لقد غيَّر هذا العام حياة الكثيرين في جميع جوانبها، ومع الارتفاع الكبير لحالات الإصابة بالفيروس المُبلَغ عنها يوميَّاً في الموجة الثانية في الهند وما يصاحبها من ارتفاع في عدد الوفيات، يبدو أنَّنا سنخوص معركة طويلة مع هذا الفيروس، لقد أصبح من الصعب تخيُّل كيف ستصبح الحياة بعد جائحة كورونا (COVID-19).
تسبَّبت عمليات الإغلاق واسعة النطاق والشكاوى حول النظام الصحي بأكمله والافتقار إلى البنية التحتية للرعاية الصحية في أضرار لا يمكن إصلاحها وأهوال لا يمكن تصوُّرها؛ فانهارت الأسواق والشركات، وأصبحت العائلات تواجه صعوبةً في الحصول على العناية الصحية الضرورية أو الحصول على ما يسد رمقهم، وغيرها من الصعوبات الجمة التي نواجهها في الوقت الحاضر.
ولكن توجد أزمة غير ملحوظة تتكشف ونادراً ما نتحدث عنها، فبينما ينشغل الجميع بالتعامل مع التبعات الجسدية الجسيمة للجائحة، يوجد أثرٌ خفي يمكن أن يتسبَّب في خسائر أكبر بمرور الوقت وهو تدهور الصحة الذهنية خلال الجائحة، وقد أمسى القلق من هذا الأمر يتفاقم نتيجة المعركة المستمرة ضد جائحة كورونا (COVID-19).
آثار جائحة كورونا (COVID-19) فينا:
يمكن للجائحة الحالية أن تهدد أجيالاً بالاضطراب الذهني بقية حياتهم؛ إذ إنَّ العاملين في مجال الرعاية الصحية والموجودين في الخطوط الأمامية للتصدي للمرض والحريصين على علاج المرضى بكل ما استطاعوا من قوة يكونون الأكثر عرضة للصدمات، وما دام عملهم يتمحور حول السعي إلى إنقاذ الأرواح واختيار من سيعالجونه ومن سيدعونه ليلقى مصيره، سيحمل محاربو جائحة كورونا (COVID-19) عبئاً عاطفياً ثقيلاً حتى بعد انتهاء الجائحة.
الآباء والأمهات هم أكثر الأشخاص خوفاً؛ حيث تمثل جائحة كورونا (COVID-19) وأخبار الوفيات المنتشرة تذكيراً دائماً بالموت، فيخشون أن يندثر العالم الذي عرفوه والأشخاص الذين ألفوهم، ومن جهة ثانية، سبَّبت هذه الجائحة لفئة الشباب العاملة الرعب والقلق والإحباط وانعدام الأمن؛ لذا يسيطر على معظم الموظفين الخوف من فقدان الوظيفة وعواقبه، وهم متوجِّسون مما سيحدث في المستقبل ويقض عدم اليقين مضجعهم.
في حين يشعر الذين يتمتعون بقدر معقول من الأمان الوظيفي دائماً بالإحباط والخوف وضعف الاهتمام وعدم التركيز على الوفاء بمسؤولياتهم؛ لذا علينا أن ندرك مدى أهمية عملنا عندما تكون هناك قضايا مصيرية تهدد الحياة وتُسبِّب لنا القلق.
تُعدُّ هذه الجائحة بالنسبة إلى روَّاد الأعمال والمجازفين رسالةً سوداويَّةً تذكِّرهم بهشاشة مشاريعهم؛ حيث يترك كلٌّ من عدم اليقين والضغط المتزايد لدعم موظفيهم ومورديهم والتغيير المستمر للقواعد واللوائح القانونية ربَّ العمل يحترق وظيفياً سعياً منه إلى إدارة مسؤوليات عدة بقليل من الدعم الذي يتلقاه أو بدونه.
يفقد الأطفال الذين يربون في هذا المناخ براءتهم في وقتٍ أبكر بكثير من الطبيعي، فينضجون بوتيرة أسرع في ظل الأزمات، وإضافة إلى ذلك، يكبر الأطفال اليوم معزولين تماماً عن أقرانهم ويمكن أن يصبحوا أكثر عزلة حتى من الجيل زد.
وليس وضعُ جيل الشباب الذين عرفوا العالم قبل الفيروس أفضل؛ وذلك لأنَّهم لا يعرفون ما سيكون عليه مستقبلهم بعد جائحة كورونا (COVID-19)، فمع إغلاق الجامعات وتراجع سوق العمل واستمرار ضغط الأقران نتيجة وسائل التواصل الاجتماعي، فرضت هذه الفترة ضريبة كبيرة على هؤلاء الشباب.
هل ستستمر هذه الجائحة إلى الأبد؟
صحيح أنَّه لا يمكن التنبؤ بعدد موجات كورونا (COVID-19) التي قد تفتك بنا في المستقبل، لكن تتضاءل الخسائر العاطفية لهذه الجائحة مع مرور الوقت، وقد تمنع اللقاحات حالات الإصابة في هذه الأثناء، لكنَّ هذه الجائحة ستستمر لبضع سنوات حتى يجد العلماء علاجاً مضموناً لجميع الطفرات الفيروسية المحتمَلة.
في غضون ذلك، علينا التحلي بالمرونة العاطفية؛ أي يجب على البالغين مراقبة صحتهم النفسية باستمرار واتخاذ إجراءات أو خطوات وقائية للحد من الأضرار ومنحِ الحب والاهتمام والدعم العاطفي الضروريَّين للأقرباء والأعزاء للتخفيف من العواقب.
شاهد بالفيديو: 7 نصائح هامة كي تحافظ على اتزانك في العزل الذاتي
كيف تستعد ذهنياً للحياة بعد جائحة كورونا (COVID-19)؟
فيما يلي بعض الطرائق التي يمكننا من خلالها بناء المرونة العاطفية والاستعداد استعداداً نفسيَّاً أفضل للحياة بعد جائحة كورونا (COVID-19).
1. قبول الواقع الجديد:
علينا جميعاً في البداية أن نحزن على خسارة الحياة التي عشناها في الماضي وننسى الأمور التي خططنا لها في السنوات القليلة المقبلة، كما علينا مواجهة الواقع الجديد وقبوله بالكامل، وهذا القبول الكامل يتطلب التخلي عن التفكير في الأمور المُفترَضة والتحسر على ما حدث وسيحدث.
علينا قبول واقعنا الجديد كما هو: واقع يسوده عدم اليقين والخوف من العدوى ومستقبل غير واضح المعالم؛ حيث يعتقد الكثير منا أنَّ قبول هذا الواقع دليل على الضعف والسذاجة والسلبية؛ لكن على العكس، يتطلب القبول شجاعة هائلة لمواجهة قساوة الظروف الحالية.
2. معالجة الأمر وعدم تناسيه:
نحن نحب التهرُّب من عواطفنا، ونفضِّل التغاضي عن المشاعر أو إهمالها أو تجاهلها أو تناسيها؛ وذلك لأنَّنا في الحقيقة لا نعرف كيف نتعامل معها، ونحن نخضع في هذا الوقت لكمٍّ هائل من العواطف، وليست لدينا أية فكرة كيف نفعل ذلك، وكيف نتحمَّل مشقة العمل دون أن ننهار تحت وطأة كل هذه العواطف، ولهذا السبب نتجاهل عواطفنا ونتظاهر بأنَّ هذه المشاعر غير موجودة، ونضيع وقتنا أمام الشاشات أو حتى ننجر إلى عادات سيئة مثل تناول الطعام الضار أو التدخين؛ لكن ليس هذا هو الحل، فهو حل مؤقت كمن يبني بيتاً من رمال، لا تلبث أن تضربه أمواج المشاعر وتدمِّره.
لذا لا تهمل هذه العواطف وعالجها، وأفصح عما يدور في خلدك للأصدقاء وأفراد العائلة الذين لا يطلقون الأحكام؛ أمَّا إن لم تستطع ذلك فاستشر أخصائيي الصحة النفسية والمستشارين والمعالجين لمعالجة العواطف وتخفيف الألم.
3. طلب الدعم العاطفي وتقديمه:
احرص على الاطمئنان على صحة أحبائك، ولا تكن أنانياً في منح نفسك فقط الاهتمام؛ اطمئن على صحتهم النفسية وما إن كانوا يحصلون على نوم هانئ، وكيف يتعاملون مع عدم اليقين والخوف.
إن فتحوا قلوبهم لك، فامنحهم المجال وأصغِ إليهم دون أحكام، ولا تتسرع في البوح بمكنونات صدرك أو تقديم نصائح غير مرغوب فيها، أشعرهم أنَّك تساندهم وأنَّه لا بأس في طلب المساعدة المهنية إذا لم يتمكنوا من التأقلم، ولكن تذكَّر أنَّ الاهتمام متبادل، فبينما تجعل نفسك متاحاً لأحبائك، لا تنسَ طلبَ المساعدة والدعم عند الحاجة، ولا تلبي احتياجات الآخرين على حساب احتياجاتك.
4. البقاء على اتصال مع الأشخاص المقربين:
آمن بقوة الجماعة، واحرص على طلبِ دعمِ الأشخاص المحيطين بك سواء كانوا زملاءك في العمل أم الجامعة أم النشاطات الفنية أم زملاءك من شبكات روَّاد الأعمال أم أفراد العائلة علَّهم يهوِّنون عليك مُصابَك، فعندما تشعر بمحبة الآخرين ومساندتهم، تدرك أنَّك لست وحيداً، خاصة في ظل هذه الجائحة التي حرمتنا صحبة الآخرين والقيام بالنشاطات معاً.
استفد من التكنولوجيا على الأقل للبقاء على تواصل معهم من خلال منصات التواصل الاجتماعي مثلاً، وأياً كانت نوع العلاقة التي تربطك بالأشخاص، فاحرص على عدم قطعِها، خاصة عندما تخطط للحياة بعد جائحة كورونا (COVID-19).
5. تخصيص وقت للفرح والبهجة:
صحيح أنَّ المعركة ضد الفيروس قد تكون مثبطة للهمم؛ لكن من الضروري تنمية الممارسات التي تسعدنا سواء كان ذلك التنزه ليلاً، أم مراقبة شروق الشمس واحتساء القهوة، أم حل الكلمات المتقاطعة، أم مشاهدة الأفلام والمسلسلات، أم إجراء مكالمات فيديو مع الأصدقاء عبر تطبيق زووم (zoom).
مارس أنشطة تنسيك كورونا (COVID-19) وتمنحك لحظات من الفرح حتى في أوقات الأزمات هذه، وقد تكون هذه الأشياء بسيطة؛ لكنَّها تساعد على الحفاظ على سلامتك النفسية واستعادة توازنك الذهني.
هل كانت هذه الجائحة محض خسارة؟
أثَّرت جائحة كورونا (COVID-19) سلباً في الجميع وخلَّفت وراءها الكثير من الخسائر، لكنَّنا لن نَكُفَّ عن محاربة هذا الفيروس القاتل، وسيحزن الكثير منا على خسارة أشخاصٍ عزيزين على قلوبهم ويسعون إلى ملء فراغ لا يمكن ملؤه أبداً، وسنتخلى جميعاً عن جزء من حياتنا السابقة؛ وذلك لأنَّ الحياة لن تعود كما كانت مرة أخرى، فكما يقول المثل: "لا أحد يجتاز النهر نفسه مرتين؛ وذلك لأنَّ الشخص سيتغير وكذلك النهر"، ومع ذلك نحن لا ننكر وجود بعض الإيجابيات الناتجة عن هذه الجائحة.
في الختام:
أيقِنْ أنَّ جائحة كورونا (COVID-19) ستكون صحوة لنا لنفتح أعيننا أخيراً على ما يهم حقاً؛ وذلك لأنَّنا نشتاق إلى الحياة بعدها، ربما بمجرد أن تصبح الجائحة أمراً من الماضي، سنجد المزيد من السعادة في الأشياء الاعتيادية التي نَعدُّها من البديهيات، مثل الاضطرار إلى الاستيقاظ في الصباح الباكر للذهاب إلى العمل والمواصلات والثرثرة في المكتب والعطلات، حتى أنَّنا قد نكون أكثر امتناناً لحرية قضاء الوقت بصحبة الأصدقاء أو زيارة الأقارب أو قضاء إجازة؛ حيث سنكون حاضرين قلباً وقالباً ونقدِّر اللحظات بسيطة كانت أم عظيمة، وسنحب أكثر ونضحك أكثر ونقدِّر الأشياء أكثر.
أضف تعليقاً