجار يوماً ما لا محالة، ويخسر حينها كل ما خَشِي فقدانه طوال حياته.

ما هو الكتمان أو الكبت النفسي؟

آلية نفسية دفاعية يمارسها الإنسان كوسيلة للهرب من مواجهة مشاعره السلبية، أو خوفاً من خسارة أشخاص مقربين منه في حال مصارحتهم بخصوص مواقف قاموا بها، أو انصياعاً إلى خلفية تربوية قاسية لا تأبه بالمشاعر وتطالب الطفل بالجمود والحزم.

يخلق غياب التفريغ السليم للمشاعر والأفكار الضاغطة، وإبقائها في ركن عميق من الذات النفسية، وتبنِّي سياسة "الوجه الاسمنتي" و"القلب المتجمد" شخصاً يعاني من الكبت النفسي.

قد يكون لكبت المشاعر السلبية جانب إيجابي في بعض الحالات، كأن يعطيك فترة لكي تعيد ترتيب أفكارك، بحيث لا تتسرع بأحكامك ومعالجتك للأمور؛ ولكنَّ الكبت المبالغ فيه قد يتحول إلى أسلوب حياة يهرب الإنسان فيه من مواجهة الأحداث السلبية ويتجاهلها، معتقداً أنَّه بذلك قوي ومسيطر؛ وهذا أمر ضار تماماً، وهو بمثابة سم قاتل للإنسان.

ما أسباب الكتمان (الكبت) النفسي؟

1. التربية القاسية:

ماذا تتوقع أن يكون سلوك الشخص الذي تربى على أفكار مثل: "لا تبكي، فالبكاء للضعفاء فحسب"، أو"لا تعبِّر عن مشاعرك، إذ سيوحي هذا الأمر للآخرين أنَّك ضعيف وهش"، أو "الحب عيب وحرام"؟

تُزرَع أفكار كثيرة في عقولنا منذ صغرنا، وتصبح المسيطرة على كل تفاصيل حياتنا، ويكبر الطفل الذي تربى على كبت مشاعره معتمداً هذا الأسلوب في حياته. مَن ينشأ على فكرة أنَّ الخطأ من المحرمات، وأنَّ عليه أن يكون مثالياً؛ يلجأ عندما يكبر إلى النفاق والكذب عند قيامه بأمر سلبي، ويتجاهل مشاعر الذنب التي يشعر بها بعد قيامه بخطيئة ما؛ فقد أثَّرت تربيته سلباً في مستقبله وشخصيته.

يغدو الشخص الذي نشأ في بيئة غير متوازنة وأُشبِع بأفكار غير واعية تشجع على الكبت وتقمع حرية التعبير عرضة إلى الإصابة بتناقضات وتخبطات واضطرابات كثيرة.

إقرأ أيضاً: معلومات هامة عن ضعف الشخصية عند الأطفال

2. المبالغة بالاعتداد بالنفس‎:

يقع الكثير من الأشخاص في وهم الغرور وحب الذات، ويقضون حياتهم في محاولة لتفخيم صورتهم المجتمعية، الأمر الذي يُعرِّضهم إلى الإصابة بالكبت النفسي؛ فهم لا يستطيعون التعبير عن دواخلهم بمنتهى الحرية، لكونهم مكبلين بالمعايير المجتمعية وكلام الناس ونظرتهم عنهم.

يُفقِد كلٌّ من التركيز الشديد على المظهر الجدي والرصين، والتمسك المبالغ فيه بالصورة المثالية، والميل إلى الكلام المحسوب والمدروس بدقة كبيرة؛ يُفقِد الإنسان عفويته، ويحوِّله إلى روبوت بلا روح.

3. السعي إلى منطقية الأشياء بطريقة مبالغ فيها:

يميل الكثير من الأشخاص إلى التقليل من شأن المشاعر في حياتنا، معتقدين أنَّ المشاعر والحديث عنها أمر ثانوي لا يستحق الذكر، ومن الأولى الاهتمام بالعمل على حساب المشاعر؛ الأمر الذي يحرِّض على اتباع سياسة الكبت والتجاهل المؤذي للمشاعر والمكنونات الإنسانية.

إنَّ العلاقات والتواصل مع الآخرين والتعبير عن المشاعر بكل أنواعها أساس الحياة وجوهرها، ويستطيع الشخص المتوازن نفسياً والحر في التعبير عن مشاعره وأفكاره العمل لساعات طويلة، في حين تَضعُف قدرة الشخص الحزين على الإنتاج والأداء؛ ونستنتج من هنا أنَّ المشاعر هي التي تقودنا، ولا يجوز كبتها أو السعي وراء جعلها منطقية.

4. التجارب السلبية المتكررة:

يؤدي تعامل الشخص مع أشخاص سلبيين إلى تبنِّيه لأفكار تجنبية نوعاً ما، كأن يؤمن أنَّ الثقة بالآخر باتت معدومة، ولا يعبِّر عن مشاعره لأي أحد، ويميل إلى الكبت والكتمان.

إقرأ أيضاً: 7 طرق للتعامل مع الأشخاص السلبيين

ما أعراض الكبت النفسي؟

1. البعد عن الذات الحقيقية:

يميل الشخص الذي يعاني من الكبت إلى عبودية نظرة الناس، ونسيان ذاته وحقوقه؛ فهو دائم الهرب من نفسه ومشاعره، ودائم السعي إلى كسب رضا الآخر، لا إلى كسب رضا ذاته.

2. إدمان السلوكات القهرية:

الكتمان والكبت النفسي عبارة عن تجميع متراكم للكثير من الضغوطات النفسية دون محاولة التعبير عنها ومعالجتها، وسينفجر الضغط والإجهاد الهائل الناتج عن ذلك الكبت بشكل من الأشكال غير المتوازنة؛ مثل السلوكات الإدمانية التي يلجأ إليها الشخص باللاوعي كوسيلة لتفريغ الكم الهائل من التراكمات النفسية السلبية التي لا يعلم بوجودها في عقله، والذي اعتقد خاطئاً أنَّ تجاهلها قد يفي بالغرض.

من السلوكات الإدمانية:

شاهد بالفيديو: 7 خطوات للتخلّص من إدمان وسائل التواصل الاجتماعي

حيث يشعر الإنسان برغبة شديدة وملِّحة في القيام بالأمر السلبي، ولا يستطيع السيطرة على سلوكاته مطلقاً؛ مع العلم أنَّها تعيقه عن أداء كل نشاطاته، وتترك أثراً سلبياً في كل مفصل من مفاصل حياته.

3. الأمراض الجسدية:

أثبتت الدراسات أنَّ الكبت النفسي أحد أهم العوامل المساعدة على تشكل الأمراض العضوية العصرية؛ مثل: مرض الضغط، والسكري، وأمراض القلب، والقولون العصبي، والصداع، وصعوبات التنفس، والتهابات المعدة.

4. الأعراض النفسية:

يشعر مريض الكبت النفسي بمشاعر الخوف والقلق الدائم، فهو غير مستقر من الداخل، ويميل إلى الحساسية الزائدة والعصبية المبالغ فيها على أتفه الأسباب؛ وذلك لأنَّ الوعاء الداخلي خاصته لا يُفرَّغ؛ لذا يسلك سلوكات غير سوية في تعاطيه مع الآخرين، فتجده يميل إلى النفاق الاجتماعي، وعدم الإفصاح عن نواياه الحقيقية خوفاً من خسارة من هم حوله، ورغبةً في تعزيز صورته الاجتماعية دون الاكتراث بذاته الداخلية وقيمه.

إقرأ أيضاً: كيف تتخلص من المشاعر السلبية في 15 دقيقة

ما علاج الكبت النفسي؟

  1. تقرَّب إلى ذاتك، فهي أصدق وأوفى مخلوق في حياتك؛ لذا امنحها اهتمامك وشغفك ووقتك، وأنصِت إلى آلامها، وكن صادقاً في حوارك معها.
  2. التجارب السلبية فرصة حقيقية لكي نتطور ونرتقي؛ لذا يجب أن نعترف بوجودها، ونكتشف الدروس المستفادة منها، وألَّا نتجاهلها وكأنَّها غير موجودة في حياتنا.
  3. لكي تبني عادة التعبير عن مشاعرك وأفكارك وتتخلص من الكبت والهروب، استعن بالورقة والقلم، وابدأ كتابة خواطرك الشخصية، وعبِّر بصدق عمَّا تشعر به؛ إذ ستكون الكتابة بمثابة وسيلة تفريغ رائعة للترسبات السلبية، وبداية قوية لخطوات لاحقة، كالقدرة على الانخراط في المجتمع، والتعبير الصريح والواضح ضمن جماعة من الناس، واستعادة الثقة بالذات والحياة.
  4. خُذ الجانب الإيجابي من الكبت، فهو يعلِّمك الثبات الانفعالي والقدرة على التفكير ملياً قبل اتخاذ القرار؛ ولا تأخذ جانبه السلبي القائم على تجاهل المشاعر تماماً، وتراكمها إلى حين الوصول إلى مرحلة الانفجار والإصابة بالأمراض النفسية والجسدية.
  5. سامح دوماً، فلا يوجد خصلة تُطهِّر القلب والروح كالتسامح؛ وتعلَّم تسليم الأمور إلى رب العالمين، فهو الأعلم والأصلح والأكثر حكمة؛ وبسِّط حياتك، واجعلها عفوية وصادقة وثرية.
  6. اكسرالروتين، ومارس أنشطة مختلفة كالرياضة، والرقص، والموسيقى، والكتابة، والرسم، والغناء؛ حيث تساعد هذه الأنشطة على تفريغ الكم الكبير من الترسبات النفسية السلبية.
  7. كفاك تأجيلاً لحل كل الأمور العالقة، وتفضيل الكبت على المواجهة والمصارحة؛ وكن شجاعاً وواجه وعبِّر عمَّا يزعجك، وضع حدودك الخاصة، واحترم حدود الآخرين.
  8. لا تجعل الغرور وحبَّ الذات يسيطران عليك، ويقلبان حياتك رأساً على عقب، ويجعلان الكبتَ أداة تواصلك مع الحياة؛ بل كن متواضعاً وشاكراً ومحباً وشفافاً وعميقاً.
إقرأ أيضاً: الثبات الانفعالي: أنواع الانفعالات والتحكم بها

الخلاصة:

القبول هو البداية لحل أي مشكلة على وجه الأرض؛ لذلك تقبَّل الفطرة الإنسانية التي فُطِرنا عليها، وراقب الأطفال، وانظر كيف يعبِّرون عن مشاعرهم بمنتهى الصدق والحرية، واستعد فطرتك السليمة ونقاءك الداخلي وحريتك المنسية؛ إذ تستطيع من خلال ذلك استعادة شغف حياتك.

 

المصادر: 1، 2، 3، 4، 5، 6




مقالات مرتبطة