ملاحظة: هذا المقال مأخوذ عن المدون غريغ أورم (Greg Orme)، والذي يحدثنا فيه عن تجربته في ممارسة الامتنان.
إنَّه لأمر غريب أنَّني أجري الآن تمارين امتنان مماثلة مع كبار المديرين التنفيذيين في برامج القيادة الخاصة بي في كلية لندن للأعمال (London Business School). كشف العلماء في السنوات السابقة عن الفوائد النفسية والجسدية والاجتماعية الرائعة الناجمة عن ممارسة الامتنان في حياتنا، وتشير الدراسات إلى أنَّ ممارسة الامتنان لمدة خمس دقائق فقط كل يوم يمكن أن تجعلك أكثر سعادة بنسبة 25%؛ حيث يشعر الأشخاص الذين يقدِّرون ما يملكون بمزيد من الفرح والسرور والتفاؤل في حياتهم، مما يقودهم إلى أن يصبحوا أكثر كرماً ورحمة وتسامحاً تجاه الآخرين.
من المثير للدهشة أنَّ البحث الرائد لعالِمَي النفس روبرت إيمونز (Robert Emmons) ومايكل ماكالوغ (Michael McCullough) يذهب إلى أبعد من ذلك؛ حيث يظهر بأنَّ الأشخاص الذين هم أكثر امتناناً يبنون جهاز مناعة أقوى، ولا يعانون من الألم وضغط الدم، كما أنَّهم يمارسون التمارين اليومية ويعتنون بصحتهم بشكل أفضل، بالإضافة إلى أنَّهم يميلون إلى الحصول على نوم أفضل أثناء الليل، ويكونون أكثر استرخاءً عند الاستيقاظ. أمَّا على الصعيد الاجتماعي، يشعرون بأنَّهم أقل عزلة، حيث بات الشعور بالامتنان هام الآن أكثر من أي وقت مضى، ولا سيما بعد أن عانى المزيد من الناس منَ الشعور بالوحدة أثناء الجائحة.
تقدِّم هذه النتائج المتطورة مسارات تؤدي إلى نجاح الأعمال التجارية، فضلاً عن تعزيز سلامة الفرد؛ فإذا قبلنا بأنَّ الامتنان يزيد السعادة، فإنَّنا نعلم أيضاً أنَّ الأشخاص المسرورين، هم أكثر فضولاً وإبداعاً ومرونة وهذه صفات رائعة يجب امتلاكها في عالم ما بعد الجائحة المضطرب والمليء بالتحديات.
رفع مستوى السعادة:
على الرغم من أنَّ الأدلة على تحديد معنى الامتنان جديدة نسبياً إلا أنَّ المفكرين العظيمين عرَّفوا الامتنان منذ فترة طويلة بأنَّه سمة مرغوبة للعقل الناضج عاطفياً، ووصَفَه رجل الدولة الروماني ماركوس شيشرون (Marcus Cicero) بأنَّه أعظم فضيلة وأصل كل الصفات المفيدة الأُخرى؛ كما وصف الفيلسوف ديفيد هيوم (David Hume) في القرن الثامن عشر الجحود بأنَّه "أفظع جريمة يمكن أن يرتكبها الإنسان". وفي مسرحية الملك لير (King Lear) لشكسبير، يتهم بطلهُ بغضبٍ ابنته الجحودة جونريل (Goneril) بأنَّها "شريرة ذات قلب رخامي"، فليس من المستغرب أن يصر آباؤنا على أن نتشكَّر الآخرين".
يسمي علماء النفس المستوى الشخصي من السعادة اليومية بـ "النقطة المحددة" (set point). جميعناً يرث مقياساً فردياً للبهجة متجذِّراً في جيناتنا وتربيتنا، ولطالما قيل أنَّ هذا الوضع يستقر بشكل ثابت مع مرور الوقت، إلا أنَّ الأبحاث تظهر أنَّه سواء أفزت في اليانصيب أم تعرَّضت لإصابة في جسدك، فإنَّك تعود مرةً أُخرى إلى تلك "النقطة المحددة" بعد ثلاثة إلى ستة أشهر؛ وإن كنت تشك في ذلك، ففي المرة القادمة التي تستقل فيها طائرة، انظر إلى وجوه الأشخاص الجالسين في مقاعد درجة رجال الأعمال المريحة، ولاحظ فيما إذا كانوا يبدون أكثر بهجة؛ فغالباً سوف تجد وجوههم تكشف عن نفس مستوى السعادة الذي يملكه الأشخاص الأقل حظاً.
يقترح باحثو علم النفس الإيجابي أنَّ بعض العادات يمكن أن تغير "النقطة المحددة" لسعادتك وتوجهها في الاتجاه الصحيح، وهناك نقاش مفيد حول حجم التأثير الذي يمكن أن ينتج عن ذلك، ومع ذلك تم الاتفاق على نقطة واحدة، ألا وهي أنَّ الامتنان هو أحد المشاعر الإنسانية المتعمَّدة القليلة التي لها تأثير مستدام.
فيما يلي ثلاث نصائح بسيطة لكنها فعالة لرفع مستوى السعادة والاحتفاظ به.
1. أحصِ النعم التي رُزِقتَ بها:
تؤدي كتابة ثلاثة أشياء جديدة تشعر بالامتنان لوجودها إلى تغيير البنية المادية لعقلك، وقد أظهر الباحثون أنَّ التأثير يظهر بعد حوالي ثلاثة أسابيع من هذا النشاط اليومي. قال عالم النفس الأمريكي شون أكور (Shawn Achor) مؤلف كتاب "ميزة السعادة" (The Happiness Advantage): "في نهاية المطاف، يبدأ دماغهم في الاحتفاظ بنمط مسح العالم ليس من أجل الأمور السلبية، إنَّما من أجل الأشياء الإيجابية أولاً".
2. أَرسل بريداً إلكترونياً تعبر فيه عن الامتنان:
تكمن الطريقة الأُخرى في التعبير بوعي عن الامتنان إلى الأشخاص الموجودين في حياتك، ففي برامج القيادة الخاصة بي نطلب من المشاركين اختيار ثلاثة أشخاص وكتابة قصة قصيرة عنهم على شكل بريد إلكتروني، والهدف من ذلك هو وصف الوقت الذي قدَّم فيه هذا الشخص المساعدة.
ينصح البروفيسور دان كابل (Dan Cable) مؤلف كتاب "استثنائي: نصائح لإنشاء لتسليط الضوء على نفسك وإطلاق العنان لإمكاناتك" (Exceptional: Build Your Personal Highlight Reel and Unlock Your Potential, advises) أنَّه "من المهم أن يكون للقصة المكتوبة على شكل بريد إلكتروني بداية وعرض وخاتمة. أنا أشجع الناس على إدراج عناصر محدَّدة من الحدث، مما يساعد الشخص الذي يتلقى البريد الإلكتروني على استرجاع الذكريات عند قراءتها".
عندما استجمع كبار المسؤولين التنفيذيين الشجاعة لكتابة رسائل البريد الإلكتروني الخاصة بهم، والتي يعبرون فيها عن الامتنان، شهدنا أنا ودان أنَّه في غضون ساعات أو أيام، غالباً ما يتلقى المديرون بريداً إلكترونياً مماثلاً من صديقهم أو زميلهم أو أحد أفراد أسرتهم.
وإذا كنت قلقاً بشأن مشاركة قصة تعبر فيها عن الامتنان، فهناك جانب رائع من البحث يشجعك على القيام بذلك؛ فقد اتَّضحَ أنَّ كتابة القصة تستحق عناءك، حتى لو لم ترسل البريد الإلكتروني، حيث تُظهر الأدلة أنَّ الأشخاص الذين يؤلفون الروايات ويقررون الاحتفاظ بها لأنفسهم، لا يزالون يتمتعون بالفوائد الرائعة على عكس غيرهم.
وهذه العادة المتمثلة في التعبير عن الامتنان صراحةً - خطياً أو وجهاً لوجه - لها أثر مضاعف؛ حيث وجد الباحثون أنَّ التحسُّن في الصحة العقلية يزداد بعد اثني عشر أسبوعاً من هذه العادة وهذا أمر مثير للاهتمام؛ لأنَّ فوائد الصحة العقلية للأنشطة الإيجابية غالباً ما تنخفض بمرور الوقت.
3. تأمَّل بامتنان:
لقد حوَّل فيروس كورونا الوعي التام - القدرة على التركيز على اللحظة الحالية دون إصدار حكم - من بدعة إدارية إلى أداة عمل أساسية، فقد أصبح من الممكن أن تضفي الامتنان على هذا النهج القوي، من خلال التركيز على ما أنت ممتن له حالياً سواء أكان دفء الشمس أم كتاب رائع تقرأهُ أم شخص مميز في حياتك.
أصبحت السعادة موضع تركيز شديد أثناء الجائحة، وقد كانت النتائج في استطلاع أجرته مؤسسة غالوب (Gallup) مؤخَّراً منافية للمنطق، حيث ارتفع متوسط السعادة في خمسٍ وتسعين دولة مقارنة بثلاث سنوات قبل ظهور فيروس كورونا، إلا أنَّ الأمر الأكثر إثارة للدهشة هو أنَّ فيروس كوفيد-19 زاد من سعادة كبار السن أكثر من أي مجموعة أُخرى، على الرغم من أنَّ خطر الموت أعلى بكثير بينهم، لكن وسطياً يكون كبار السن أكثر بهجة عندما يكون الشباب أكثر بؤساً وسبب ذلك هو الامتنان. في الشهر الماضي، قالت مجلة ذي إيكونوميست (The Economist): "ربما لا يتمتع كبار السن بصحة جيدة، إلَّا أنَّهم يشعرون بصحة أفضل لأنَّهم استطاعوا أن يتفادوا مرضاً كاد أن يقتلهم".
يدعم البحث العلمي في الامتنان الآن الأساليب التي استخدمتها أنا وزوجتي مع أولادنا الصغار، فبالنسبة إلى أبوين عاملين متعبين، بدأت لعبة الامتنان (The Grateful Game) عند وجبة العشاء على أساس إيجابي، وتغلَّبنا من خلالها على السلوك السلبي ووجدنا أنَّه من الأسهل تحويل انتباههم إلى شيء إيجابي، بدلاً من رفضنا المستمر للسلوك السلبي.
بمقدرتنا جميعاً القيام بذلك، حيث يمنحك الامتنان القدرة على تحويل انتباهك بعيداً عن المشاعر السَّامة نحو شيء أكثر ابتهاجاً، وما عليك فعله هو ممارسة الامتنان لمدة طويلة وسوف يعيد برمجة دماغك لتكون بذلك شخصاً أكثر سعادة، ولهذا السبب يمكننا جميعاً أن نكون ممتنين للغاية.
أضف تعليقاً