في ظلِّ الظروف المناسبة، يمكن أن يكون فريق العمل أكثر إبداعاً بشكلٍ ملحوظ مقارنةً مع عمل كلّ عضوٍ في الفريق لوحده، وغالباً ما يكون الفريق أكثر قدرةً على دفع الأفكار الإبداعية حتَّى ترى النور على شكل ابتكاراتٍ وإبداعاتٍ على أرض الواقع، من خلال عملية التنفيذ. تعمل مزيدٌ من المنظمات على تشكيل فرقٍ لتولّي مسؤولية المشاريع المبتكرة، وأحياناً لمعالجة المشاكل المستعصية التي لا توجد لها إجاباتٌ مباشرة ووحيدة.
السؤال الذي نسعى إلى الإجابة عنه من خلال السطور التالية: كيف نُشجّع الإبداع في فرق العمل في مؤسساتنا الحديثة؟ وما هي الأُسس التي تدفعنا نحو الابتكار العظيم؟
هناك الكثير من الطرائق التي يمكننا من خلالها الابتكار في مكان العمل، وجعله أكثر تحفيزاً للإبداع المتدفق. علينا فقط أن نعطي فِرَقَنَا الحرية والثقة لاستكشاف طرائق لتنفيذ ما يقومون به بشكلٍ أفضل.
وهنا نتطرَّق إلى مجموعةٍ من العوامل التي تُعزِّز الإبداع في مؤسساتنا:
1. الحرص على التنوّع في الفريق:
هل سبق أن رأيت سلَّة فواكه لا تحتوي إلَّا على البرتقال؟ رغم أنَّ البرتقال مصدرٌ غني للفيتامينات، لكنَّنا نرغب دائماً بسلة فواكه منوعةٍ ومتعددة الأصناف. وكذلك فرق العمل، فعندما تربط الفرق الأفكار من سياقاتٍ مختلفةٍ تماماً، فإنَّها تبتكر شيئاً جديداً.
يتمثَّل دور القائد ببناء فريقٍ متنوعٍ ومن ثمَّ رعاية تنوعه، حتَّى يتعلَّم الأفراد كيفية تقويم أصالة الإبداع وكسب الثقة، لجلب وجهات نظرٍ فريدةٍ إلى الطاولة؛ وأيضاً بدعم الجهود الجماعية وتقدير التميز الفردي؛ وبأن يكون قادراً على إدارة اختلاف الآراء بشكلٍ متوازن.
سيكون بناء فريقٍ متنوعٍ ومتعدد الوظائف أسهل عندما تسمح لأعضاء الفريق بالمشاركة في عملية اختيار الأعضاء الجدد، إذ يسمح هذا لهم باختيار المرشحين الذين يتناسبون مع ثقافة الفريق، والذين لديهم قيمٌ مماثلة. تفخر الفرق المتنوعة بتقديم مساهمةٍ إيجابيةٍ ومشتركةٍ في الأهداف العامَّة للمؤسسة، لذا عندما تريد فريقاً مبدعاً للعمل على أفكارٍ جديدة، لا تقتصر على أشخاصٍ من التخصص نفسه، بل احرص على جلب أشخاصٍ من أقسامٍ مختلفة، أو من خلفياتٍ متنوعة. يوفِّر تنوعٌ أكبر من أعضاء الفريق مجموعةً أوسع من الخبرة والمهارات وأنماط التفكير، وينتج عن ذلك مستوى أعلى من الإبداع.
2. التشجيع الجماعي، وتقدير الجهود الفردية:
عندما ترعى التنوع بين الفرق والأفراد، وتسمح لهم باستكشاف أفكار ومفاهيم جديدة، فأنت تعمل على تنمية منظَّمةٍ شبكية، حيث أنَّ المنظمات الشبكية مبنيةٌ على الاعتقاد بأنَّ كلَّ فردٍ لديه القدرة والحقُّ في التعاون والابتكار وحلِّ مشاكل المنظمة. يحفِّز القادة الفرق والأفراد على العمل معاً، ولكن أيضاً على تحقيق النجاح على أساس الجدارة الفردية.
عندما نستبدل النظام الإداري الهرمي التقليدي، نبدأ ببيئة عملٍ تُعزِّز التعاون وريادة الأعمال. في هذه البيئة، يُفسَح المجال للأدوار الفردية لتأخذ دورها، والتي تسمح للفرد بإنشاء الدور الذي يريده طالما استمرَّت نتائجه في تحقيق الهدف المنشود من المنظمة. للحفاظ على الدافع والمستوى العالي من المساهمة، يجب على القادة تقديم التغذية الراجعة المنتظمة، والاعتراف بمساهمات الموظفين، وجعل ذلك على رأس قائمة الأولويات.
احرص على مكأفاة الفريق وليس الأفراد؛ فإذا عرضت على الفريق بأكمله مكافأةً لأفكاره الإبداعية، فستحفِّزهم للعمل معاً كفريقٍ على ابتكار وتطوير أفكارٍ إبداعية، والفوز بالمكافآت؛ لأنَّه عندما تكافئ الأفراد داخل الفريق على أفكارهم الإبداعية، فإنَّهم يحافظون على التصرُّف بأنانيةٍ من أجل الفوز بالمكافآت.
وفي أحسن الأحوال، قد يتضمَّن ذلك -على الأرجح- إخفاء المعلومات عن زملائه من أعضاء الفريق؛ وفي أسوأ الأحوال، قد يتضمَّن سرقة الأفكار والخداع والمراوغة. من المؤكَّد أنَّه سيؤدِّي إلى مشاعر سيئةٍ عندما يرى الناس زملاء الفريق يكافؤون بينما هم ليسوا كذلك؛ وهذا يغذِّي الأنا والذات العليا لدى أعضاء الفريق.
3. الاعتماد على الجدارة:
يستخدم القادة طرائق مختلفةً لتقدير الإنجازات الفردية وتقديم الملاحظات بشكلٍ منتظمٍ إلى فرقهم والأعضاء. يجب أن يدرك القادة أنَّ التقدير ليس دائماً الأكثر فاعليةً عندما يتدفق من أعلى إلى أسفل؛ بمعنى آخر: في أحيانٍ كثيرة، يكون التقدير من القيادات مشوباً بالمجاملات الإدارية، وجزءاً من الروتين، ودوراً تقليديَّاً يقوم به القائد.
يُثبِتُ الواقع أنَّنا نقدِّر إطراء أقراننا أكثر ممَّا نقدِّر الإطراء من القيادة، وخاصةً أنَّ القائد لم يشارك كثيراً أو لم يطلع على تفاصيل المشروع، فيأتي الإطراء باهتاً وغير مؤثِّر. بينما يُحفِّز التقدير من الزملاء الأفراد كثيراً؛ فالزملاء على اطلاعٍ تفصيليٍّ بأدوارهم، وهذا التقدير اعترافٌ ضمني بدروهم الرائد في المشروع. إنَّه يُمكِّن الابتكار ويوقظ نهجاً مشتركاً لإيجاد الحلول، وهذا جانبٌ نفسيٌّ هام؛ فالزميل الذي يقدِّر دور زميله فعلاً، يعاكس قاعدة "تنافس الأقران"، وبالتالي هو يضيف الكثير إلى زميله من خلال تقديره.
4. التجديد المستمر في بيئة العمل:
بيئة العمل لها تأثيرٌ كبيرٌ على الإبداع، حيث أنَّ إنشاء مساحة عملٍ لا تبدو وكأنَّها مصمَّمة للعمل، ولكنَّها تشبه الحياة خارج المكتب؛ يمكن أن تُلهِم الموظفين، وتلعب دوراً كبيراً في ابتكار منتجاتٍ وخدماتٍ جديدة. فكلَّما زادت المساحة واللون والمرونة التي يقدِّمها مكان العمل، زاد احتمال شعور فرق العمل بالإبداع، ووُلِد الحافز والدافع للنجاح.
تنفق بعض الشركات ملايين الدولارات على إعادة تصميم مساحات مكاتبها، في حين أنَّ القائد ليس مضطراً إلى ذلك. ولكن هناك بعض عناصر التصميم الأساسية التي ستقطع شوطاً طويلاً في جعل فريقك يشعر بأنَّه في المنزل. وقد أدركت شركات التنقية هذه الميِّزة وعملت على ذلك بشكلٍ رائع.
5. كسر القيود التقليدية:
يتعامل الموظفون والفرق مع الكثير من القيود اليومية بشكلٍ حرفي؛ مثل: نظام الحضور والانصراف، الجلوس في المكتب طوال الوقت، تناول الغداء في ساعةٍ محددة، تسليم تقارير أسبوعيةٍ مكررة، هيكليةٌ بيروقراطيةٌ في التواصل. هل هذه تضيف إلى الإبداع أم تأخذ منه؟ ماذا لو منح القائد موظفيه حرية العمل من حيث يريدون؟ ماذا لو سمح لهم بالعمل في إدارةٍ أخرى مرتين في الشهر؟ ماذا لو سمح لهم بالعمل من المنزل؟ ماذا لو سمح لهم بأخذ إجازةٍ مدفوعةٍ، بشرط أن يقدِّموا مجموعة أفكارٍ مبتكرةٍ تساعد في تطوير المنتجات والخدمات التي تقدمها المؤسسة؟ ماذا لو نُظِّمَت زياراتٌ إلى مؤسساتٍ مشابهةٍ لمؤسستهم بشكلٍ دوري، يجري فيها تبادل الخبرات وأفضل الممارسات؟ السؤال هنا: إذا بدأنا بمثل هذه الممارسات، هل ستضيف إلى المؤسسة بعداً إبداعياً؟ أترك الإجابة للقارئ العزيز.
قد يناقش البعض هذا المبدأ ويقول: "يجب أن يكون لكلِّ بيئة عملٍ بعض القيود". في الواقع، يُظهِر البحث أنَّ المبدعين يحبُّون بعضاً من القيود؛ فيُشجَّع القائد الجيد على التجريب والمرونة في مكان العمل، لتحديد وإدخال قيودٍ جيدة، والتخلُّص من قيودٍ بالية لا تضيف شيئاً إلى الإنتاجية والابتكار. قد يحتاج القائد إلى مناقشة القيود مع فرق العمل: لماذا نحتاج إلى قيود؟ ماذا يستفيد فريقنا من هكذا قيود؟ كيف ستساعدنا في الوصول إلى هدفنا الأعلى؟ فالتعميم في إلغاء القيود أو المحافظة عليها ليس فعلاً دقيقاً أو علمياً، وإنَّ الحوار بين القيادات والفرق يصل بهم إلى أفضل الممارسات التي تناسب بيئة عملهم، وطبيعة المؤسسة، والقيود التي تفرضها الجهات العليا.
6. إنشاء قنواتٍ للتواصل بين الفرق:
يمكن للفرق التعلُّم من بعضها بعضاً بشكلٍ كبيرٍ ومستمر. في أحيانٍ كثيرة، قد يرى شخصٌ ما من خارج الفريق ما لا يراه أعضاء الفريق، وهذا ما يسمَّى بظاهرة "Fresh Eyes"؛ وذلك ببساطةٍ لأنَّهم قريبون جداً من المشكلة المطروحة ومنخرطون بها. مثالٌ على ذلك: قد ينظر الفريق "أ" إلى مشكلةٍ معينةٍ من منظورٍ مختلف عن الفريق "ب" وبالتالي يكون قادراً على اقتراح مساراتٍ بديلةٍ لحلِّ المشكلات؛ ويحدث هذا كثيراً في بيئة عمل منفتحةٍ وتتقبَّل الآراء. وبالتالي، من الهامِّ جمع الفرق معاً وتشجيع التواصل بينها؛ فتلاحُقُ الأفكار ضروري لتكتمل الصورة الكبيرة. ومع ذلك، من الهامِّ أيضاً ضمان عدم انشغال الفرق في اجتماعاتٍ متكررة، أو التركيز على البحث عن أخطاء الفرق وإصدار تقارير سلبية؛ لأنَّ هذه الممارسات تنتقص من حلِّ المشكلات بشكلٍ إبداعيٍّ، وتُعزِّز الضغينة والثأر بين الفرق.
نوصي هنا باجتماعاتٍ دوريةٍ كبيرةٍ لتبادل الأفكار، حيث تلخص الفرق عملها، ويمكن للفرق الأخرى أيضاً تقديم اقتراحات.
7. مشاركة المعرفة والتعلُّم:
استكمالاً لمفهوم كسر القيود التقليدية؛ كلَّما سمح القائد بحريةٍ أكبر لموظفيه، زادت احتمالية تبنِّي عقلية التعلُّم.
يؤمن القادة بقيمة مشاركة المعرفة والتواصل والتعاون، وإنَّ أولئك الذين يخشون الانفتاح سينتهي بهم الأمر إلى قمع الإبداع. عندما تفتح المؤسسات حدودها، فإنَّها تستمتع بتدفق الأفكار الرائعة؛ ولهذا يجب السماح للمبدعين بالتواصل مع الأشخاص والمنظمات ذات التفكير المماثل، وحضور المؤتمرات عبر الشراكات المؤسسية، وإنشاء شبكات الابتكار المفتوحة، وتبادل الأفكار وأفضل الممارسات. هذه طريقةٌ رائعةٌ لتنمية ثقافةٍ شفافة، حيث لا يخشى الموظفون الاستماع والتعلُّم وتبادل المعرفة.
بالطبع، عندما نفتح الحدود، يجب علينا أيضاً وضع قيودٍ لحماية ابتكار المنتجات؛ وعندما نتخلَّص من القيود التقليدية، نفتح فرصاً للإبداع وريادة الأعمال في فرق العمل.
8. المبادرة بحل المشاكل الشخصية في الفرق:
عندما تُؤخَذ المشاكل بشكلٍ شخصي بين أعضاء الفريق؛ فإنَّ الإبداع يخرج من الباب الخلفي، وتأتي مشاكل كبيرة -مثل: الثأر ورد الاعتبار- من البوابة الرئيسة. بيئة العمل التي يبحث فيها عضو الفريق عن تسجيل نقاطٍ على حساب زميله، وينتقم منه بشكل غير مباشرٍ، ويتحيَّن فرص ردِّ الاعتبار؛ هي بيئة عملٍ طاردةٌ لكلِّ أنواع الإبداع. إذا واجه عضوان في الفريق مشاكل مع بعضهما بعضاً، سيحتاج قائد الفريق إلى حلِّ النزاع بسرعةٍ وحكمة؛ إذ يمكن للمشاكل الشخصية داخل المجموعة بين عضوين أو أكثر أن تدمِّر ديناميكيات المجموعة، وتجعل أعضاء الفريق ينحازون إلى شخصٍ دون آخر، بحيث تُهدَر الطاقات المكرَّسة للإبداع والابتكار، وتنزلق إلى هوَّاتٍ ساحقة. ولكن كما هو معلوم أنَّ نفوس البشر تحمل بذور المشاحنات والاختلافات، وتقود هذه البذور إلى الانتصار للذات ورد الاعتبار.
هذه المعرفة هامَّةٌ للقائد وهي المعرفة التي تساهم في الوقاية من ذلك. وهنا تبرز حكمة وفطنة القائد؛ إذ يجب ألَّا ينتظر وصول الأمور إلى الأسوء، بل أن يبادر إلى مراقبة الجوانب الشخصية، ومعايرة النزعات النفسية، وإطفاء شرارة الخلافات قبل أن تتحوَّل إلى نيرانٍ تلتهم الطاقات الإبداعية في فريق العمل.
9. تشجيع الحسِّ الفكاهي:
يجمع العديد من القادة الفرق معاً في المواقف شديدة التنافس، على أمل تحفيز أعضاء الفريق لدفع طاقاتهم بشكلٍ أكثر وأقوى. يُولِّد التنافس بيئةً شرسةً وعدوانية، وبالتأكيد ليس هذا ما يسعى إليه القادة؛ فقد ثبت أنَّ الإجهاد المفرط لا يفضي إلى الإبداع، وغالباً ما يؤدِّي إلى المنافسة الشديدة والتي تؤدِّي بدورها إلى ضغوطٍ شديدةٍ على أعضاء الفريق. وتؤكِّد الخبرة الحياتية ذلك.
فقط استَحْضِرْ تلك المواقف التي وُضِعت فيها تحت ضغطٍ شديد للإنجاز، هل كان للإبداع مكان؟ الواقع هو أنَّ الحسّ الفكاهي، والبيئة التعاونية الجيدة، أو حتَّى التنافس بدون ضغوط؛ هو من يحفِّز الفرق، وليس التنافس الشرس. علاوةً على ذلك، يمكن للتنافس الودّيّ أن يجعل الأمور أكثر متعةً؛ لأنَّ المرح يفضي دائماً إلى الإبداع.
10. تجديد الدماء والوجوه:
بمرور الوقت، يتمكَّنْ أعضاء الفريق من فهم بعضهم بعضاً، حيث أنَّهم يتشاركون في اللغة، وفي مجموعةٍ من القيم غير المنطوقة، والتي يطلق عليها علماء النفس "المعرفة الضمنية". تسهل هذه المعرفة الضمنية تدفق الاتصالات -شريطة أن يكون الدافع صحيحاً- ممَّا يجعل كونك مبدعاً أمراً سهلاً.
ولكن عندما تعمل الفرق مع بعضها بعضاً لفتراتٍ طويلة، يزداد التعارف بين أعضاء الفريق بشكلٍ جيدٍ جيداً، ومع الإفراط في التعارف، تأتي إمكانية التنبؤ بردود الأفعال وتوارد الأفكار بين أعضاء الفريق، وربَّما الملل بحكم زيادة الألفة والدخول في صندوقٍ مغلقٍ للأفكار. وبالتالي، من الجيد منح الفرق فرصاً لتجديد الدماء ومزج الأفكار، من خلال التغيير المستمر في الأعضاء والقيادات.
إنَّ من الممارسات السيئة الاحتفاظ بأعضاء الفريق معاً لفترة طويلة، فمن الناحية المثالية، يجب على القائد مزج ومطابقة أعضاء الفريق كلَّ 18 إلى 24 شهراً.
وأخيراً، عندما نتخلَّص من الحدود التقليدية، نفتح فرصاً للإبداع والابتكار في فرق العمل؛ وعندما نرعى التنوع، ننشِئ فرقاً يمكنها تزويدنا بسيناريوهاتٍ متعددةٍ للمستقبل.
من خلال التغذية الراجعة المنتظمة، والسماح للأعضاء بتصميم دورهم الخاص؛ فإنَّنا نوقد فيهم الحماسة، ونمنحهم الشعور بالهدف؛ وعندما نمنحهم وقتاً منتظماً للتجربة والتعاون، فإنَّنا نشجِّع الابتكار والإبداع.
أضف تعليقاً