الصمت من ذهب

قبل سنوات من استعمال الهاتف الذكي على نطاق واسع، طرحتُ سؤالاً على طلاب المدارس الثانوية، الذين يزيد عددهم على 300 طالب، وبعد سنوات من العمل في مدرسة ثانوية بصفتي مدرِّسةً ومستشارةً، لاحظت بعض التغييرات في ثقافتنا التي كانت تسبب لي المفاجئة، واعتقدت أنَّه سيكون من المفيد الإصغاء مباشرة إلى الطلاب. طلبت منهم أن يخرجوا قطعة من الورق وقلماً، وسألتهم: كم دقيقة من الصمت التام تحصلون عليها في اليوم؟ ولكي أكون واضحة، ساعات النوم غير محسوبة.



ملاحظة: هذا المقال مأخوذ عن المدوِّنة والكاتبة "داون وودز" (Dawn Woods)، وتُحدِّثنا فيه عن الصمت.

رأيت بعض الابتسامات، وسمعت بعض الضحكات، وحاول الكثيرون حساب رقم واقعي، "آي تيونز" (iTunes) لم يكن موجوداً لفترة، وكان إطلاق "آي بود" (iPod) في عام 2001، في هذه المرحلة، كان معظم الأطفال يمتلكون جهازاً واحداً، وكانت مشغلات الأقراص المضغوطة في سياراتهم وسماعات الرأس ملفوفة حول أعناقهم أو موصولة بأجهزة الحواسيب المحمولة الخاصة بهم طوال اليوم، وكانت إجابة سؤالي واضحة إلى حد ما، لكنَّني أردت منهم التفكير في الأمر.

خرج الأطفال من صالة الألعاب الرياضية، وسلَّموا أوراقهم للمعلمين المنتظرين عند الأبواب، جمعوا كل الأوراق وأعطوني إياها، تطلَّب الأمر بعض ضبط النفس من جانبي لأنتظر حتى أعود إلى مكتبي لقراءتها، جلست إلى مكتبي، وألقيت نظرة خاطفة على ردودهم واحداً تلو الآخر.

كان متوسط ​​مقدار الصمت الذي تعرضوا له في اليوم 10 دقائق، أو أقل، وكان بعضهم يستمعون للموسيقى في أثناء الاستحمام أو الاستعداد للمدرسة في الصباح، وبعضهم ناموا في أثناء الاستماع للموسيقى أو مشاهدة التلفزيون، ومعظمهم كانوا يستمعون للموسيقى دون توقف أو فترة راحة طوال طريقهم إلى المدرسة، أو بين الفصول الدراسية، أو المشي إلى الميدان للتدريب، كان لديهم دائماً ضوضاء تدخل إلى أدمغتهم.

كان لدي بعض الأسئلة الأخرى التي طرحتُها عليهم: "ما الذي يجعلك تتجنب الصمت؟ وما هي المخاوف التي تظهر عند الهدوء؟".

مع أنَّ الإجابات عن هذه الأسئلة كانت حزينة، فإنَّها لم تكن مفاجئة؛ إذ تحدَّث الكثير منهم عن الخوف والقلق، وكانوا قلقين بشأن المشكلات الزوجية بين آبائهم وأمهاتهم، فأرادوا أن يصموا آذانهم عنها، وذكر معظمهم الخوف من المستقبل، أو عدم الالتحاق بالجامعة، أو عدم الحصول على الدرجات التي يحتاجونها لتأمين مستقبل جيد، وكان لدى بعضهم ذكريات لا يريد تذكُّرها، وبعضهم الآخر اعتاد الضجيج.

المشكلة هي أنَّ الضوضاء الناتجة عن الموسيقى، ومقاطع الفيديو على "يوتيوب" (YouTube)، والمدونات الصوتية، والأفلام، والبرامج التلفزيونية تُبعد الأفكار المخيفة والمرهقة مؤقتاً فقط، وآلية التكيف هذه مع الضوضاء سهلة لكنَّها ضارة.

الأشخاص الذين يفتقرون إلى الصمت يفقدون تنمية بعض المهارات الحياتية الضرورية.

شاهد بالفيديو: 10 أشياء إيجابيَّة تحدث لك عندما تبقى وحيداً

الحاجة إلى تصفية الذهن:

تمتلئ أدمغتنا بالأفكار، ونحتاج الهدوء، ولكن يجعلنا الضجيج المستمر والمعلومات مثقلين بالأعباء، ولا يتركون لنا سوى القليل من الوقت للتفكير والتساؤل والتخيل.

أذهاننا بحاجة إلى مساحة فارغة، عندما لا تحصل عليها تبقى ممتلئة، ومع ذلك، عندما نجلس بلا حراك، تبدأ أذهاننا بالاسترخاء.

في البداية، قد يكون من الصعب إبطاء الأفكار، وقد يكون الأمر مخيفاً عندما تبدأ المخاوف التي تتجاهلها بالظهور، ولكن يجب علينا التقدُّم، ستلاحظ أنت وأطفالك، أنَّه عندما يصبح الصمت عادة، فإنَّه يجعلنا هادئين، وتوفر المساحة الهادئة في الواقع هوامش للتعامل مع المشاعر غير المريحة، وطردها من أذهاننا، ولكنَّ الثقة في العملية أمر ضروري.

إقرأ أيضاً: 7 طرق تساعد على تصفية الذهن

التفكير الذاتي:

سمعني طلابي أقول 50 مرة: "إذا لم تنتبه لعيوب شخصيتك، فسيكون في مقدور كل مَن حولك معرفتها إلا أنت"؛ بمعنى آخر، عيوب مثل نفاد الصبر، وانعدام الأمن، واستعمال الفكاهة لتفاديها هي عيوب واضحة للجميع باستثناء الشخص الذي لا يتعامل مع عيوبه.

يمكن أن تكون الضوضاء شكلاً من أشكال الحماية الذاتية، ويمكن أن يكون وضع سماعات الرأس في آذاننا إحدى الطرائق لتجنُّب ما نحتاج بشدة إلى معالجته، وبالمثل، فإنَّ المصاعب مثل الحزن، وفقدان الوظيفة، ومشاعر العار، والفشل، أو فخ المقارنة يجب أن نتجاوزها وإلا سوف تتعمق.

يعتقد الناس أنَّ التأمل الذاتي للرهبان، وعفا عليه الزمن إلى حد ما، ومع ذلك فإنَّ الأشخاص الأكثر صحة الذين أعرفهم يعرفون أنفسهم أنَّهم على دراية بالمجالات التي يحتاجون فيها إلى المزيد من التوازن، والمخاوف التي لديها الكثير من القوة، والخسائر التي يحزنون من أجلها بمشاعر حقيقية؛ هذا يختلف كثيراً عن استنزاف الذات الذي نراه اليوم.

أن تبقى نشطاً على مواقع الإنترنت هو استنزاف للذات، فقضاء الوقت في وضع عدم الاتصال - في الهدوء مع عدم وجود أحد للرد - سيؤدي إلى الوعي الذاتي والنمو والتواضع.

عادة الإصغاء:

يعوق الإلهاء الناتج عن الكثير من وسائل الترفيه مهارات الإصغاء لدينا، ويجعل انتباهنا أقل، ويُعرِّض قدرتنا على المشاركة للخطر.

كلما جلسنا بلا حركة وفكرنا، ونظرنا، وشعرنا، وأظهرنا الاهتمام، أصبحنا أكثر ارتباطاً بمَن حولنا، فضلاً عن أنفسنا، ويواجه العالم ضغوطات شديدة للعثور على أشخاص يصغون إليهم جيداً.

إقرأ أيضاً: 34 قول وحكمة رائعة عن الصمت

تطوُّر الخيال:

الخيال القوي لا يُعطى قدر حقه، ومع ذلك، فإنَّ الكثير من الأبحاث تؤكد ضرورة الخيال لحل المشكلات والإبداع والتكيف والتعاطف؛ إذ يسمح الصمت للخيال بالازدهار.

ليس من المستغرب أنَّ الأفكار المستمرة، والانغماس في الترفيه يعوقان تطوُّر خيال المرء، بينما يولِّد الصمت والهدوء خيالاً صحياً؛ إذ توفر هذه الفرصة تنمية الأفكار والحلول الإبداعية.

حياة خالية من الإدمان:

تؤكِّد العديد من الأبحاث وجود الإدمان على ألعاب الفيديو ووسائل التواصل الاجتماعي وغيرها من وسائل الترفيه على الشاشة، فالمادة الكيميائية الموجودة في مركز المتعة في الدماغ - الدوبامين - تزداد في أثناء استعمال الشاشة الترفيهية، ومثل أي إدمان آخر، كلما استعملناه أكثر، كان الانفصال عنه أصعب، وبالمثل، يتطلب الأمر المزيد من الوقت للحفاظ على الاندفاع.

عندما تصبح أدمغتنا صامتة وهادئة، فإنَّها تمنع الإدمان الشائع على الشاشات، فالمراهقة هي مرحلة ضعف؛ ذلك لأنَّ الدماغ يكون في وضع التكوين، وأظهرت الدراسات أنَّ 90% من حالات الإدمان تبدأ خلال سنوات المراهقة، كلما زاد الوقت الذي يجب أن يتطور فيه الدماغ دون التدفق المستمر للأفكار، زادت حمايته من الإدمان.

إليك ما يمكن فعله:

  • حدِّد مساحات خالية من الأجهزة الإلكترونية في منزلك: لا تستخف بالأمر، وخذ الوقت الكافي لتشرح لأطفالك سبب قيامك بإعطاء الأولوية للمساحات في منزلك دون ستعمال للشاشة.
  • لا تستعمل الأجهزة الإلكترونية داخل السيارة: ساعد أطفالك على تعلُّم العيش في تجارب الحياة العادية التي تشكل معظم الحياة، سوف يتعلَّمون الانتباه إلى جمال الطبيعة من حولهم عندما لا يكون لديهم خيار البقاء أمام الشاشة، فالسيارة هي الوقت المناسب للتحدث وتعلُّم أن تكون حاضراً، فالتواصل البشري أمر بالغ الأهمية.
  • كن قدوة لهم في ضبط وقت الصمت أو الاستراحة: يحتاج الأطفال إلى رؤيتنا دون هواتفنا، سيشعرون بوجودك واهتمامك، بالإضافة إلى ذلك، يحتاجون إلى رؤية الوقت الهادئ بوصفه جزءاً طبيعياً من الحياة.
  • لا تستعمل الأجهزة الإلكترونية في غرف النوم: من أهم القواعد الأساسية التي يمكنك اتباعها عدم وجود أجهزة إلكترونية في غرفة النوم، هذا مكان للاستعداد للنوم، أو الهدوء، أو الاستمتاع بالتأمل، أو القراءة؛ إذ تعمل الشاشات على منع إفراز هرمون الميلاتونين، وتزيد من نشاط الدماغ، وهذا يجعل النوم صعباً.

في الثقافة التي يبدو أنَّها تتبع أسلوب تقليد الآخرين، من الضروري التمهل والتفكير في القيم التي تريد غرسها في أبنائك.

ما هي العادات الضرورية لتنمية بشرية صحية؟ عندما تقف ضد العادات السيئة المألوفة، سوف يكره أطفالك ذلك، وقد يقولون: "أنت الأب الوحيد الذي يضع هذه القواعد"، وسوف يتصرفون بجنون وينزعجون منك، لكن كن مطمئناً، فأنت تفعل ذلك لأنَّك أب صالح، وأطفالك سيتخطون الأمر، ويرون أنَّك على حق، والأهم من ذلك، أنَّهم سيعيشون في سلام مع حياة أقل ضوضاء.

المصدر




مقالات مرتبطة