التأثير السلبي للتركيز في رؤيتنا للعالم

أرى عندما أفتح عينيَّ امتداداً طويلاً من العشب، ينتهي عند مقهىً غير مأهول مكدسٍ بالكراسي والطاولات المصطفة بانتظام بجانب الباب. كما أرى في هذه المساحة مستشفىً كبيراً يتلاشى في الأفق. يمثل وعيي البصري مجموعةً متنوعةً من الأشياء والأشكال والألوان؛ فبمجرد أن أفتح عينيَّ وبشكل آني أرى هذا كله أمامي بمنتهى السهولة.



آلية عمل هذه العملية اللاإرادية:

يحدث هذا كله بمنتهى اليسر، لدرجة تجعلنا نعتقد أنَّ الرؤية عملية سهلة. ولكنَّ هذا ليس صحيحاً في الواقع، فوجهة النظر الواعية التي يشكلها الفرد هي النتيجة النهائية لمستوى هائل من الحسابات؛ إذ تسجِّل العينان معلومات عن الضوء، ثم تعالج تلك المعلومات في أنظمة عدة مختلفة موجودة في الدماغ، قبل أن تظهر في الوعي البصري.

يُعَدُّ الانطباع الذي استقبلته من العالم الخارجي (بما في ذلك مظهر العشب والمقهى والمستشفى) نتاجاً مختلفاً تماماً عن المعلومات التي دخلت عينيَّ بشكل لا إرادي. وبالطبع، نحن لسنا مطلعين على كامل هذه العملية؛ إذ إنَّها تحدث بالكامل بشكل غير واعٍ، ولا يمكن لعقولنا الواعية إدراكها.

يُعَدُّ إيجاد الوسائل اللازمة لاكتشاف آلية عمل هذه العملية اللاإرادية، أحد أكبر التحديات التي يواجهها علماء النفس والفلاسفة وعلماء الأعصاب، وتُمثِّل الأوهام طريقةً ذات قيمة لمساعدتنا على ذلك؛ إذ يُنظَر إلى الأوهام البصرية على أنَّها حالات يرتكب فيها النظام البصري خطأ ما؛ وكنتيجة لذلك، نرى العالم بخلاف ما هو عليه في الواقع.

تمنحنا مثل هذه الأخطاء تلميحات محيرة لآلية العمل اللاإرادية للنظام البصري؛ إذ تدفعنا إلى التفكير في التساؤلات الآتية: ما الذي قد أصاب الدماغ ليحدث مثل هذا الخطأ؟ وما هي العمليات التي يقوم بها الدماغ في أثناء وقوع مثل هذه الأخطاء؟ وكيف حدث هذا الخطأ تحديداً بدلاً من أيِّ خطأ آخر؟

أحد الأوهام البصرية هو "وهم تسي" (Tse illusion)، الذي سُمي تيمُّناً بمختص الأعصاب الأمريكي "بيتر أولريك تسي" (Peter Ulric Tse).

 النقطة البيضاء

ركِّز انتباهك في النقطة البيضاء الموجودة في منتصف هذه الصورة، ودع تركيزك يتنقل عبر الدوائر الكبيرة التي تحيط بتلك النقطة. قد يتطلب الأمر قليلاً من الممارسة (لأنَّنا نحن البشر لسنا معتادين عموماً على تركيز انتباهنا في شيء ما من دون النظر إليه بأعيننا مباشرةً)، وعندها ستجد أنَّ لون الدائرة التي تركز فيها قد أصبح أكثر قتامةً من الدوائر الأخرى.

أتذكَّر رؤيتي لهذا الوهم للمرة الأولى في مؤتمر ناقشنا فيه موضوع التركيز؛ لقد صُدِمتُ عندها. ولكن في الواقع، كان الأمر مجرد وهم؛ إذ إنَّ لون الدوائر لم يتغير؛ وإنَّما تشتُّت انتباهي عنها هو ما جعلها تبدو كذلك.

سبب حدوث الوهم السلبي:

يبدو أنَّ سبب حدوث هذا الوهم مرتبط بحقيقة أنَّ الدوائر تتداخل جزئياً مع بعضها بعضاً، عند وجودها على خلفية فاتحة اللون (فلو أنَّ الدوائر كانت موضوعة على خلفية سوداء، لم يكن لهذا الوهم أن يحدث). يؤدي ذلك إلى جعل النظام البصري يدرك هذه الدوائر كسلسلة من الأقراص شبه الشفافة، ثم يحاول النظام البصري بعد ذلك اكتشاف أيِّ الأقراص يتوضع أعلى القمة. يبدو أنَّ التركيز هو أحد العوامل التي تؤثر في هذا الإدراك، ولكن للأسف، ما يزال تغيُّر درجة اللون في دائرة واحدة فقط أمراً غير مفهوم حتى الآن.

قد يبدو "وهم تسي" في البداية على أنَّه مجرد بدعة مثيرة للاهتمام، ولكنَّه في الحقيقة يتحدى بعض افتراضاتنا الراسخة حول دور التركيز في إمكاناتنا العقلية؛ إذ إنَّنا عادةً ما نعتقد أنَّ الانتباه والتركيز في شيء ما، هو وسيلة فعَّالة للحصول على معلومات حول هذا الموضوع، فإذا ما كنت تريد معرفة المزيد عن أمرٍ ما، فيجب عليك أن توليه انتباهك؛ لأنَّك إذا ما تشتت انتباهك، فسترتكب بعض الأخطاء. وبالنظر إلى هذه الفكرة الفطرية، فإيلاء الانتباه هو الطريق لاكتساب المعرفة.

ومع ذلك، فإنَّ فكرة أنَّ التركيز هو طريقة اكتساب المعرفة ليست مجرد فكرةٍ فطرية؛ بل إنَّها تملك تاريخاً طويلاً في "علم المعرفة" (الدراسة الفلسفية للمعرفة)؛ إذ يشتهر الفيلسوف الفرنسي "رينيه ديكارت" (René Descartes) الذي عاش في القرن السابع عشر ببحثه عن المعرفة المؤكدة، وأدى التركيز دوراً هاماً في هذا البحث؛ إذ ناقش "ديكارت" عبارة: "ما دمنا نهتم بحقيقة ندركها بوضوح شديد، فلا يمكننا الشك في صحتها".

أيَّدت أفكار "ديكارت" الفكرة المنطقية التي تنص على: أنَّ التركيز في أمرٍ ما، هو وسيلة جيدة لاكتساب المعرفة عنه. التركيز على جسمٍ ما يمنحه مظهراً أكثر حيويةً من الأجسام التي لا نوليها أيَّ اهتمام.

التركيز السلبي:

بالطبع لا يمكن لأحد نكران أنَّ التركيز على أمرٍ ما، يساعدنا في كثير من الأحيان على اكتساب المعرفة، فعلى سبيل المثال: يمكنك أن تحل مسألةً في الرياضيات بشكل صحيح عند صب الكثير من التركيز على ما تفعله. وعلى كل حال، يدل "وهم تسي" على أنَّ التركيز لا يساعدنا دائماً على اكتساب المزيد من المعرفة، وقد يشوه رؤيتنا للعالم في بعض الأحيان؛ إذ يجعل إحدى الدوائر تبدو وكأنَّها تزداد قتامةً، في حين أنَّها ليست كذلك في الحقيقة.

إنَّه يضللنا بشكل واضح. ويشكل ذلك معضلة لأحد افتراضاتنا الراسخة حول التركيز، ولنظريات الفلاسفة مثل "ديكارت". وفي هذه الحالة، وبعيداً عن كونه موجهاً مباشراً للمعرفة، فقد يؤثر التركيز تأثيراً سلبياً في وضوح رؤيتنا للأمور.

يُعَدُّ "وهم تسي" مجرد مثال واحد فقط، لقدرة التركيز على تضليلنا. وهناك دليل بيَّن على أنَّ التركيز في الفراغ الموجود بين خطين سيجعل هذا الفراغ يبدو أكبر ممَّا هو عليه. كما أنَّ التركيز على جسم ما قد يؤدي إلى جعله يبدو أكثر حيويةً من بقية الأشياء التي لا نوليها أيَّ اهتمام.

ومن المثير للدهشة أنَّ الاهتمام يؤثر أيضاً في إدراكنا للوقت؛ إذ إنَّ التركيز على حدث معيَّن يمكن أن يجعلنا نشعر أنَّه استغرق وقتاً أطول ممَّا استغرقه حقاً. وتُعَدُّ الميزة الأخيرة للتركيز، السبب الكامن وراء إبلاغ الناس غالباً عن حدوث الاصطدامات المرورية وكأنَّها تحدث "في حركة بطيئة".

فعند تعرُّضك لحادث ما، ستصب كامل تركيزك بشكل مفاجئ؛ وكنتيجة لذلك، قد تعتقد أنَّه استغرق وقتاً أطول ممَّا استغرقه في الواقع.

شاهد بالفيديو: كيف تتخلص من الأفكار السلبية إلى الأبد؟

التركيز قد يشوه نظرتنا للعالم:

تشير هذه النتائج إلى أنَّ التركيز قد يشوه في بعض الأحيان نظرتنا إلى العالم. ولكنَّ هذا لا يعني أنَّ التركيز دائماً ما يضلل معرفتنا بالعالم؛ بل هي مجرد إشارة إلى أنَّه قد لا يكون دليلاً موثوقاً لاكتساب المعرفة كما كنَّا نعتقد. ولتوضيح الصلة المعقدة التي تربط بين التركيز والمعرفة، فنحن بحاجة إلى تغيير الطريقة التي نفكر بها في هاتين الملكتين العقليتين.

وبالنظر إلى ما سبق، فليس من الغريب أن يشوه التركيز معرفتنا بالأمور في بعض الأحيان؛ إذ إنَّنا جميعاً على دراية بتجربة التفكير المفرط في أمر ما. إذا كنت قد شاركت في أيِّ وقت مضى في مشروع طويل ومعقد، فلا بُدَّ إذاً أنَّك تدرك ما الذي يعنيه صب تركيزك كاملاً على شيء واحد، وذلك الشعور الغامض الذي يجعلك تعتقد أنَّ ما تعرفه الآن عن هذا الأمر، أقل بكثير من معلوماتك السابقة عنه عندما بدأت بالعمل عليه. ولا بُدَّ أنَّ أيَّ شخص حاصل على شهادة الدكتوراه يعرف بالتأكيد هذا الشعور.

وبالحديث عن دور التركيز بالنسبة إلى النظام البصري، يناقش علماء النفس وعلماء الأعصاب عموماً فكرة أنَّ وظيفة التركيز تكمن في التعامل مع مشكلة المعلومات المحدودة؛ فلا يمكن لأدمغتنا أن تفعل الكثير، حين تستقبل أعضاؤنا الحسية كمَّاً هائلاً من المعلومات يفوق قدرة أدمغتنا على معالجتها بنجاح.

لكن، بطبيعة الحال، ليست كل هذه المعلومات بالقدر نفسه من الأهمية، ولتجنب هذه الحمولة الزائدة من المعلومات، علينا اختيار الأجزاء الهامة التي يجب التركيز عليها، وهذه تُعَدُّ المهمة الرئيسة للتركيز: فهو المسؤول عن اختيار أهم الأمور التي يجب أن نصب اهتمامنا عليها، وتجاهل الأمور عديمة الأهمية.

إقرأ أيضاً: ملخص كتاب "قوة التركيز" للمؤلف جاك كانفيلد – الجزء الأول

التركيز لا يعني الإنجاز:

وبالنظر إلى التركيز بهذه الطريقة، فوظيفته لا تكمن في إنجاز كل شيء بشكل صحيح تماماً، ولكن باختيار ما هو جدير بمواردنا المعرفية المحدودة. والأمر الأكثر أهمية، هو أن نركز على الأمور الهامة في ذلك الوقت بالذات. بمجرد أن نبدأ التفكير في التركيز بهذه الطريقة، فلن يكون من الغريب عدم إنجاز كل شيء بشكل مثالي.

بالإضافة إلى تغيير الطريقة التي ننظر بها إلى التركيز، فقد نحتاج أيضاً إلى إعادة التفكير في وجهة نظرنا حول المعرفة نفسها؛ إذ إنَّنا بعيداً عن "ديكارت"، سنجد وجهات نظر أخرى حول العلاقة بين التركيز والمعرفة، التي قد تتناسب بشكل أفضل مع "وهم تسي"، ومع النتائج الأخرى المبيَّنة آنفاً؛ إذ لطالما جادل بعض الفلاسفة المعروفين باسم "السياقيين" (Contextualists) بأنَّ التركيز المبالغ فيه قد يشكل خطراً على المعرفة.

وفقاً للسياقيين: فنحن نختبر جميع أنواع المعرفة خلال حياتنا اليومية، ولكن عندما نولي اهتماماً كبيراً بمصادر معرفتنا، نجد أنَّ يقيننا بتلك المعرفة يختفي في كثير من الأحيان. فعلى سبيل المثال، بالعودة إلى التجربة البصرية التي بدأنا بها، حول العشب والمقهى والمستشفى، فأنا أعتقد أنَّ هذه التجربة البصرية تمنحني معرفةً جيدةً عن العالم المحيط بي؛ إذ تدلني على وجود مقهى هناك، ومستشفى خلفه، وهلمَّ جرَّاً.

وعلى كل حال، إن فكرت كثيراً في الأمر فمن المحتمل أن أبدأ الشك في نفسي. ماذا لو كنت أعاني من الهلوسة؟ وماذا لو لم يكن هناك مقهى؛ بل كان مجرد نوع من السراب؟ وماذا لو لم أنظر من النافذة على الإطلاق؟ وماذا لو كان هذا كله مجرد حلم؟

إقرأ أيضاً: ملخّص كتاب قوة التركيز للمؤلف جاك كانفيلد – الجزء الثاني

الشك في المعرفة:

كلما فكرت أكثر في هذه السيناريوهات المبالغ فيها، شكَّكت أكثر في المعرفة التي أمتلكها؛ لذا وفقاً للسياقيين، المشكلة هنا سهلة، إنَّها المبالغة في التفكير في الأمور. فعند تكريس الكثير من التركيز على جميع الطرائق التي قد أكون مخطئاً حولها من الناحية النظرية، فإنَّ ذلك سيجعل أكثر المعارف البديهية التي كنَّا نظن أنَّنا نملكها تختفي. والحل المقترح هنا، هو عدم إيلاء الكثير من الاهتمام لهذه الأنواع من المخاوف.

تثير كل هذه المسائل بعض الأسئلة الدقيقة للغاية، فقد كان السياقيون بالتأكيد على حق حين قالوا إنَّنا يجب ألَّا نتعمق في التفكير إلى حد بعيد، وأن ينتهي بنا الأمر إلى قضاء وقتنا كاملاً بالقلق حول ما إذا كنَّا نعيش في حلم أم لا.

ولكن بعد ذلك، فغالباً ما يكون من الهام حقاً التفكير في سبب تمسكنا ببعض المعتقدات؛ وهذا ما يقودنا إلى مراجعة آرائنا بطريقة مفيدة ومثمرة. فما نحتاج إليه حقاً، هو طريقة لتحديد النقطة التي يتوقف فيها التركيز عن كونه مفيداً للمعرفة، ويصبح مُشتِّتاً لها. أنا متأكد من أنَّ العمل على كل هذا سيكون صعباً للغاية، لكن من يدري؟ فلربما أنا أبالغ في التفكير في هذا الشأن.

المصدر.




مقالات مرتبطة