هذا ما يُسمى بحالة التدفُّق الذهني، وهو أمرٌ حدَّده الباحث في علم النفس "ميهالي تشيكسينتميهالي" (Mihaly Csikszentmihalyi)، من "جامعة كليرمونت للدراسات العليا في كاليفورنيا" (Claremont Graduate University in California)؛ حيث إنَّنا جميعاً قد مررنا بهذه الحالة، والنبأ السار هو أنَّه لا ينبغي علينا انتظار حدوث حالة التدفُّق الذهني؛ بل يمكننا اتخاذ خطوات تسمح لنا بالوصول إليها.
يمكنك تجربة الفوائد الناتجة عن حالة التدفُّق الذهني في الكثير من الأحيان، بما في ذلك أن تكون متحمِّساً وأكثر إنتاجية وتحفيزاً؛ وذلك وفقاً لعازفة الكمان والمتحدِّثة الرئيسة "ديان ألين" (Diane Allen)، التي أصبحَت خبيرة في مساعدة الناس على العثور على حالة التدفُّق الذهني الخاصة بهم؛ حيث إنَّ العثور على حالة التدفُّق الذهني يمكن أن يؤدِّي إلى توسيع نطاق حياتك المهنية ودائرة علاقاتك وحتى هواياتك.
عندما تسمع كلمة "تدفُّق"، قد تفكر في الموسيقيين والرياضيين وممارسي اليوغا والعلماء في المختبر، لكنَّ "حالة التدفُّق الذهني أمرٌ يحدث لنا جميعاً"، كما تقول "ألين" إنَّ هذه الحالة ليست مرتبطة فقط بالمبدعين أو الأكاديميين أو الرياضيين، وتضيف أيضاً: "عندما تنتابك هذه السعادة، تشعر بنوع من الحرية"؛ حيث إنَّ اكتشافها لحالة التدفُّق الذهني على المسرح كشخص عازف ساعدها على التغلب على الخجل والقلق الذي ينتابها في أثناء الأداء على المسرح.
التدفُّق الذهني هو ببساطة تلك الحالة الذهنية المثلى التي نشعر بها ونؤدي أفضل ما لدينا، ولا يجب أن تكون غامضة أو عصية على الفهم؛ لذا إليك طرائق إدراك حالة التدفُّق الذهني، وما يمكنك فعله للاستفادة منها في الكثير من الأحيان:
1. تحديد الوقت الذي تكون فيه بشكل طبيعي في حالة التدفُّق الذهني:
جرَّب العديد من الناس حالة التدفُّق الذهني دون أن يدركوا هذا الشيء، وأحد المؤشرات الرئيسة التي تدل على أنَّك تمرُّ في حالة التدفُّق الذهني هو فقدان الشعور مع مرور الوقت، فاسأل نفسك: متى مرَّت الساعات دون أن تدرك ذلك؟ ربما كنتَ مندمجاً في الرسم لدرجة أنَّك لم تسمع أنَّ هاتفك يرن، أو كنت تعمل على عرض تقديمي باهتمام شديد لدرجة أنَّك لم تلاحظ غروب الشمس.
مؤشر آخر يدلُّ على حالة التدفُّق هو الشعور بالراحة، عندما تبدو الأشياء وكأنَّها تُنفَّذ كما ينبغي، وقد تحدث حالة التدفُّق الذهني أيضاً في اللحظات التي يكون لديك فيها أفكار ورؤى جديدة، وكما تقول "ألين": "تنظم الأمور وترتبها بطريقة رائعة لم تفعلها من قبل".
غالباً ما تتميز حالة التدفُّق الذهني بحلقة من التغذية الراجعة الإيجابية، وكلما اندمجتَ أكثر في المهمة التي تقوم بها، تلقَّيتَ العديد من التغذية الراجعة الإيجابية؛ الأمر الذي يشجِّعك على الاستمرار.
ومع ذلك، هناك بعض الأمور التي يجب الانتباه إليها، فقد تشعر وكأنَّك في حالة التدفُّق الذهني في أثناء القيام بالنشاطات مثل قراءة كتاب، أو مشاهدة التلفزيون بكثرة، أو ممارسة ألعاب الفيديو؛ وذلك لأنَّك تفقد إحساسك بالوقت كله، ولكن كما تقول "ألين": "هذه ليست حالات التدفُّق الذهني؛ بل هي نشاطات سلبية".
وهناك شيء خارج إرادتك يأسرك مثل الكتاب الذي تقرؤه أو اللعبة التي تلعبها، وتقول "ألين": "إنَّ حالة التدفُّق الذهني الفعلية هي عندما تكون نشطاً إلى حد ما"، وتشير إلى نشاطات مثل العزف على الكمان أو الكتابة أو لعب التنس أو ترؤُّس اجتماع.
شاهد بالفديو: 6 طرق لتُضيف المزيد من الوقت ليومك
2. تعلُّم كيفية الدخول في حالة التدفُّق الذهني من خلال العمل العكسي:
بمجرد أن تدرك متى تمرُّ بهذا الشعور غير المجهد، يمكنك تحديد كيفية الدخول في حالة التدفُّق الذهني؛ حيث توصي "ألين" بإعادة إنشاء الذكريات عندما كنتَ في حالة التدفُّق الذهني والتأكُّد منها.
بدايةً، يجب أن تراقب نفسك؛ حيث تقترح "ألين" أنَّه خلال الأسبوعين المقبلين، عليك أن تراقب نفسك، وتلاحظ ما تفعله، وتبحث عن المؤشرات الرئيسة التي تدل على حالة التدفُّق الذهني: مثل فقدان إحساسك بالوقت أو الذات، والشعور بأنَّك تتصرف بسهولة، واكتساب رؤى جديدة، ووجود حلقة من ردود الفعل الإيجابية.
بعد ذلك، عندما تكون في حالة من التدفُّق الذهني، زد وعيك: لاحِظ وتذكَّر النشاطات المحيطة بك، وحدِّد النشاط البدني الذي تقوم به عندما تفقد الإحساس بالوقت أو تشعر بالراحة، فربما كنتَ على خشبة المسرح أو تكتب أو تسقي النباتات في الحديقة، بالإضافة إلى ذلك، فكِّر فيما تفعله عقلياً: هل أنت مندمج في أعمال الخدمة؟ أو مشاركة شيء ما؟ أو خلق شعور بالوحدة أو الجماعة؟ أو هل تحل مشكلة؟ أو هل أنت مندمج في التركيز أو الإصغاء بعمق؟
عملَت "ألين" مع أحد العملاء الذي وجد حالة التدفُّق الذهني الخاصة به كلما كان يتسابق على الدراجات، كنشاط جسدي، كان في الخارج ويمارس هذه الرياضة، ولكنَّ مشاعره الداخلية كانت أعمق من ذلك؛ لقد أراد دعم زملائه في الفريق وخلق التآزر بينهم، لم تقتصر حالة التدفُّق الذهني الخاصة به على ركوب الدراجات فحسب؛ بل شملت أيضاً المشاركة في تفاعل المجموعة.
مثال آخر: عملَت "ألين" مع مسؤولة تنفيذية في مؤسسة رعاية صحية، فكانت هادئة جداً وتلقَّت تغذية راجعة تفيد بأنَّها تفتقر إلى صفات القيادة، لكن من خلال العمل معاً، قرَّرتا أنَّ المسؤولة التنفيذية دخلَت في حالة التدفُّق الذهني عندما حظِيَت بوقت جيد مع أشخاص آخرين، وكانت قادرة على التحدث والاستماع بعمق.
قالت في اجتماع فريقها اللاحق في العمل مسترشدة بهذا الإدراك: "أريد الاستماع لكل واحد منكم"، وتمكَّنَت من خلال القيام بذلك من الدخول في حالة التدفُّق الخاصة بها، وتمكَّنَت من تلقِّي التغذية الراجعة من الجميع، وكانت قادرة على إيصال أسلوبها في القيادة بشكل فعال، من خلال الاستفادة من حالة التدفُّق الخاصة بها.
3. تعزيز فهم فوائد التدفُّق الذهني:
كلما شعرتَ بالفوائد الناجمة عن حالة التدفُّق الذهني، زادت رغبتك في تكرار هذه الحالة، تقول "ألين": "يجرِّب الناس حالات التدفُّق كل يوم، ومن ثم يتوقفون، فقد يقولون: هذا أمرٌ غير واقعي، وغير عملي، أو ليس لدي وقت لذلك، ولكن إذا كان التدفُّق الذهني يقودك إلى بذل أفضل ما لديك، فمن المرجح أن تشعر بالرضا المهني، والقدرة على حل المشكلات، والتغلب على الخوف، والتأثير في الآخرين".
4. محاولة التحول إلى حالة التدفُّق الذهني عن قصد:
ليس من الضروري انتظار الفرصة - أو حالة التدفُّق الذهني - كي نبدأ، وبدلاً من ذلك، إنَّ تسهيل الظروف التي تؤدي إلى التدفُّق الذهني من الممكن أن يتحول إلى روتين يمكن القيام به بشكل متكرر، مثل تنظيف أسنانك بالفرشاة أو إخراج القمامة أو عرض الحلقة التالية على موقع "نيتفلكس" (Netflix).
تقول "ألين": "كلما تدرَّبتَ أكثر، زادت قدرتك على الانجذاب إلى حالة التدفُّق"، وتنصح "ألين" الناس للوصول إلى هذه المرحلة بمواصلة ملاحظة الخطوات الجسدية والعاطفية التي تؤدي إلى حالة التدفُّق الذهني؛ أين أنت الآن؟ وماذا تفعل؟ وكيف تشعر؟ وتكرارها.
كل شخص يدخل في حالة التدفُّق الذهني الخاصة به بطرائق مختلفة، فقد تكون جيداً حقاً في حل المشكلات المتعلقة بالبيانات الموجودة على جداول "إكسل" (Excel)، وتكون الأفضل عندما تعثر على حلول لأيَّة مشكلة وحدك، أو قد تكون في أفضل حالاتك عندما تقدِّم التغذية الراجعة وتتلقاها أو عندما تكون بطلاً في قيادة مجموعة من مندوبي المبيعات.
عندما تجعل حالة التدفُّق سهلة المنال وأكثر قابلية للتكرار، فأنت بذلك تمِّهد الطريق لتُظهر أفضل ما لديك في الكثير من الأحيان، وقد تجد أنَّه يمكنك نقل هذه الفوائد للآخرين.
تقول "ألين": "التدفُّق الذهني أمرٌ معدٍ، فعندما نكون في حلقة التغذية الراجعة الإيجابية، يكون الأمر معدياً للآخرين أيضاً، وهذه هي الطريقة التي كنتُ أقود بها الأوركيسترا والحضور بكامل طاقتي"، فكلما زادت حالة تدفُّقك الذهني، زاد عدد الآخرين الذين يختبرون هذه الحالة أيضاً؛ كما تقول "ألين": "الدخول في حالة التدفُّق الذهني أمرٌ يبرز أفضل ما فينا جميعاً".
أضف تعليقاً