تعد الصورة الذاتية في علم النفس الإيجابي الأساس في بناء حياة متوازنة ومليئة بالرضى؛ لأنها تحدد الطريقة التي نتفاعل بها مع العالم من حولنا، فالشخص الذي يرى نفسه قادراً ومحبوباً وذا قيمة، يسير بخطى ثابتة لِأهدافه، بينما من يحمل صورة مشوشة أو سلبية عن ذاته يعيش في دوَّامة من الشك والتردد، فما هو مفهوم الصورة الذاتية؟ كيف تتكون؟ ولماذا تؤثر في كل جانب من جوانب حياتنا؟ والأهم كيف يمكننا إعادة تشكيلها وبناء صورة إيجابية تمنحنا القوة لنعيش بوعي وثقة وتفاؤل؟
ما هي الصورة الذاتية؟
إنها أكثر من مجرد فكرة عن الذات، ففي اللغة "الصورة الذاتية" مركَّبة من كلمتين: صورة (تمثيل ذهني) وذات (الشخص نفسه)، فهذا هو التمثيل الذهني الذي يحمله الفرد عن نفسه، وكيف يرى نفسه وما يظنُّ أنَّ الآخرين يروه.
تُعرَّف الصورة الذاتية نفسياً على أنها الصورة أو المخيِّلة التي يكوِّنها الفرد عن مظهره، وشخصيته، وقدراته، ودوره في المجتمع، فهي تشمل صورة الجسد والانطباعات عن السمات والمهارات وكيف يتصوَّر الشخص أنَّ الآخرين ينظرون إليه، وهي جزء مؤثِّر من شخصية الفرد وقد ترتبط مباشرة بالثقة والسلوكات اليومية.
تختلف الصورة الذاتية عن التصوُّر الذاتي، فالتصوُّر الذاتي (التصور العام للذات) أوسع من الصورة الذاتية ويشتمل على مجموعة المعتقدات المعرفية والهوية والأدوار والقيم والذكريات والتوقُّعات عن النفس (من أنا؟ وما أفعله؟ وما أؤمن به؟)، ويضم مفاهيم فرعية مثل الصورة الذاتية، وتقدير الذات، والذات المثالية. بمعنى آخر، التصور الذاتي هو الإطار الكبير الذي تُدرَج تحته صور وقيَم متعددة عن النفس.
الصورة الذاتية أكثر تركيزاً على الصورة الحسية والملموسة: كيف أبدو؟ ما الصفات التي أرى أنها تميِّزني؟ كيف أظنُّ أنَّ الآخرين يقيِّمون مظهري وأفعالي؟ بعبارة عملية: الصورة الذاتية تجيب عن أسئلة متعلقة بالمظهر والأداء والسمات القابلة للاختبار، بينما التصوُّر الذاتي يضم أيضاً معتقدات داخلية، وأدواراً اجتماعية، وقيماً لا تختزل بالمظهر فقط.
التلميحات لتعزيز الصورة الذاتية
لا يحدث بناء الصورة الذاتية الإيجابية بالصدفة؛ بل هو نتيجة وعيٍ وتدرُّبٍ مستمر على رؤية النفس رؤية متوازنة ومشجِّعة، فالصورة التي نحملها عن أنفسنا تؤثر مباشرة في سلوكنا، وقراراتنا، وطريقة تفاعلنا مع العالم من حولنا ولهذا يقدِّم علم النفس الإيجابي مجموعة من التلميحات العملية التي تساعدنا على تعزيز نظرتنا لأنفسنا:
1. ممارسة التفكير الإيجابي
تعدُّ من التلميحات للصورة الذاتية، فهو لا يقتصر على التفاؤل السطحي؛ بل هو عملية واعية تهدف إلى استبدال الأفكار السلبية بمعتقدات بنَّاءة تعزز الثقة بالنفس وتدعم الصحة النفسية.
عندما يتبنى الفرد نمطاً من التفكير الإيجابي، فإنه يشكِّل طريقة نظرته لنفسه وللعالم من حوله، مثلاً: بدلاً من التفكير في "أنا فاشل"، يمكن استبداله بـ "أتعلم من أخطائي وأصبح أفضل". يبني هذا التحول في التفكير صورة ذاتية قوية ومستقرة.
- كيف تتكون الصورة الذاتية من خلال ممارسة التفكير الإيجابي؟ من خلال أمثلة عملية:
- التأكيدات اليومية: ابدأ يومك بتكرار عبارات إيجابية، مثل "أنا قادر على تحقيق أهدافي" أو "أنا أستحق النجاح". تعزز هذه العبارات احترام الذات وتزيد الدافع الشخصي.
- تحدي الأفكار السلبية: عند مواجهة فكرة سلبية، استبدِلها بأخرى إيجابية، فإذا فكرت لن أتمكن من إتمام هذا المشروع، استبدِلها بـ "سأبذل قصارى جهدي لإتمام هذا المشروع بنجاح".
- الاحتفال بالإنجازات الصغيرة: كلما حققت هدفاً، مهما كان صغيراً، احتفِل به، فهذا يقوي من الصورة الذاتية.
شاهد بالفيديو: 10 طرق لجعل التفكير الإيجابي عادة من عاداتك
2. تحديد الأهداف الواقعية
يعد تحديد الأهداف الواقعية من أهم التلميحات للصورة الذاتية؛ لأنه يربط بين التفكير الإيجابي والعمل الفعلي تجاه تحقيق الإنجازات، فالأهداف الواقعية تمنح الشخص إحساساً بالإنجاز وتقلل الشعور بالإحباط الناتج عن وضع توقعات غير قابلة للتحقيق. من خلال:
- زيادة الثقة بالنفس: عندما ينجح الفرد في تحقيق أهدافه الواقعية، يشعر بالكفاءة والقدرة على التحكم بحياته، ويزيد بذلك احترامه لذاته، مثلاً إذا كان هدفك ممارسة الرياضة بانتظام، ابدأ بجلسات قصيرة 20 دقيقة ثلاث مرات أسبوعياً، بدلاً من الالتزام بساعتين يومياً دفعة واحدة، فهذا يضمن النجاح المستمر ويقوي صورتك الذاتية.
- التركيز على الإنجاز بدلاً من الفشل: تحوِّل الأهداف الواقعية التركيز من العقبات إلى الخطوات العملية الصغيرة التي تقود إلى النجاح.
- تحفيز التفكير الإيجابي: تعزز رؤية التقدم خطوة بخطوة النظرة الإيجابية للذات ويجعل الشخص أكثر استعداداً لتحدي الصعوبات المستقبلية.
3. تطوير المهارات والقدرات
يعد أول ما يجب الاهتمام به عند التفكير في كيف تتكون الصورة الذاتية، فكلما شعر الفرد بأنه ينمو ويتطور باستمرار، ازدادت ثقته بنفسه وارتفعت رؤيته لقيمته الشخصية، فالتعلم المستمر وتوسيع نطاق المهارات يرسخان إحساساً بالقدرة والفاعلية، ويعززان الصورة الذاتية من خلال:
- تعزيز الإحساس بالكفاءة والإنجاز: عندما يكتسب الشخص مهارة جديدة، سواء في العمل أم الحياة اليومية، يتولد لديه شعور بالقدرة والسيطرة على مجريات حياته.
- توسيع دائرة الفرص: يفتح تطوير المهارات آفاقاً جديدة أمام الفرد، سواء في المجال المهني أم الشخصي؛ أي الحصول على فرص عمل أفضل أم في تكوين علاقات أكثر نجاحاً.
- تقليل المشاعر السلبية: يقلل الانشغال بالتعلم والنمو من التركيز على النقد الذاتي أو المقارنات السلبية مع الآخرين، ويغذي الإحساس بالرضى عن الذات.

4. إحاطة النفس ببيئة داعمة
تعد البيئة الداعمة من التلميحات للصورة الذاتية، فالفرد لا يبني نظرته إلى نفسه بمعزل عن الآخرين؛ بل تتشكل هذه النظرة من خلال التفاعل اليومي مع الأشخاص والمواقف المحيطة به، فعندما يُحيط الإنسان نفسه بأشخاص إيجابيين، وداعمين، ومشجعين، يبدأ في رؤية ذاته بعيون أكثر إنصافاً ولطفاً، أما البيئة السلبية، والمليئة بالنقد، والمقارنات، والتقليل من الشأن فتُضعف الثقة بالنفس وتشوِّه الصورة الذاتية على الأمد الطويل؛ إذن كيف تتكون الصورة الذاتية من خلال البيئة الداعمة؟
- تعزيز التقدير الذاتي من خلال الدعم العاطفي: تُشعِر العلاقات الصحية الفرد بالقبول والانتماء وترفع احترامه لذاته.
- تحفيز النمو الشخصي من خلال القدوة الإيجابية: وجود أشخاص ملهمين في حياتك سواء في العمل أم الأسرة يدفعك لتطوير ذاتك وتقليد سلوكاتهم الناجحة.
- تقليل التأثيرات السلبية: إحاطة النفس ببيئة صحية تُقلل التعرض للطاقة السلبية والمقارنات الضارة التي تضعف الثقة بالنفس.
5. التعامل مع النقد تعامُلاً بنَّاءً
يعد التعامل مع النقد تعاملاً بنَّاءً مهارة أساسية لبناء الصورة الذاتية الإيجابية والمتوازنة، فالنقد، سواء أتى من الآخرين أم من صوتنا الداخلي، يمكن أن يكون مصدر نمو أو سبباً في تدمير الثقة بالنفس وفق الطريقة التي نتعامل بها معه. إليك بعض النصائح لكيفية التعامل مع النقد:
- استمِع بهدوء دون انفعال: عندما نتلقى نقداً، علينا أن نتنفس بعمق ونستمع بالكامل قبل الرد، فالانفعال الفوري يجعلنا نغلق الباب أمام التعلم.
- ميِّز النية من وراء النقد: ليس كل نقد موجَّه ضدك شخصياً؛ لذا افهَم في البداية نية الشخص الناقد، هل يسعى لمساعدتك فعلاً أم للتقليل منك؟ هذا الوعي يساعدك على التعامل بحكمة.
- استخلِص الفائدة وتجاهَل التجريح: حتى النقد القاسي يمكن أن يحمل جزءاً من الحقيقة. خذ ما يفيدك، واترك ما لا يخدم نموك.
- حوِّل النقد إلى دافع للتطور: استخدِم الملاحظات لتضع خطة تطوير واضحة، فالنقد البنَّاء يمكن أن يصبح نقطة انطلاق لنسخة أفضل من نفسك.

نصائح يجب عليك البدء بها لبناء الصورة الذاتية:
- اختر دائرة أصدقاء تشجعك على التطور لا على المنافسة السلبية.
- شارِك في مجموعات أو مجتمعات تهتم بنموك الشخصي أو المهني.
- قُل “لا” للعلاقات التي تستنزف طاقتك أو تقلل قيمتك.
- كوِّن عادات يومية إيجابية داخل بيئتك المنزلية، مثل الامتنان، والتشجيع المتبادل، والاحتفال بالنجاحات الصغيرة.
العلاقة بين التصور الذاتي والصورة الذاتية
يرتبط التصوُّر الذاتي بالصورة الذاتية ارتباطاً وثيقاً، لكنهما ليسا الشيء نفسه، فالتصوُّر الذاتي هو الفكرة العامة التي يحملها الإنسان عن نفسه، وتشمل قيمه ومعتقداته وأدواره في الحياة، أمَّا الصورة الذاتية، فهي الجزء الذي يعبِّر عن كيف يرى الشخص مظهره وصفاته وسلوكه في الواقع، وبمعنى آخر، التصوُّر الذاتي هو الإطار الكبير الذي تندرج تحته الصورة الذاتية بوصفها انعكاساً ملموساً لكيفية رؤية الإنسان لنفسه يومياً.
الأسئلة الشائعة
1. كيف تتكوَّن الصورة الذاتية؟
تتكوَّن من تجارب الفرد، وتقييمه لذاته، وردود أفعال الآخرين تجاهه، إضافةً إلى معتقداته وأفكاره عن نفسه من خلال الزمن.
2. ما الفرق بين الصورة الذاتية والتصوُّر الذاتي؟
تركِّز الصورة الذاتية على كيف يرى الفرد مظهره وسلوكه، بينما التصوُّر الذاتي يشمل قيمه ومعتقداته وأدواره ويعبِّر عن هويته الكاملة.
في الختام
الصورة الذاتية هي المرآة التي تعكس طريقة تفكيرنا وسلوكنا وتعاملنا مع الحياة، فحين نرى في ذواتنا القوة والجدارة والقدرة على التعلُّم، نتحرَّك بثقة تجاه أهدافنا، ونواجه التحديات بعقلية النمو بدل الخوف أو التقليل من الذات.
يحتاج بناء صورة ذاتية إيجابية إلى وعي وممارسة مستمرة من خلال التفكير الإيجابي، وتحديد الأهداف الواقعية، وتطوير المهارات، وإحاطة النفس ببيئة داعمة، والتعامل البنَّاء مع النقد.
دوِّن اليوم ثلاث صفات إيجابية تراها في نفسك كل صباح، وذكِّر نفسك بأنك في رحلة تطور مستمرة، فالصورة التي تختار أن تراها عن نفسك اليوم، هي التي سترسم ملامح مستقبلك غداً.
أضف تعليقاً