ليس تعاطفك مع غيرك أمراً سيئاً؛ بل على العكس من ذلك، فإنَّ صدقك في التعامل أمرٌ ضروريٌّ جداً، ولكنَّ الأمور بلغت اليوم حداً غير مقبول، فالمساواة والإدماج بدأت تأخذ مناحٍ سلبيةً، إذ يريد جميعهم مجتمعاً أكثر شمولاً ومساواةً؛ يملك كل فرد فيه فرصةً متساويةً لتحقيق طموحاته، لكن عندما تهيمن المساواة التي تعتمد على مبدأ المقارنة، فإنَّ جميعهم قد ابتعدوا عن المنطق السليم.
شاهد: 12 طريقة فعالة لتطوير الذات
لماذا تقارن نفسك دائماً بالآخرين؟
كيف تعرف أنَّك شخص ناجح؟ هذه مجرد تجربة فكرية بسيطة، حاول بجدية الإجابة عن السؤال، فقد تُعرِّف النجاح بأنَّه راتب كبير؛ وذلك لأنَّ معظم أقرانك لا يتقاضون مثل هذا الراتب.
فكِّر مليَّاً في الأمر، لو كان كل شخص يكسب 100 ألف دولار سنوياً، فلن يكون هذا الراتب مقياساً للنجاح، وبدلاً من ذلك، سيرتفع المقياس إلى 200 ألف دولار أو حتى 300 ألف دولار؛ فالسبب الوحيد الذي يجعلك تظنُّ أنَّ الراتب الكبير هو مؤشر للنجاح، هو أنَّ معظم الناس يحصلون على رواتب أقل نسبياً.
يعرف الإنسان نفسه نتيجة أوجه التشابه والاختلاف بينه وبين الآخرين، تماماً مثلما لا يمكنك معرفة اللون الأسود دون معرفة الأبيض أولاً، وكما لا يمكنك معرفة الثراء دون رؤية مآسي الفقر، فلو كان جميع البشر أثرياء بنفس الدرجة، لن يكون لديهم أي قيمة للثروة.
يقول الفيلسوف "آلان واتس" (Alan Watts): "إنَّني أعرف نفسي من منظورك ومن منظور الآخرين فقط، بصرف النظر عمَّا إذا كنت أرى الآخر أعلى منِّي منزلة أو أدنى منزلة في سلَّم النجاح، فإن كان في منزلة أعلى، فسوف أستمتع بشفقتي على نفسي، أمَّا لو كان في منزلة أدنى، فسوف أستمتع بشعور الفخر؛ إذ إنَّ مكانتي تتعلَّق تماماً بمكانتك أنت".
لا شك أنَّك تَعُدُّ مبلغ 10 ملايين دولار مقداراً كبيراً من المال؛ وذلك لوجود عدد أكبر من الأشخاص الذين لم يجنوا أبداً هذا المبلغ في حياتهم من أولئك الذين ربحوا هذا المبلغ، فلو كان متوسط دخل الفرد طوال حياته هو 10 ملايين دولار، فلن يبقى هذا الرقم مُذهلاً؛ بل سيصبح بديهياً ومتواضعاً.
إذا كنت ستربح 10 ملايين دولار سنوياً، وكان الإنسان العادي يكسب 50 ألف دولار، فستعلم أنَّك أكثر نجاحاً منه نسبياً؛ فإذاً بصرف النظر عن الموقف، فإنَّك تقارن نفسك بالآخرين دائماً.
يُشبه ذلك تماماً المقارنة المبتذلة بين اللونين الأبيض والأسود، فلو لم يوجد لون أبيض، فلن يفهم الإنسان اللون الأسود؛ إذ يمكن للبشر تعريف أي شيء بمقارنته مع الأشياء الأخرى.
كيف تصف فيلماً أو برنامجاً تلفزيونياً أو كتاباً؟ ستقول: "إنَّه مثل "ستار وورز (Star Wars) تماماً، لكنَّ أحداثه تجري في الماضي"؛ أي إنَّك ستقارنه مع أفلام مشهورة أخرى، فلو لم توجد أفلام فاشلة عن مغامرات الفضاء، فكيف ستعرف أنَّ "ستار وورز" كانت سلسلةً رائعة؟
كيف تعرف ما إذا كان المصباح الكهربائي ساطعاً؟ يمكنك التحديق به مطوَّلاً لتعرف ما إذا كان يؤذي عينيك، ولكنَّ إيذاء العين ليس شرطاً أساسياً للسطوع، فلو كانت جميع المصابيح ساطعةً بدرجة كافية لتؤذي الأعين، فسيصبح ذلك أمراً طبيعياً؛ لذا يتحدد سطوع المصباح بمقارنته بسطوع المصابيح الأخرى، أو حتى بضوء الشمس.
تُستخدم هذه الأيديولوجية حتى مع الأهداف الخيِّرة، فحتى لو كنت تعمل مع منظمة غير ربحية، فإنَّك ما تزال تعرف نفسك بالمقارنة مع المنظمات أو الأفراد الذين لا يُقدِّمون ما يكفي من الخير؛ إذ يواصل "آلان واتس" القول: "المشكلة أنَّه في اللحظة التي تتضامن فيها بجدية مع منظمة معيَّنة، ستجد نفسك مُحاصَراً ضمن مجموعة خاصة، التي تُعرِّف نفسها عادةً، بشيء من المكر الخفي، باستبعاد مجموعة خارجية".
فقد تشعر بالحماسة للعمل في مؤسستك غير الربحية، لكنَّ مشاعرك الإيجابية تنبع مباشرةً من المقارنة مع مجموعة أخرى، فقد تقول إنَّ الآخرين لا يساعدون على قدر ما تُساعد أنت، أو أنَّك تشعر بالرضى عند مساعدتك لهؤلاء الناس؛ وذلك لأنَّهم لا يملكون شيئاً في حين يملك غيرهم كثيراً من الأشياء، فمهما اختلفت الأمثلة فإنَّك تلجأ دائماً إلى المقارنة؛ وذلك لأنَّك تعرف نفسك فقط من عيوب الآخرين.
شاهد أيضاً: 10 نصائح لتطوير الذات وتنميتها
كيف تتوقف عن مقارنة نفسك بالآخرين؟
ما يعنيه ذلك كله هو أنَّك تتحدد تماماً بالـ "أنا"، فـ "الأنا" الخاصة بك هي الجزء من عقلك وجسدك الذي ينظر إلى شخص آخر ويبرِّر حالة حياتك الحالية من هذه المقارنة، وإنَّ قلقك بشأن آراء الآخرين عنك هو مثال كلاسيكي عن طريقة عملها.
فـ "الأنا" هي القوة الدافعة وراء دورتنا التي لا تنتهي من المقارنة مع الآخرين، لكن إذا قرأت أيَّاً من أدبيات تطوير الذات في الوقت الحاضر، فستجد أنَّها الشيء المحدد الذي تحتاج إلى التخلُّص منه لتحقيق السعادة، ولكنَّ ذلك سيُنشِئ مفارقةً؛ وذلك لأنَّك تحتاج إلى مقارنة نفسك بالآخرين لفهم ذاتك، وفي نفس الوقت، تحتاج إلى التخلِّي عن الأنا - التي تقوم أساساً بكل المقارنات - لتكون سعيداً.
قد يكون اللون الأسود هو لونك المفضل، وأقل لون تحبه هو الأبيض، لكن من دون اللون الأبيض المكروه، لن تتمكَّن أبداً من إدراك جمال اللون الأسود، وينطبق هنا نفس المبدأ.
خُذ الموجات الصوتية أيضاً على سبيل المثال؛ فالموجة لها قمَّة وقاع؛ أي جزء في الأعلى وجزء في الأسفل، فعندما تسمع أصواتاً؛ ما تسمعه هو الصمت بين الضوضاء، أو قمَّة الموجة الصوتية؛ أي من دون انعدام الصوت، لن تتمكَّن أبداً من سماع أي أصوات مميَّزة في المقام الأول.
تكمن المفارقة إذاً في أنَّك تحتاج إلى معرفة ما لا يفعله الآخرون في سبيل معرفة نفسك؛ لذا يجب عليك أن تفهم الـ "أنا" الخاصة بك لتُلاحظ غيابها، وستسأل نفسك إذاً، كيف يمكنك أن تتخلَّص من الـ أنا، وتمتلك في الوقت نفسه إحساساً راسخاً بذاتك؟ يجب عليك أن تكون فطناً؛ إذ تقبل الأنا وترفضها في نفس الوقت.
يتساءل "آلان واتس" بشيء من المرارة: "هل يستغرق الأمر منك وقتاً أو جهداً طويلاً لتفهم أنَّك تعتمد على الأعداء والغرباء لتعريف نفسك، وأنَّك ستضيع دون مقاومتهم؟ إنَّ فهم ذلك يعني اكتسابك، على الفور تقريباً، فضيلة الدعابة، ولكنَّ الدعابة والصلاح الذاتي أمران مستقلان".
ويتابع "واتس" بالقول: "إنَّ الفكاهة هي وميض في عين القاضي العادل، الذي يعرف أنَّه أيضاً الجاني في قفص الاتهام"، وإنَّ الإنسان عبارة عن تناقضٍ حي، فعليه إزالة الأنا المتمركزة في ذاته، ولكنَّه مطالب في نفس الوقت باستخدامها ليتمكَّن من تعريف نفسه مقارنةً بالآخرين، أليست الحياة مضحكةً؟
لا تقارن نفسك بالآخرين:
إنَّ الحياة بحد ذاتها عبارة عن مفارقة، إنَّها أمر لا يمكن فهمه، ومع ذلك، بصفتنا كائنات عقلانية، فإنَّنا نبذل قصارى جهدنا لفهمها ووضعها في قالب محدد قابل للفهم؛ لذلك، فإنَّ مفتاح الحل هو أن نفهم أنَّها مفارقة، وأنَّها أمر أوسع من أن يكون قابلاً للفهم؛ لذا في المرة القادمة التي تشعر فيها بأنَّ الأنا بدأت تتمكَّن منك، وعندما تنظر إلى شخص ما وتفكر في نفسك "كم أتمنى لو أبدو مثله"، تابع حياتك واستمتع واضحك.
فقد تُعارض الأنا سعادتك بأسلوب مباشر، إذا كنت تؤمن طبعاً بالاتجاه الحالي في الفلسفة والتنمية الذاتية، لكنَّها ضرورية لتعرف هويتك الشخصية؛ لذا لا تحاول مقاومتها؛ بل اشكرها على البصيرة التي تقدِّمها لك كما تشكر سواد الليل؛ وذلك لأنَّه يجعلك تُدرك جمال شمس الصباح.
وفي المرة القادمة التي تشعر فيها بأنَّك في صحبة شخص أفضل منك، أو حتى العكس، اعلم أنَّ هذه الأفكار ليست أفكارك الخاصة؛ بل هي نابعةٌ من الأنا.
أضف تعليقاً