ملاحظة: هذا المقال مأخوذ عن الكاتب الأمريكي مارك مانسون (Mark Manson)، والذي يحدثنا فيه عن الصبر.
يتحدث كل فصل في علم النفس التمهيدي عمَّا يُسمَّى بـ "صندوق سكينر" (The Skinner Box)، والذي يبدو وكأنَّه مأخوذٌ من فيلمٍ خيالي، لكنَّه في الواقع طريقةٌ نفسيةٌ مشهورةٌ من الأيام الذهبية للبحث التي كانت تُعذَّب فيها الفئران من أجل العلم.
يعمل صندوق سكينر على النحو الآتي: يُوضَع فأر في صندوق يحتوي على ذراع ووعاء تغذية صغير، حيث يبدأ الفأر يشتم الصندوق دون أن يعرف ما الذي يجري، ثمَّ في أثناء رحلة الاستكشاف التي يخوضها داخل الصندوق يدفع الذراع بالصدفة، فيحصل على القليل من السكر، ويكتشف بسرعة أنَّ دفع الذراع يعني الحصول على وجبة خفيفة لذيذة، لذلك يستمر في فعل ذلك مراراً وتكراراً.
ولكن بعد ذلك، يتوقف الذراع عن إعطاء الفأر المكافأة، وسيزعجه هذا جداً، فيبدأ نتيجة لذلك بضرب الذراع مراراً وتكراراً، محاولاً بشكل جنوني الحصول على المكافأة التي يشعر أنَّه يستحقها بشدة، حتى يتخلى عنها أخيراً، ويستسلم، ويفكر -وأنا أتحدث مجازاً بالطبع- في أنَّ الحياة تافهة، والمكافآت سيئة، وكلُّ شيءٍ كاذب؛ ثمَّ يدخن الفأر السجائر، ويكتب فلسفة فرنسية سيئة عن خيبة أمله الرهيبة بوجوده!!
لقد أظهر صندوق سكينر شيئاً أساسياً، وهو: إذا كان هناك شيءٌ ما يبدو جيداً، فسنقوم به مراراً وتكراراً، وننمي في النهاية شعوراً بالاستحقاق لهذا الشيء الممتع؛ أي أنَّنا نقنع أنفسنا بأنَّنا نستحق الشعور بهذه المتعة، ونستحق أن نُكافَأ؛ وعندما تُؤخَذ المكافأة منَّا، ندخل في نوبة غضب كاملة.
الحياة اليوم مليئة بصناديق سكينر؛ إذ يعدُّ هاتفك المحمول صندوق سكينر، وتلفازك أيضاً، وكذلك ألعاب الفيديو، وكمبيوترك المحمول، وغيرها الكثير.
النقطة الأساسية هي أنَّنا أصبحنا نحصل في العالم الحديث على مجموعات صغيرة من المتعة التي تصل إلينا بضغطة زر واحدة؛ وكلَّما زادت مجموعات المتعة، زاد نفاد صبرنا عندما لا نحصل على المكافأة المطلوبة، كأن نشتكي من أنَّ السائقين في أوبر (UBER) أخذوا منعطفاً خاطئاً، ومن العديد من رسائل البريد الإلكتروني غير المرغوب فيها صباح أول يوم عمل في الأسبوع، والعصبية بسبب تأخر وجبة البيتزا التي طلبناها قبل ثماني دقائق.
أعتقد أنَّني كنت صغيراً بما يكفي في المرة الأخيرة التي جرى فيها تنبيهي إلى الصمت والتحلي بالصبر، إذ يلوِّح الوالدان دائماً بأيديهما لأطفالهما لممارسة الصبر، والانتظار لفترة أطول قليلاً، وتأخير الإشباع الفوري، والتركيز على العواقب بدلاً من المكافآت.
ومع ذلك، فإنَّنا كبالغين نحتفي بنفاد الصبر؛ إذ يقوم كل شخص منَّا بفعل ثمانية أشياء في الوقت نفسه، ولكن بطريقة سيئة؛ ذلك لأنَّه لا يستطيع الانتظار.
الصبر فضيلة يفتقر إليها العالم بشدة في الوقت الحالي، ويمكن للتحلي بها في حياتنا اليومية أن يصنع المعجزات من أجل صحتنا العقلية وازدهارنا الاقتصادي، وقد يجعل العالم يبدو أقل حماقة.
الانتظار، في مقابل الانتظار بصبر:
يخطئ الكثير من الناس في تعريف الصبر، ويعتقدون أنَّه القدرة على انتظار شيء ما؛ لكنَّ هذا ليس صحيحاً تماماً، فالصبر ليس مجرد القدرة على انتظار مكافأة، بل هو موقفنا من هذا الانتظار.
على سبيل المثال: قد أتمكن من انتظار البيتزا التي طلبتها قبل ساعة ونصف، ولكن يمكنني القيام بذلك بإحدى طريقتين:
- الانتظار بصبر، والعمل بهدوء على مشاريعي، وقراءة كتاب، والاستمتاع بوقتي قبل الطلب.
- أو الانتظار بنفاد صبر، والتجول في شقتي، والاتصال بالمطعم مرة أخرى، والتربيت على معدتي لتهدئة آلام الجوع.
إنَّه لمن الواضح أنَّ أحد هذه الخيارات أفضل من الآخر؛ لكنَّ الأدلة تشير إلى أنَّنا أصبحنا أسوأ في هذا، إذ أصبحنا نافدي الصبر.
كما ترون، لقد أصبح صندوق المجتمع الحديث أكثر تعقيداً بعض الشيء؛ فنحن نضغط على أزرار بعضها حقيقي، والعديد منها افتراضي، وبعضها الآخر متخيل؛ وبدلاً من تلك الأزرار التي تقدم كريات سكرية يمكن من خلالها حشو أفواهنا، تقدم هذه الأزرار خيارات ترفيهية غير محدودة، وكل ذلك في متناول يدينا حرفياً.
يَعِدُ السوقُ باستمرارٍ بعالمٍ لم يعد علينا فيه الانتظار بصبر، وأنَّ كل ما نريده سيكون لدينا في أسرع وقت ممكن، وتعمل هذه الخدمات والأجهزة بعد ذلك كصندوق سكينر افتراضي صغير؛ ممَّا يجعلنا أقل صبراً وأكثر غضباً عندما لا تسير الأمور كما نريد.
المشكلة في ذلك هي أنَّه لرفع مستوى الراحة عوائد متناقصة من الناحية النفسية، فعلى سبيل المثال: لقد كان اكتشاف أوبر (Uber) أمراً مثيراً في أول ثلاث أو أربع مرات استخدمته، لكنِّي أجد نفسي الآن منزعجاً دائماً من أنَّ الطريق سيستغرق ثلاث دقائق أطول ممَّا كنت أتوقع؛ إذ تغضبني هذه الخدمة المذهلة التي لم أكن أتخيل وجودها قبل بضع سنوات بشكلٍ شبهٍ يوميّ الآن بسبب ثلاث دقائق تأخير.
مثل هذه الأمثلة موجودة حولنا، وقد يكون بعضها غبياً تماماً، مثل ألَّا ينتظر أكثر من نصف الأشخاص لأكثر من ثلاث ثوانٍ حتى يجري تحميل صفحة الويب قبل إغلاقها؛ وقد يكون بعضها الآخر مرعباً، كازدياد المشاحنات على الطريق.
الفكرة هي أنَّ الجانب الإيجابي من الراحة قصير الأمد، أمَّا الجانب السلبي ثابت ودائم؛ وعندما نعمل على تحسين حياتنا من أجل الراحة، فنحن نهيئ أنفسنا لإحساسٍ شبهِ دائمٍ بالغضب والاستحقاق.
يفوز الصبر في عالم نافد الصبر:
إنَّ العالم الحديث رائع، ولكن هناك جانب مظلم لتحفيزنا المستمر؛ فقد جعلتنا كل هذه التشتيتات منخفضة القيمة نفكر في أنَّ الصبر للحمقى، وأنَّ علينا "التحرك وإنهاء الأمور بسرعة"، وأنَّه إذا لم نكن على اطلاع دائم على كل شيء طيلة الوقت، فسنكون في مؤخرة السباق المعرفي.
إنَّ السلوك البشري مدفوع في المقام الأول بتجنُّب المخاطر، حيث تُقدَّم كل هذه التجارب ذات الجرعات المنخفضة التي تتسم بالسعادة عند الطلب وفي الوقت المحدد، وقد أصبحنا مع هذا الانتظام مشروطين بالتصور أنَّه لا وجود للمخاطر، وأنَّ الجميع يُكافَأ. لقد وُضِعنا في نوعٍ من الرضا عن النفس دون أن ندرك ذلك، معتقدين أنَّ كلّ شيءٍ جيّدٍ يجب أن يكون سهلاً ومريحاً، رغم أنَّه ليس كذلك بالضرورة.
وفي الوقت نفسه، لا تشعر بضرورة عيش التجارب القيمة التي تتطلب أكبر قدر من الصبر في الحياة بالتأكيد؛ فما دامت ليست مضمونة ومُعرِضة إلى الخطر، فلماذا تخاطر بها إذاً؟ ولماذا تجد صعوبة في طرح الأسئلة حول قيمك الخاصة طالما هناك ميمات مضحكة على انستجرام (Instagram) تشاركها مع جميع أصدقائك؟ ولماذا تبذل جهداً لبناء علاقة أفضل بينما يمكنك الانتقال مباشرة إلى الشخص التالي بسهولة تامة؟ ولماذا تنخرط في حوار غير مريح لكنَّه ضروري مع الأشخاص الذين لا تتفق معهم، طالما لديك بالفعل تغريدة غاضبة مكتوبة وجاهزة للإرسال؟
حسناً، سأخبرك بالسبب: إنَّ هذا التضليل هو الذي دفعنا نحو المكافآت الحقيقية في الحياة، لكنَّ هذه المكافآت الحقيقية تتطلب شيئاً واحداً، وهو "الصبر".
تتطلب أفضل الأشياء في الحياة -الأشياء التي تحقق أكبر قدرٍ من المكاسب وتمنح حياتنا معنى أكبر- حدّاً معيناً لنوعٍ من عدم الارتياح الذي يصاحب الانتظار بصبر.
يعرف كل من قرأ أعمالي لفترة أنَّ أحد المبادئ الأساسية لفلسفتي هو أنَّ البشر سيئون؛ ولأنَّهم كذلك، فأنت عادةً ما تمتلك ميزةً كبيرةً عندما تفعل الشيء الصحيح الذي لا يفعله معظم الأشخاص الآخرين.
إنَّ الشيء الذي لا يفعله معظم الناس في القرن الحادي والعشرين هو التحلّي بالصبر؛ وكلَّما قلَّ استعداد الناس للانتظار بصبر للحصول على مكافآت طويلة الأمد، أصبحت تلك المكافآت أفضل.
يعدُّ الصبر القدرة على قضاء ساعات وساعات من العمل الشاق الذي يجذبك في نهاية المطاف ويروج لك في عملك، والقدرة على العمل خلال أيام أو أسابيع أو شهور من الصراع مع شريكك ممَّا يسمح لك بتعزيز العلاقة بينك وبينه.
يفوز الصبر في عالم نافد الصبر؛ فعندما يكون الجميع في عجلة من أمرهم، ويتشتت انتباههم بسبب أحدث التغريدات؛ يصبح الجلوس وملاحظة مسار الكوكب البطيء المتقلب وعدم ملاحظة أيّ شيءٍ حدث مؤخراً هو الميزة العليا، ويساعدك ذلك على أن تصبح شخصاً مستقراً وعقلانياً.
شاهد بالفيديو: 7 خطوات لكي تكون صبوراً
كيف تصبح صبوراً أكثر؟
1. تعلَّم أن تكون هادئاً:
لقد كتب صديقي "ريان هوليداي" (Ryan Holiday) للتوِّ كتاباً بعنوان "الهدوء هو المفتاح" (Stillness Is the Key)، والذي يتحدث عن كل الفوائد غير المتوقعة وغير الواضحة لتطوير القدرة على الجلوس بهدوءٍ مع أنفسنا، والانفراد بأفكارنا الخاصة.
بصرف النظر عن الحدّ من التوتر والقلق، يزيد العثور على لحظات من الهدوء في حياتنا من الإبداع، ويجعلنا أكثر إنتاجية، ويساعدنا أيضاً على ملاحظة عواطفنا.
لقد قال الفيلسوف الفرنسي بليز باسكال (Blaise Pascal) ذات مرة: "تنبع جميع مشكلات البشرية من عدم قدرة الإنسان على الجلوس بهدوء في غرفة بمفرده".
بالنسبة إلي، أفضل وقتٍ هو أوّلُ الصباح أو آخر الليل قبل أن أخلد إلى النوم؛ لذا جرب ذلك، وأغلق الهاتف والتلفاز لمدة 10-15 دقيقة، واعتزل مع أفكارك أو مع كتاب.
قد يكون المشي جيداً أيضاً؛ لذا حدد موعداً للمشي بعد الظهر لمدة 15 دقيقة بلا هاتف، أو مزيدٍ من الرسائل النصية؛ وستندهش من وضوح التفكير الذي ستتمكن من إنتاجه.
كما تظهر الأبحاث أنَّه عندما لا ننام جيداً، نشعر بالإرهاق، ونفقد صبرنا، ونغضب بسرعة، ونتخذ قرارات سيئة، ونصبح أنانيين واستحقاقيين؛ أي بعبارة أخرى: يجعلنا عدم النوم أشبه بفئران المختبر في الصندوق، وأقل شبهاً بالبشر الذين يعملون بشكل كامل وعقلاني.
2. طور وعياً ذاتياً أفضل حول صبرك:
- هل أنت مستاء حقاً لأنَّك تشعر بأنَّك لا تملك الكثير من التحكم بحياتك، وبالتالي أنت تثبت نفسك فقط في المواقف التي تشعر فيها بأنَّك قادر على ذلك؟
- هل أنت غاضب حقاً من شريكك لعدم تنظيف الفتات من على الطاولة؟ أم أنَّك تشعر بقليل من التجاهل والانتقاد؟
- هل تعتقد بالفعل أنَّ الرجل المسكين الذي يقود ببطء على الطريق السريع أحمق ويعاني من مشكلات دماغية؟ أم أنَّك تكره وظيفتك والتنقلات الغبية التي تقوم بها كل يوم، ولهذا تستاء منه؟
يجب أن تبدأ بالانفراد بأفكارك الخاصة لكي تفتح "فجوات" في عقلك بين الاستجابات التلقائية لشعور دماغك، وبين التحليل الأكثر تشككاً.
إنَّ معظم نفاد صبرك مدفوع بشعور عميق من الاستحقاق؛ فأنت لا تعرف ما يحدث مع الآخرين، فربَّما تعرض رجل البيتزا إلى حادث سيارة، أو ربَّما لم ينم شريكك الليلة الماضية لأنَّه كان قلقاً جداً بشأن اجتماع عملٍ هام، وربَّما يكون السائق البطيء أمامك هو أحد قدامى المحاربين البالغ من العمر 90 عاماً والذي خاطر بحياته من أجلك.
3. افهم القيمة الحقيقية للوقت:
ماذا يعني الانتظار؟ إنَّه في الأساس المرور بفترة زمنية معينة دون أي مكافأة؛ لكن ما هي المكافأة؟ لقد وصلنا الآن إلى أصل المشكلة.
إذا كان ما نجده هو شيءٌ خارجيٌّ مثيرٌ ومبهجٌ وممتع، فسيكون موقفنا تجاه الانتظار سيئاً، ونكرهه ونكره العالم لعدم مكافأتنا مثل الفئران الصغيرة التي نحن على شاكلتها؛ لكن إذا كانت مكافآتنا داخلية، وإذا كنَّا نستمتع بأفكارنا ووجودنا الخاص، فقد نشعر بالمكافأة من الناحية النظرية في أي مكان وأي لحظة.
المكافآت الحقيقية في الحياة هي تلك التي تجلب لنا أكبر معنى، ويمكننا العثور على المعنى في أي مكان؛ ولكن غالباً ما نعثر عليه في المسيرة البطيئة والمنهجية نحو وجهة رائعة طويلة المدى؛ وكلَّما زادت الوجهة، قلَّت العثرات بشكل ملحوظ على طول الطريق.
أضف تعليقاً