القيادة والمؤسسات غير الربحية: استراتيجيات النمو

تُعدُّ المؤسسات غير الربحية ومؤسسات المجتمع المدني، عماد الحياة داخل أي مجتمع مهما كانت قدراته وثراؤه، وكذلك لا تخفى أهميتها بالنسبة إلى الدول مهما كانت ثرية وذات ثروات هائلة؛ حيث يرجع ذلك إلى أهمية الدور الذي تقوم به هذه المؤسسات من جهة، فضلاً عن كثرة الالتزامات وتعدُّد المسؤوليات المنوطة بمؤسسات الدولة من جهة أخرى، والتي لا بدَّ من أيادٍ مساندة لها تنشط في الميدان الاجتماعي والخيري.



من الفعل إلى المبادرة:

لم تعد أدوار المؤسسات غير الربحية والخيرية تقتصر على الرعاية الاجتماعية لذوي الاحتياجات الخاصة، ومساعدة الأيتام والمحتاجين وغيرهم من المكفولين، بل أصبح يتعدى هذا الدور إلى أدوار أكثر عمقاً لخدمة المجتمع. ومن ضمن هذه الأدوار التي قد تغيب عن هذه المؤسسات، أو تمارسها بشكل ثانوي، هي رعاية المبادرات المجتمعية الفعَّالة والمبتكرة، والعمل على ابتكار حلول جديدة لاستكشاف مشكلات المجتمع والعمل على حلها.

لذا يجب على هذه المؤسسات أن تنطلق من كونها مؤسسات مجتمعية، يقتصر دورها على إغاثة المحتاجين وتقديم العون لهم، إلى مؤسسات تنموية تركز على كل ما فيه تنمية الإنسان، والانتقال به من حالة الأخذ إلى العطاء، وتحويله إلى عنصر فعَّال ومنتج في المجتمع.

القيادة، عناصر تميُّز:

تتميز هذه المؤسسات فضلاً عمَّا سبق، بعناصرها القيادية، الذين ينطلقون وفق قناعات كبرى وإسهامات قوية تعتمد على نفعٍ للبشرية جمعاء، وهذا يتطلب منهم مهارات قيادية وقدرات خاصة تجعلهم على قمة هرم العمل الإداري والقيادي.

والدليل على ذلك، أنَّنا نجد من هم على رأس الابتكار والمال، حينما يصلون إلى قمة الهرم المالي والاقتصادي والإداري، ينتقلون بشكل لا إرادي إلى تأسيس مؤسسات غير ربحية، ويكونون على رأسها يشرفون عليها بأنفسهم. ويُنظر إلى هذا النوع من المؤسسات، على أنَّها أكبر مؤسسة خاصة في العالم بأصول تبلغ أكثر من 46 بليون دولار.

وتتمحور أهداف هذه المؤسسات في تعزيز الرعاية الصحية، والحد من الفقر، وزيادة فرص التعليم؛ حيث تصنف نفسها على أنَّها واحدة من رواد العمل الخيري الاستثماري، أي كمؤسسة تجارية ولكن غير ربحية، تعمل على التنمية العالمية في مجالات التعليم والمساعدات المالية، والتنمية الزراعية ورعاية المبادرات العالمية.

وفي عالمنا الإسلامي، لدينا مؤسسات وقفية وتنموية وخيرية تقوم بأعمال عظيمة، من رعاية الأيتام والاهتمام بمجالات الصحة والتعليم ورعاية المبادرات، ولكن يظلُّ الأمر بحاجة إلى ضخ المزيد من القيادات والكوادر التي تحتاج إلى إدارة هذه المؤسسات بالكفاءة والفعَّالية المطلوبة.

شاهد بالفديو: القوانين الثمانية للقيادة

استراتيجيات نمو المؤسسات:

1. الرؤية والرسالة:

من أهم ما يجب العمل عليه لدى هذه المؤسسات هو رسالة ورؤية المؤسسة، فهما الانطلاقة الأولى التي يجب أن يسير الجميع خلفها، كما أنَّهما كالرأس من الجسد. فتلك المؤسسات وُجدت لتؤدي دوراً عظيماً على الصعيد المحلي والعالمي، وتوصل رسالتها بإحداث أثر إيجابي في المجتمع ككل.

يُعدُّ قادة هذه المؤسسات، الموجِّه والمحرك لهذه الرسالة، والحامل لمشعل الرؤية المرشدة والملهمة، وعلى هؤلاء القادة العمل على ترسيخ مفاهيم الرؤية والرسالة لدى جموع العاملين في هذه المؤسسات، فهم حاملو لوائها، للعمل على تحقيقها.

ودائماً ما تُقاس المؤسسات بنتائجها وإنجازاتها؛ لذلك ينبغي عليها أن تنطلق من الخارج إلى الداخل، أي أن تضع أهدافها وأولوياتها بتحديد الأماكن المناسبة لتوجيه مواردها، ثم إنَّ عليها ترتيب أولوياتها ووضع أهداف واضحة، ومحددة، ومُقسَّمة إلى أهداف قصيرة ومتوسطة وبعيدة الأمد؛ حيث لا يمكن الوصول إلى الأهداف بقفزة واحدة، ولا بخطوة وحيدة، بل بمجموعة خطوات من شأنها تحقيق النتائج المرجوة بأفضل طريقة ممكنة. ويقع عبء هذا الأمر على عاتق القيادة الفعَّالة، فالقادة هم من يرسمون مسار هذه المؤسسات غير الربحية، التي تعتمد بشكل أو بآخر على المتطوعين والجهات المانحة.

إذاً، على القيادة الإيمان بفكرة الاستثمار الخيري، وتعزيز مسار العمل الإداري المبني على الكفاءة، وهي فعل الشيء الصحيح بالطريقة الصحيحة، ويتطلب الأمر المزيد من التركيز على رسالة ورؤية المؤسسة، والتأكد من أنَّنا ماضون على المسار الصحيح لتحقيق الغايات والأهداف التي تضمن ديمومة واستمرارية هذه المؤسسات.

إقرأ أيضاً: ما مدى أهمية "الرؤية" بالنسبة إلى قادة الأعمال؟

2. الأولويات:

قد يبدو للوهلة الأولى أنَّ تحديد الأولويات أمر سهل المنال؛ لكن على العكس من ذلك، نجد أنَّ تحديد الأولويات يحتاج إلى مهارات فذة من خلال القدرة على التفكير والتخطيط الاستراتيجي، واتخاذ القرارات وحل المشكلات؛ إذ إنَّ اتخاذ قرار تحديد الأولويات المعتمد على الموارد لتوجيهها إلى الحاجات العاجلة أو الآجلة، يُعدُّ أمراً صعب المنال ويحتاج إلى عمل مضنٍ.

لذا يجب على القائد الحقيقي داخل المؤسسة أن يعي أنَّه صانع مستقبل المؤسسة وليس مُسيِّر أعمال؛ مما يجعله يقف وقفات يومية سائلاً نفسه، ما الواجبات التي يجب أن أقوم بها، وما المعايير التي يجب أن أضعها للمؤسسة حتى أرتقي بها؟ وما ينبغي عليَّ القيام به، لتمكين المؤسسة من مواجهة التحديات وتجاوز العقبات؟ ليس هذا فحسب، بل اغتنام الفرص وابتكار طرائق ووسائل جديدة من شأنها الارتقاء برؤية ورسالة المؤسسة.

استراتيجيات تطوير الأعمال:

ينبغي على المؤسسات غير الربحية والخيرية والمجتمع المدني أن تهتم بالاستراتيجيات الفعَّالة لتطوير الأعمال، وذلك لتنطلق من مجرد رسالة ورؤية مكتوبة في الكتيب التعريفي للمؤسسة، إلى واقع تنفيذي على الأرض يظهر أثره للجميع.

لذا ينبغي أن تنتقل استراتيجية المؤسسات غير الربحية من مجرد تقديم الخدمة، إلى قياس مدى رضا العملاء عن الخدمة وظهور أثرها في المستفيدين، لتحقيق جملة من المكاسب من أهمها زيادة ثقة المانحين بجهود المؤسسة على أرض الواقع، وتحقيق المصداقية والثقة المطلوبة بين الجميع؛ حيث يتطلب هذا الأمر وضع مجموعة من الاستراتيجيات، وهي:

1. استراتيجيات التسويق:

والتي تكون مبنية على رضا العملاء؛ حيث إنَّ العمل على تحديد العملاء سواء متعاملين أم مانحين، يجعل الأمر على رأس أولوياتها.

2. استراتيجيات الابتكار:

من خلال تقديم خدمات ومشروعات نوعية وقيادة مبادرات، والعمل على إبراز حاجتها والنتائج التي يمكن تحقيقها للمانحين؛ حيث إنَّ التركيز على الطرف الآخر والاهتمام بحاجاته، يختصر الوقت ويحقق النتائج المرجوة.

3. استراتيجيات التطوير:

والذي يقوم على قياس الفجوة بين الأداء الفعلي والمتوقع، وتحديد الأسباب والخروج بتوصيات، ومن ثم الانتقال من الرؤية إلى التنفيذ، والعمل على تطوير حقيقي للأعمال.

4. استراتيجيات التدريب:

تُعدُّ استراتيجيات التدريب ضرورة ملحَّة يجب ألَّا تتوقف لدى المؤسسات غير الربحية، فالتدريب الذي يعني تغيير قناعات، وإكساب مهارات، وتعديل سلوك، هو التدريب المراد، وليس التدريب الجاف أو العشوائي، الذي لا يعدو كونه مجرد إعطاء نصائح وسرد قصص وحكايات فقط لا غير.

لذا ينبغي على القادة في المؤسسات غير الربحية تبنِّي استراتيجية تدريب عملية، تنقل الموظفين من مستوى إلى مستوى آخر فيما يخدم مصلحة العمل. ويتم ذلك من خلال الممارسة العملية وإعطاء الفرص أمام الموظفين، لتطبيق ما تعلَّموه من استراتيجيات وخبرات على مستوى العمل. وهنا من الممكن القول إنَّ هذه المؤسسات قادرة على صناعة قادة مؤثرين قادرين على صناعة الحدث وقيادة الابتكار.

4. استراتيجية الأداء المتوازن:

تسعى جميع المؤسسات غير الربحية إلى تحقيق رسالة واحدة، وهي قيادة التغيير على مستوى الفرد والمجتمع نحو الأفضل، وهذا التغيير يختلف من مستفيد إلى آخر، ومن اهتمام إلى آخر؛ لذا يجب على المؤسسات غير الربحية العمل على إدارة الأداء وتحديد معايير لقياس هذا الأداء، وخير معيار هو التنفيذ الصحيح لتحقيق النتائج المرجوة؛ حيث إنَّ القاعدة تقول: ما لا يمكن قياسه لا يمكن إدارته.

وعلاوة على ذلك يجب العمل أيضاً على التوفيق بين ميزات المؤسسة ورسالتها، وقيمها وقيمتها، من خلال تحويل السياسات الجيدة والقرارات الصحيحة إلى إجراءات فعَّالة.

5. استراتيجية العلاقات:

تقوم المؤسسات غير الربحية على أساس العلاقات، سواء بين الأفراد أم المؤسسات، وتكمن أهمية هذه الاستراتيجية في إحداث توازن حقيقي في إدارة الأفراد الشخصية والعلاقات الاجتماعية على مستوى الأشخاص والمؤسسة، من خلال تحقيق الرضا الوظيفي، والإنجاز والاعتزاز بما يقومون به من عمل نبيل.

6. استراتيجية التحسين المستمر:

ينبغي على المؤسسات غير الربحية تبنِّي وفرض سياسة التطوير الذاتي لدى منتسبيها، وبالأحرى لدى قيادتها؛ إذ إنَّ القائد هو من يقود المؤسسة نحو الإنجازات والنتائج، وعليه أن يطوِّر من ذاته كإنسان في المقام الأول، ومن ثم كقائد بالبحث عن نقاط قوَّتهم، والعمل على تعزيزها، ومعالجة نقاط ضعفهم وقصورهم. فالقيادة تحتاج إلى خطين متوازيين هما التطوير والتحسين المستمر، إضافة إلى التغيير، وهو العمل على إحداث تغيير ملموس في المكان بشكل مبتكر.

إقرأ أيضاً: 5 خصائص استراتيجية لتطوير القيادة الناجحة

في الختام:

العبرة ليست بأن تصبح شخصاً عظيماً الآن، بل أن تصبح شخصاً ملتزماً وأكثر فاعلية، وإنساناً أكثر من أيِّ وقت مضى.

 

كتابة: د. إسماعيل بكر / استشاري التدريب والتطوير الإداري والقيادي / خبير اللغة الألمانية




مقالات مرتبطة