تعتمد أهدافٌ مثل: فقدان الوزن، أو تعزيز الصحة، أو زيادة الإنتاجية، أو زيادة الدخل؛ على تطوير سلوكاتٍ جديدة، فلا يمكننا إنجاز شيءٍ جديدٍ من خلال تكرار ما قمنا به دائماً؛ لذا لابدَّ لنا من التخلِّي عن عاداتٍ قديمةٍ من أجل تطوير عاداتٍ جديدة.
يُقال أنَّ التخلِّي عن عادةٍ يستغرق 21 يوماً، لكنَّ بناء سلوكٍ جديدٍ مُستدامٍ قصةٌ مختلفةٌ تماماً، وربَّما قد نفشل جميعاً عند هذه النقطة، وما علينا إلَّا أن نلقيَّ نظرةً على الإحصاءَات المتعلِّقة بقرارات رأس السنة الجديدة لإدراك هذا.
وجدت دراسةٌ أجرتها جامعة كولومبيا عام 2018 أنَّ 80٪ من قرارات رأس السنة الجديدة أخفقت قبل نهاية شهر شباط؛ كما كتبت الأستاذة المساعدة في الطبِّ السلوكي "جينيفر سومنر" (Jennifer Sumner)، في الدراسة نفسها: "لقد قمنا بالكثير لمساعدة الناس على تغيير سلوكاتهم، لكنَّنا لا نملك فعلياً الكثير من المبادرات الناجحة لمساعدة الناس على إبقاء هذه التغييرات مستدامة".
فإذا احتار العلماء في ذلك، فما فرصتنا نحن؟
الأغرب من ذلك أنَّ بعضنا قادرٌ على إبقاء التغيير السلوكي وتشكيل عاداتٍ صحيةٍ طويلة الأجل، في حين أنَّ الآخرين ليسوا كذلك.
يبدو أنَّ تركيز معظم التعديلات السلوكية يكون على المصادر الخارجية، لا الداخلية؛ ويعني هذا أنَّ لدى الشخص قائمةٌ بما يجب وما لا يجب عليه فعلها، ويحاول تبنِّي العادات الجديدة بالطريقة نفسها التي يتبعها أيُّ شخصٍ آخر.
ما أُهمِل هنا هو أنَّ لكلِّ شخصٍ طبيعةٌ مختلفة، فلا يوجد شخصان متطابقان تماماً؛ ممَّا يعني أنَّ تكتيكات تغيير السلوك لن تنجح مع الجميع بالضرورة.
ومع ذلك، إذا كنت تواجه صعوبةً في تغيير بعض السلوكات، فأنت لم تفقد كلَّ شيء، وستجد سبيلاً لذلك، إذ يتعلَّق الأمر أولاً بفهم كيفية اختلاف حالتك؛ ومن ثمَّ إجراء تعديلاتٍ على العادة بدءاً من تلك النقطة.
ستجد فيما يأتي العديد من الأسباب التي تجعل تغيير السلوك صعباً جداً:
1. يؤثِّر ماضينا في خياراتنا السلوكية:
إنَّ عاداتنا وسلوكاتنا البالية نتاج تجاربنا والقرارات التي اتخذناها فيما مضى، فربَّما رأينا أو سمعنا أو أحسسنا بشيءٍ ما، وقرَّرنا لهذا السبب تصديق أيَّ شيءٍ عن أنفسنا والعالم.
تتشكَّل بعضٌ من أكثر تلك المعتقدات تقييداً بين أعمار 1 و7 سنوات، وتخدمنا جميعها بطريقةٍ إيجابيةٍ إلى حدٍّ ما، لكنَّها تقيِّدنا في نهاية المطاف عندما نريد التغيير أو التطور؛ لأنَّها هي التي توجِّه سلوكنا، فتبدأ اعتراض طريقنا في حال أردنا تبنِّي عاداتٍ جديدة أو تغيير القديم منها.
عادةً ما يوجِّه نظام معتقداتنا سلوكاتنا انطلاقاً من عقلنا اللاوعي؛ لذا نعود تلقائياً إلى السلوك القديم، إذ نفعل ذلك حتَّى لو لم نُرِده، وقد وصف الناس هذا على أنَّه الشعور بأنَّك "عالق"، فأنت تعرف ما يجب فِعله، لكنَّك تفعل العكس على الرغم من هذا.
أسهل مثالٍ يمكن تقديمه هنا هو فقدان الوزن، فإذا كنت تؤمن في اللاوعي أنَّك لست جيداً بما فيه الكفاية، فقد يعني هذا أنَّك ستختار قطعة الكعك عندما تذهب إلى الثلاجة بدلاً من اختيار قطعة فاكهةٍ طازجة، فيدعم هذا اعتقادك ويبقيك في منطقة راحتك.
ومع وضع هذا الاعتقاد في عين الاعتبار في بيئة العمل، قد تختار الخوض في وسائل التواصل الاجتماعي بدلاً من إجراء مكالمات العمل تلك.
مفتاح التغيير هنا هو الوعي، وإدراك المعتقدات المُقيدِة التي تمتلكها، واتخاذ قرار واعٍ بتغييرها.
2. تُوجّه هويتنا الأساسية سلوكنا:
هناك أيضاً تلك الأشياء الغامضة التي نُطلِق عليها تسمية "القيم الأساسية"، والتي تكون مُدمجةً مع مجموعةٍ كاملةٍ من المعتقدات المختلفة؛ فقيمنا هي الأشياء التي تهمُّنا، وهي سبب ما نحن عليه وما نقوم به، إذ إنَّها في جوهر الشخصيات التي نعتقد أنَّنا نكونها، والتي رافقتنا في حياتنا.
اكتشفت دراسةٌ حديثةٌ وجود صلةٍ هامَّةٍ بين القيم الأساسية وضبط النفس، وقد نصَّت هذه الدراسة على أنَّه: "من الممكن أنَّ يُسهِّل التعبير عن القيم الأساسية للمرء عملية ضبط نفسه، بغضِّ النظر عن مستوى الفهم الذي يُعبَّر فيه عن تلكَ القيم"؛ بمعنى أنَّنا نتعرَّف على قيمنا، فتصبح هي محركاتٍ سلوكية قوية.
علاوةً على ذلك، وجدت الدراسة أنَّ التأكيد على القيم الأساسية يؤدِّي إلى إحساسٍ كاملٍ بالذات.
إنَّه لمن السهل أن ترى كيف يمكن لذلك أن يؤثِّر في قدرة المرء على العمل على تغيير السلوك، إذ تزداد قدرتك على التغيير كثيراً مع مستوىً أعلى من ضبط النفس، ورؤيةٍ أكثر اكتمالاً للشخص الذي أنت عليه.
كثيراً ما تعمل القيم الأساسية على مستوى اللاوعي، بمعنى أنَّها ستؤثِّر في أيِّ قرارٍ نتخذه تلقائياً، وتقترح الدراسة أعلاه أنَّ جعل هذه القيم ظاهرةً من خلال التأكيدات الإيجابية؛ يؤثِّر في قراراتنا بطريقةٍ أكثر وضوحاً وشمولية.
لكلِّ شخصٍ قيمه المختلفة بالتأكيد، فلا يوجد شخصان لديهما القيم نفسها تماماً، ويفسِّر هذا أيضاً -وبوضوح- السبب في أنَّ تغيير السلوك عصيٌّ عند بعض الناس، بينما لا يكون كذلك عند الآخرين.
بتطبيق هذا على مثال فقدان الوزن السابق، تخيَّل أنَّك تقدِّر شعور الانتماء، ممَّا يؤدِّي إلى مخاوف بشأن التواجد مع أشخاصٍ لا يتصرَّفون مثلك؛ لذا قد يعني الخروج لتناول كوبٍ من القهوة مع أصدقاء جدد إأن تشعر بأنَّك شخصٌ غريب، وقد تختار بسبب هذا تناول الحلوى بدلاً من شرب القهوة.
في مثال العمل: ربَّما تقدِّر الدعم، وربَّما يتعلَّق الأمر بالتواجد هناك من أجل دعم من يحتاجك؛ إذ قد تريد تحقيق أشياء أكبر، ولكنَّ شخصاً ما يحتاج إلى المساعدة، فتعطي الأولوية لطلبه بدلاً من القيام بتلك المهام الأساسية بالنسبة إليك.
السر هنا هو وجود الوعي، وتذكُّر قيمنا القابعة في لاوعينا، والتي لا يملك الكثير من الناس فهماً دقيقاً لها.
سيساعدك إدراك قيمك ونظام معتقداتك الذي يكمن خلفها، على معرفة ما يجب تغييره داخلياً؛ وسيغير صنع تلك التعديلات الداخلية سلوكك بدوره.
3. أنت لا تعرف "أسبابك":
يسمِّي الأستاذ المساعد في علم النفس "د.إليوت بيركمان" (Eliot Berkman) هذا بـ "الإرادة".
لا يتعلَّق هذا بقوة الإرادة، إنَّما بفهم "سبب" التغيير، ولماذا يعدُّ هامَّاً.
يحاول الكثير من الناس تغيير عاداتهم دون فهم سبب أهمية ذلك بالنسبة إليهم شخصياً؛ فمثلاً: لمجرد أنَّ صديقك فعل شيئاً ما، فقد تعتقد أنَّه قد تكون فكرةً جيدةً بالنسبة إليك أيضاً، أو تعتقد أنَّه شيءٌ من الجيد القيام به، أو يجب عليك القيام به، أو من الضروري القيام به؛ أو ربَّما كنت تفعل ذلك لأنَّ شخصاً آخر يريدك أن تقوم بذلك، أو طلب منك القيام به، وهلمَّ جرا.
يمكن أن يسبِّب القيام بذلك لأجل شخصٍ آخر ما يُسمَّى بـ "التأرجح"؛ إذ تبدأ بكلِّ شيءٍ بحماس، ثمَّ تفقد الاهتمام وتتوقَّف، ثمَّ ترى خيبة أملهم فتبدأ مرةً أخرى، وهكذا. والحقيقة الثابتة: إذا لم تكن أنت "المعني"، فسيتلاشى دافعك سريعاً، وستفشل محاولاتك.
ستثير معرفة سبب رغبتك الشخصية في التغيير، وسبب أهميته بالنسبة إليك حماسك في أيِّ زمانٍ ومكان، ويتعلَّق هذا بربط رغبتك في التغيير بقيمك، حتَّى تتمكَّن من التواصل معها عاطفياً.
سيؤدِّي ذلك إلى إجراء تعديلاتٍ سلوكيةٍ على المدى الطويل.
شاهد بالفيديو: 10 طرق فعّالة لتعزيز قوّة إرادتك.
4. أنت تتخذ الطريق الأقلَّ مقاومة:
تُركِّز عالمة النفس السريري "الدكتورة صوف" (Dr. Soph) على جعل علم الأعصاب بسيطاً ويَسهُل فهمه، حيث إنَّها تشير إلى السير في الطريق الأقلِّ مقاومة، مثل: "التوازن" الذي يحافظ على الأشياء كما هي.
يتعلَّق الأمر بالبقاء داخل منطقة راحة نشعر فيها بالأمان والاطمئنان، حيث يمكننا تخطِّي الأمر دون صرف الكثير من الطاقة.
توضِّح "د. صوف" ذلك قائلة: "عندما يكرِّر عقلك عادةً ما، فإنَّه لا يحتاج إلى صرف الكثير من الطاقة؛ لأنَّ هذه العادة لا تحتاج إلى إشراك قشرة الفص الجبهي فيها".
وتُشبِّه "د. صوف" هذه العملية بخلق مسارٍ جديد في الحقل، إذ سيكون من الأسهل دائماً المشي على مسارٍ معروفٍ ومريحٍ بسبب الاستخدام المتكرِّر؛ في حين أنَّ بدء مسارٍ جديدٍ في حقلٍ مليءٍ بالعشب الطويل أمرٌ مُتعِب، ويتطلَّب مزيداً من التحفيز والطاقة، وسيختار أغلبنا المسار المريح والمعروف مسبقاً بطبيعة الحال.
ينطبق الشيء نفسه على أي تغيير، وبالنسبة إلى بعضنا الذين يفضِّلون التماثُل، سيصعُبُ عليهم القيام بهذه التواصلات الجديدة.
يأتي هنا دور قاعدة الـ 21 يوماً، على الرغم من أنَّ قاعدة الـ 90 يوماً قد تكون أكثر واقعيةً إذا كنَّا نتحدَّث عن تغييرٍ مُستدامٍ على المدى الطويل، حيث لا يتوقَّف عقلنا اللاواعي خلال هذه الأشهر الثلاثة عن محاولة العودة بنا إلى الروابط العصبية القديمة؛ ذلك لأنَّها أسهل.
إنَّه مثل زلَّاجةٍ على قمة منحدرٍ ثلجي، حيث سيكون المسار الذي استخدمته الزلَّاجات مراتٍ عديدةً أسهل وأصلب؛ وستتبع الزلَّاجة هذا المسار بسلاسة؛ بينما سيستغرق صنع مسار جديد وقتاً.
مرةً أخرى، الإدراك الواعي هو المفتاح هنا؛ لذا ذَكِّر نفسك أنَّك تعمل على ترسيخ الربط العصبي الجديد، حيث يجب أن تعلم متى تحاول العودة إلى المسار القديم، ومتى توجِّه نفسك بعيداً عنه مرةً أخرى.
5. نحن امتدادٌ للآخرين:
السبب الآخر الذي قد يجعلنا نجد أنَّ التغيير في السلوك شديد الصعوبة هو أنَّنا نقلِّد الآخرين بقوة، وهذا بسبب الخلايا الصغيرة في الدماغ التي تُسمَّى "الخلايا العصبية المرآتية".
يوضِّح عالم الأعصاب ماركو ياكوبوني (Marco Iacoboni) ذلك قائلاً: "على الأرجح أنَّ الطريقة التي تسمح لنا بها الخلايا العصبية المرآتية بفهم الآخرين، هي من خلال تزويدنا بنوعٍ من التقليد الداخلي لأفعال الآخرين، والذي يقودنا بدوره إلى "محاكاة" النوايا والعواطف المرتبطة بتلك الإجراءات".
قد يساعد هذا في تفسير سبب دخولنا في طريقنا، فعند محاولة التناغم مع مجموعةٍ اجتماعيةٍ معينةٍ من خلال التقليد، قد تفقد أدمغتنا التركيز على تغييراتٍ محددةٍ نريد القيام بها لنكون مختلفين.
هذه الخلايا العصبية هي في النهاية مفتاح التنشئة الاجتماعية، وهي التي تساعدنا على بناء مهاراتنا الاجتماعية، وهي نفسها التي تجعل الطفل يبتسم عندما نبتسم.
إذا كان لدينا دائرةٌ أقرب من الأصدقاء أو الأحباء الذين لديهم عاداتٌ يمكن أن تعطِّل تغيُّرنا، فمن المرجح أن نعود كما كنا؛ لهذا السبب إذا كنَّا نحاول الإقلاع عن التدخين ولا يزال شريكنا يدخِّن، فيمكن أن يكون من الصعب الالتزام بذلك حقاً.
الإدراك الواعي لهذا أمرٌ ضروري؛ فإذا كنت ترغب في تحقيق تغييرٍ مستدام، أحِط نفسك بأشخاصٍ ذوي تفكيرٍ مماثلٍ قدر الإمكان، وسيساعدك شرح هذه الظاهرة لهؤلاء الأقرب إليك وطلب دعمهم.
أفكارٌ أخيرة:
تغيير السلوك ليس بالأمر الصعب؛ إنَّه فقط ليس سهلاً عند محاولة القيام به دون إدراكٍ لعلم الأعصاب. لذا امنح نفسك فترة راحة، ولاحظ التحسينات التي تقوم بها خطوةً بخطوة، وكن مرناً في أثناء تقدُّمك، وتعلَّم من أخطائك.
ستصبح التغييرات مستدامةً من خلال إدراكك لكونك مختلفاً، ومن ثمَّ تعديل استراتيجياتك لتتناسب معك؛ وستلاحظ في النهاية كيف أصبحت العادات الجديدة تلقائية.
أضف تعليقاً