الصحة النفسية في رمضان

لعل أهم ما يميّز شهر رمضان عن بقية أشهر العام هو الإمتناع عن تناول الطعام والشراب ومبطلات الصيام خلال النهار، بالإضافة إلى الجو الروحاني الخاص الذي يميّز هذا الشهر من المشاركة العامة بين الأفراد في تنظيم أوقاتهم خلال اليوم بين العبادة والعمل في فترات محدّدة وتخصيص أوقات موحدة يجتمعون فيها للإفطار، وهذه المشاركة في حد ذاتها لها أثر إيجابي من الناحية النفسية علي المرضى النفسيين الذين يعانون من العزلة ويشعرون أنّ إصابتهم بالاضطراب النفسي قد وضعت حاجزاً بينهم وبين المحيطين بهم في الأسرة والمجتمع.



شهر رمضان بما يتضمّنه من نظام شامل يلقي بظلاله على الجميع حين يصومون خلال النهار، وتتميز سلوكياتهم عموماً بالالتزام بالعبادات، ومحاولات التقرب إلى الله، وتعمّ مظاهر التراحم بين الناس مما يبعث علي الهدوء النفسي والخروج من دائرة الهموم النفسية المعتادة التي تمثل معاناة للمرضي النفسيين، فيسهم هذا التغيير الإيجابي في حدوث تحسّن في حياتهم النفسية.

وللصوم آثار إيجابية في تقوية الإرادة التي تعتبر نقطة ضعف في كل المرضي النفسيين، كما أنّ الصيام هو تقرب إلى الله يمنح أملاً في الثواب ويساعد على التخلّص من المشاعر السلبية المصاحبة للمرض النفسي، كما أنّ الصبر الذي يتطلبه الامتناع عن تناول الطعام والشراب والممارسات الأخرى خلال النهار يسهم في مضاعفة قدرة المريض على الاحتمال مما يقوى مواجهته ومقاومته للأعراض المرضية، ولهذه الأسباب فإنّنا في ممارسة الطب النفسي ننصح جميع المرضى بالصيام في رمضان ونلاحظ أنّ ذلك يؤدّي إلى تحسّن حالتهم النفسية.

1. صيام المرضى النفسيين:

الاكتئاب النفسي هو مرض العصر الحالي، وتبلغ نسبة الإصابة به 9% من سكان العالم حسب إحصائيات منظمة الصحة العالمية، وأهم أعراض الاكتئاب الشعور باليأس والعزلة وتراجع الإرادة والشعور بالذنب والتفكير في الانتحار.

والصيام بما يمنحه للصائم من أمل في ثواب الله يجدّد الرجاء لديه في الخروج من دائرة اليأس، كما أنّ المشاركة مع الآخرين في الصيام والعبادات والأعمال الصالحة خلال رمضان يتضمّن نهاية العزلة التي يفرضها الإكتئاب علي المريض، وممارسة العبادات مثل الإنتظام في ذكر الله وإنتظار الصلاة بعد الصلاة في هذا الشهر تتضمّن التوبة وتقاوم مشاعر الآثم وتبعد الأذهان عن التفكير في إيذاء النفس بعد أن يشعر الشخص بقبول النفس والتفاؤل والأمل في مواجهة أعراض الاكتئاب.

إقرأ أيضاً: الصوم وأثره في تهذيب النفوس وصحّة الأبدان

2. القلق:

أمّا القلق فإنّه سمة من سمات عصرنا الحالي، وتقدّر حالات القلق المرضي بنسبة 50-60% في بعض المجتمعات، والقلق ينشأ من الإنشغال بهموم الحياة وتوقع الأسوأ والخوف على المال والأبناء والصحة، وشعور الاطمئنان المصاحب لصيام رمضان، وذكر الله بصورة متزايدة خلال رمضان فيه أيضاً راحة نفسية وطمأنينة تسهم في التخلص من مشاعر القلق والتوتر.

إقرأ أيضاً: مرض القلق النفسي: أسبابه، أنواعه، أعراضه، علاجه

3. الوسواس القهري:

والوساوس القهرية يعاني منها عدد كبير من الناس علي عكس الانطباع بأنها حالات فردية نادرة، فالنسبة التي تقدرها الإحصائيات لحالات الوسواس القهري تصل إلى 7% مما يعني ملايين الحالات في المجتمع، وتكون الوساوس في صورة تكرار بعض الأفعال بدافع الشك المرضي مثل وسواس النظافة الذي يتضمن تكرار الاغتسال للتخلص من وهم القذارة والتلوث، وهناك الأفكار الوسواسية حول أمور دينية أو جنسية أو أفكار سخيفة تتسلط علي المرضي ولا يكون بوسعهم التخلص منها، ويسهم الصوم في تقوية إرادة هؤلاء المرضى، واستبدال اهتمامهم بهذه الأوهام ليحل محلها الانشغال بالعبادات وممارسة طقوس الصيام والصلوات والذكر مما يعطي دفعة داخلية تساعد المريض علي التغلب علي تسلط الوساوس المرضية.

إقرأ أيضاً: الوسواس القهري: أسبابه ومضاعفاته

4. الصيام وقوة الإرادة:

من وجهة نظر الطب النفسي فإنّنا ننظر إلى الصوم وقدوم شهر رمضان علي أنّه فرصة جيدة وموسم هام يساعدنا في مواجهة الكثير من المشكلات النفسية، والمثال على ذلك حالة المدخنين الذين اعتادوا علي استهلاك السجائر بانتظام خلال الأيام العادية بمعدل زمني لا يزيد عن دقائق معدودة بين إشعال سيجارة بعد سيجارة حتي يتم الاحتفاظ بمستوى معين من مادة النيكوتين التي تم تصنيفها ضمن مواد الإدمان، إنّ قدوم شهر الصيام والاضطرار إلى الإمتناع عن التدخين علي مدى ساعات النهار هو فرصة للمدخنين الراغبين في الإقلاع لإتخاذ قرار التوقف نهائياً عن التدخين، ونلاحظ بالفعل أن نسبة نجاح الإقلاع عن التدخين في شهر رمضان اكبر من النسبة المعتادة في الأوقات الأخرى والتي لا تزيد عن 30% بمعنى أنّ كل 10 من المدخنين يبدؤون في الإقلاع ينجح 1 فقط منهم ويعود 9 إلى التدخين مرة أخرى.

إقرأ أيضاً: 24 خطوة فعّالة للإقلاع عن التدخين في رمضان

5. الإدمان:

وهو إحدى المشكلات المستعصية التي تواجه الأطباء النفسيين فإنّ تحقيق نتيجة إيجابية في علاج هذه الحالات يمكن أن تزيد فرصته مع صيام رمضان، فالصيام تقوية للإرادة المتدنية لدى المدمنين، وقبولهم تحدى الإمتناع عن الطعام والشراب خلال نهار رمضان يسهم في تقوية إرادتهم ومقاومتهم لإلحاح تعاطي مواد الإدمان المختلفة، كما أنّ شهر رمضان يذكّر الجميع بضرورة التوقّف عن ممارسة الأعمال التي تتنافي مع روح الدين ويمنح فرصة للتوبة والرجوع إلى الله، وهي فرصة كبيرة للخروج من مأزق الإدمان لمن لديه الدافع إلى ذلك.

إقرأ أيضاً: 6 أضرار يحدثها الإدمان على الجسم

6. الصيام والحالة النفسية:

القاعدة الطبية المعروفة التي تؤكّد أنّ الوقاية أفضل وأجدى من العلاج تنطبق تماماً في حالة الأمراض النفسية، فقد ثبت لنا من خلال الملاحظة والبحث في مجال الطب النفسي أنّ الأشخاص الذين يتمتعون بشخصية متزنة ولديهم وازع ديني قوي، ويلتزمون بأداء العبادات وروح الدين في تعاملهم هم غالباً أقل إصابة بالاضطرابات النفسية، وهم أكثر تحسناً واستجابة للعلاج عند الإصابة بأي مرض نفسي، والغريب في ذلك أنّ بعض هذه الدراسات تم اجراؤها في الغرب حيث ذكرت نتائج هذه الأبحاث أنّ الإيمان القوي بالله والانتظام في العبادات لدى بعض المرضى النفسيين كان عاملاً مساعداً على سرعة شفائهم واستجابتهم للعلاج بصورة أفضل من مرضي آخرين يعانون من حالات مشابهة.

والأغرب من ذلك أنّ دراسات أجريت لمقارنة نتائج العلاج في مرضى القلب والسرطان والأمراض المزمنة أفادت نتائجها بأنّ التحسّن في المرضى الملتزمين بتعاليم الدين الذين يتمتّعون بإيمان قوى بالله كان ملحوظاً بنسبة تفوق غيرهم، وقد ذكرت هذه الأبحاث أنّ شعور الطمأنينة النفسية المصاحب للإيمان بالله له علاقة بقوة جهاز المناعة الداخلي الذي يقوم بدور حاسم في مقاومة الأمراض.




مقالات مرتبطة