ملاحظة: هذا المقال مأخوذٌ عن مدرب التنمية البشرية وريادة الأعمال: مايكل بيترزاك (Michael Pietrzak)، والذي يتحدَّث فيه عن تجربةٍ شخصية.
في أوائلِ العشرينات من عمري، كنتُ أقضي عطلةَ نهايةِ أسبوعٍ كاملةٍ في شقتي الجامعية ألعب الألعاب الإلكترونية، ثمَّ كنت أقضي أسبوعي في العمل أفكِّر في المغامرات الافتراضية التي عليَّ خوضها نهاية الأسبوع المقبل.
لقد جعلتني جلسة الحنين إلى الماضي مع ابن أخي أتساءل: لماذا لا يحبُّ الكثيرون منا الالتزام بالعمل، بينما لا يمانعون الالتزام بلعب 1500 جولةٍ من لعبة الطيور الغاضبة الشهيرةِ "Angry Birds"، دون أن يأخذوا استراحةً للذهاب إلى الحمام حتَّى؟
البداية من الصغر:
لقد لخَّصت لكم للتو طريقة التعليم المتَّبعة في الغرب.
يبدأ ازدراؤنا للانضباط بعد انقضاء يومنا الأول من المدرسة بفترةٍ وجيزة، ويتزايد بشكلٍ مبالغٍ فيه. لقد تعلَّمنا في مدارسنا كيف نجتاز الاختبارات، ولكنَّنا لم نتعلَّم الأهميَّة الكبيرة للعمل.
كلُّ ما نتعلَّمه عن العمل هو أنَّه يجب أن يكون شاقاً، وهو شيءٌ يتعزَّز لدينا عندما نخرج من المدرسة لندخل إلى العالم الحقيقي.
كيف يمكننا الانسحاب إذاً؟ ربَّما يمكنك بيع ممتلكاتك ونذر حياتك للعيش كراهبٍ في ديرٍ جبلي.
لكنَّ الأسهل من ذلك بكثير هو أن تغيِّر طريقة تفكيرك. لذا سأقترح عليك أسلوباً يمكننا جميعاً أن نعمل عليه ببساطة: "اجعل عملك ممتعاً مرةً أخرى".
سأوضِّح لكَ في هذا المقال كيف تقوم بذلك:
1. جِد سبباً واضحاً:
لقد أقلعت عن التدخين بسهولةٍ في المحاولة العاشرة، بعد 15 عاماً من المعاناة منه، رغم أنَّني فشلتُ في المحاولات التسع السابقة؛ ذلك لأنَّني لم أملك سبباً مقنعاً للإقلاع عنه.
كثيراً ما حذَّرني الأصدقاء من فقدان سنواتِ حياتي، كما أنَّني كرهتُ أن تبدو رائحتي كرائحة منفضة سجائر، لكنَّني ظللت أدخن لأنَّني أحببتُ تلك السحبةَ الأولى. وفي أحد الأيام، سئمت من كوني عبداً للإدمان، كانت استعادة السيطرة على حياتي سبباً قوياً لأترك التدخين، وبعد هذا ومنذ سبع سنوات لم أدخن ولو لمرةٍ واحدة.
عندما تمتلك سبباً قوياً، لن تحتاج الالتزام للحصول على ما تريد، وسواءً أَكنت تسعى إلى تحقيق حبٍّ، أم وظيفة أحلام، أم إن كنت قرَّرت أن تلهو بطرائق ملتوية؛ إذا كانت النتيجة ذات قيمةٍ كافية، فستحصل على الأشياء التي تريدها وستتمكَّن من إنجازها.
خذ وقتك لمعرفة الأسباب المقنعة.
2. العب أثناء العمل:
"نحن لا نتوقّف عن اللعب لأنَّنا كبرنا؛ إنَّنا نكبر لأنَّنا توقَّفنا عن اللعب" - جورج برنارد شو.
إنَّنا نقع في حبِّ الألعاب الرياضية أو ألعاب الفيديو بينما نكبر، وإذا كنَّا محظوظين، فنحن لا نتفوق على هذه المشاعر أبداً. في الواقع، إنَّنا جميعاً نحبُّ اللعب، أو على الأقل مشاهدة اللعب؛ ولذلك إذا جعلت العمل لعبة، فلن تعمل مرةً أخرى في حياتك.
يحوِّلُ اللعب المهام المملة إلى عناصر مسلية، كتسجيل النقاط عند القيام بمهامٍ معينة. بالنسبة إلي، فإنَّ عبور عناصر قائمة المهام التي أنفذها من خلال اللعب، يعطيني جرعةً إضافيةً من هرمون الدوبامين المسؤول عن "العمل"، والذي تضاهي قوَّته قوَّة ثلاث جرعاتٍ من الإسبرسو.
ألا تستطيع أن تنجز قائمة مهامٍ صعبة؟ إليك تطبيق إدارة المهام "هابيتيكا" (Habitica)، وهو تطبيقٌ مجانيٌّ يحوِّلك إلى بطلٍ ينجز مهامه عن طريق اللعب. قم باختيار "الصورة التشخيصية" (Avatar) المناسبة لك (صورةٌ رمزيةٌ تمثلك)، وحدِّد الأهداف التي تريد تحقيقها، وسوف تتقدَّم من خلال مستوياتٍ لتحقيق إنجازاتٍ واقعية مثل: الذهاب إلى صالة الألعاب الرياضية.
ماذا عن غسل الأطباق؟ كما يقول "فيريل" من شركة "إي إل إف" (elf): "يمكن لكلِّ شيءٍ أن يتحوَّل إلى لعبةٍ إذا كنت تريد اللعب". التقط طبقاً واستمتع بمشاهدة فقاعات الصابون وهي تدور فيه، أو اختبر الطريقة الأفضل لترتيب رفّ الصحون، واستمتع بالألعاب الجديدة.
3. اختبر أساليب العمل:
إنَّني أبذل قصارى جهدي في العمل في الصباح الباكر لفتراتٍ طويلةٍ متمتعاً بالهدوء، بينما تفضِّل زوجتي العمل في المساء حيثُ تكون أكثرَ إبداعاً. يحتاج بعض الناس إلى الثرثرة لمدة ساعةٍ قبل العمل، ويفضل الآخرون العمل خلف الأبواب المغلقة.
اختبر أساليب عملٍ مختلفةً حتَّى تجد نمطاً يجعل الالتزام بالعمل بالنسبة إليك أمراً سهلاً.
إليكَ ما يمكن أن تبدو عليه تجربتك:
- اليوم الأول: ابدأ العمل في وقتٍ أبكرَ بساعةٍ ممَّا تفعل عادةً، واعمل على مشروعٍ واحد.
- اليوم الثاني: ابقَ في العمل بعد ساعةٍ من انتهاء العمل.
- اليوم الثالث: استخدم طريقة البومودورو طوال اليوم (طريقةٌ لتقسيم الوقت إلى فتراتٍ زمنيةٍ مدَّتها 25 دقيقة).
- اليوم الرابع: اعمل من دون مؤقت، ودَع إيقاعاتك الطبيعية توجِّه عملك.
- اليوم الخامس: قم بأعمالٍ هامَّةٍ في الصباح.
- اليوم السادس: قم بتنفيذ المهام الروتينية في الصباح.
يمكنك أيضاً تجربة العمل داخل المنزل، أو في الهواء الطلق، أو مع الموسيقى، أو في جوٍّ من الهدوء. جرِّب القيام بخمس مهامٍ في اليوم، أو التزم بمهمةٍ واحدة. احتفظ بسجلٍ مكتوب في كلِّ يومٍ عن شعورك ومستويات الطاقة لديك، وما نجح من هذه الأساليب وما لم يكن ناجحاً. في نهاية الأسبوع، سيكون لديك بعض البيانات القابلة للاستخدام حول أفضل أنماط العمل لديك.
4. ابتعد عن القلق والتأجيل:
"يستنزف القلق الكثير من قوة العقل، ويرهق الروح عاجلاً أم آجلاً" - روبين شارما.
القلقُ هو الطريقة الأكثر فعاليةً للإجهاز على الالتزام. فلا يمكن للعقل القلِق القيام بعملٍ رائعٍ أو المثابرة عليه؛ لأنَّه يمتلئ بالكورتيزول والهرمونات الأخرى التي تجعله متجمداً. الخوف من الفشل والشعور بالإرهاق، يؤدِّيان إلى التأجيل في العمل، فتغدو وكأنَّك عاطلٌ عن العمل.
للقضاء على هذا الوحش ذي الرأسين، استخدم أفضل أبحاث الدكتور "نيل فيور" (Neil Fiore) عن العادات، والذي تحدَّث عنه في كتابه "عادة الآن" (The Now Habit):
- ابدأ طريقةَ إلغاء الجدولة: خصِّص بعض الوقت في التقويم الخاص بك من أجل الراحة والمرح مع الأصدقاء قبل تحديد موعد العمل، لتتجنَّب الشعور بالإرهاق.
- افتعل القلق: ستنهار كلُّ مخاوفك حالما تواجهها، لذا بدلاً من أن تمضي وقتك في التذمر، توقَّع الأسوأ واصنع الكارثة بنفسك. فكِّر: ما أسوأ ما قد يحدث؟ ثم جهِّز خطتك للتحكُّم بالمخاطر.
- واصل البدأ من جديد: بالنظر إلى مشروعٍ بأكمله سيبدو لك هذا المشروع كثير المهام. بدلاً من ذلك، اجلس بهدف بدء مهمةٍ واحدةٍ فقط من هذا المشروع، دون أن تهدف لإنهائها. ستجد أنَّ أربع ساعاتٍ قد مرَّت دونَ مجهودٍ يُذكر.
5. اجعل الاهتمام بنفسك أولوية غير قابلة للتفاوض:
"لن تستطيع الاعتناء بأيِّ شيءٍ أو أيَّ شخصٍ إذا لم تهتمَّ بنفسك أولاً" - جين سينسيرو.
إنَّ العمل الجاد يستحق الثناء، ولكنَّه يتحوَّل إلى إدمانٍ عندما نوليه الاهتمام على حساب صحتنا وسعادتنا وحياتنا. إنَّ مبدأ "حماية الأصول" هو واحدٌ من القواعد الأساسية التي تحكم الأداء العالي وفقاً "لغريغ ماكيون" (Greg McKeown) في كتابه "العودة إلى الجوهر" (Essentialism). يمكنك توفير الوقت للنوم والطعام الصحي والتدليك والراحة والإجازة، كما أنَّك ستتمكَّن من الحفاظ على إنتاجٍ ثابت. لن تكون قادراً على الاستمتاع بعملك أو ما تنتجه أو أيَّ شيءٍ ذي جودة، إذا كنت تعمل وأنت متعبٌ أو منهك.
ابدأ عملك عندما تكون نشيطاً ومتمتعاً بمعنوياتٍ عالية، وبذلك لن تستمتع فقط بكلِّ دقيقةٍ من عملك، بل ستتمكَّن أيضاً من الاستفادة من الإبداع الذي يمثِّل مصدر كلِّ عملٍ عظيم.
6. العب مهاجماً، لا مدافعاً:
في عام 2018، أجرت كاتبةٌ لقاءاتٍ شهريَّةً في مقهى بجدرانٍ من القرميد ونوافذ كبيرة. ولأنَّ حضور شركتنا كان بارزاً، بدأنا تقديمَ خدماتٍ تتعلَّق بالكتب في ذلك المقهى، ثمَّ تولَّى مديرٌ جديدٌ إدارة المقهى، وبدأ بوضع الحواجز في طريقنا، حيثُ احتجنا إلى توقيع عقدٍ وضمان الحد الأدنى من مبيعات المقهى، بالإضافة إلى إحضار نادلٍ معنا وأجهزةٍ خاصةٍ بنا. كان المدير الجديد يضع حاجزاً جديداً مع كلِّ حاجزٍ تجاوزناه.
وبذلك وضعني خصمي الجديد في حالة الدفاع.
لذا استطلعت آراء أعضاء فريقي بالأمر، واكتشفت أنَّهم لا يهتمُّون بالمكان الذي نلتقي فيه، ولذلك انتقلنا إلى مكانٍ آخر، وهكذا مضيت قدماً في حياتي.
حين تقاتل الوحوش التي تمتص وقتك، فلن يكون في وسعك أن تركِّز على مهامك الأكثر أهمية. عندما تبدأ بالعمل على المهام ذات القيمة العالية بشكلٍ أساسيٍّ وتتجاهل المهام الدفاعية، سيصبح كلُّ شيءٍ رائعاً.
7. التباهي:
إنَّ وسائل التواصل الاجتماعي هي المكان المناسب للتشدُّق والاستعراض. دعنا نعترف أنَّنا جميعاً نحبُّ مشاركة انتصاراتنا مع العالم؛ لأنَّ ذلك يمنحنا شعوراً جيداً.
وذلك لأنَّنا عندما ننشر صور طفلنا الجديد أو حقيبةً مليئة بالماس الذي وجدناه، فإنَّ دماغنا يغمره السيروتونين، وهو الهرمون الذي يشجِّع السلوك المناصر للمجتمع.
يقول "سيمون سينك" (Simon Sinek): "إنَّ السيروتونين هو السبب في شعورنا بالفخر. إنَّه الشعور الذي نشعر به عندما ندرك أنَّ الآخرين يحبوننا أو يحترموننا، والذي يجعلنا نشعر بالقوة والثقة، كما يُمكِّننا من مواجهة أيِّ شيء".
وما دمت لا تسمح لاحترام الآخرين أن يكون وحده حافزك الأساسي، فقد يكون من الجيِّد أن تشارك نتائجك مع العالم، وأن تقول: "ها أنا ذا، لقد قمت بشيءٍ عظيم". هذه الطريقة ممتعة، وسوف تحفِّزك على إنتاج المزيد.
ماذا تتوقَّع إذا كنت تمارس هذه العادات السبع؟ الإجابة ببساطة: لن "تعمل" يوماً آخر في حياتك. لقد غيَّر الفيلسوف البريطاني "آلان واتس" (Alan Watts) تفكيري بمحاضرته عن اللعب في أثناء العمل. ويقول: "عليكم أن تعدُّوا أنَّ كلَّ ما تقومون به من أعمالٍ مجرد ألعاب، ولا تتخيلوا أنَّكم لابد أن تكونوا جديين ولو لدقيقةٍ واحدة".
قد يجعلك اللعب تشعر أنَّك طفلٌ في الملعب مرةً أخرى؛ لذلك ما عليك سوى أن تجعل العمل لعبة.
أضف تعليقاً