يقول معظم الأهالي: "لم يكن طفلي عنيفاً قبل دخول المدرسة"، ويقول آخرون: "المدرسة خلَّصت ابني من خجله"، في حين ينتظر قسم كبير من الأهالي التحاق أطفالهم بالمدرسة متأملين حدوث تغييرات جذرية على سلوكاتهم وشخصياتهم، فإلى أي مدى تؤثر المدرسة في بناء شخصيات أطفالنا؟ وما هي المسؤوليات التي تقع على عاتقها؟ هذا ما ستتعرف إليه بالتفصيل إن تابعت القراءة.
ماذا تعني التنشئة الاجتماعية؟
قبل الخوض في دور المدرسة في عملية التنشئة الاجتماعية دعونا بدايةً نتعرف إلى هذا المفهوم وإلى العوامل المؤثرة فيه؛ إذ تُعرف عملية التنشئة الاجتماعية بأنَّها عملية تعلُّم وتعليم وتربية، وتقوم على التفاعل الاجتماعي، وتهدف إلى اكتساب الفرد سلوكاً ومعايير واتجاهات مناسبة لأدوار اجتماعية معينة تمكِّنه من مسايرة جماعته والتوافق الاجتماعي معها، وتكسبه الطابع الاجتماعي، وتيسِّر له الاندماج في الحياة الاجتماعية.
إذاً يمكن القول إنَّ عملية التنشئة الاجتماعية هي:
1. عملية تعلُّم اجتماعي:
"نيوكمب" ترادف بين مصطلحي التعلم الاجتماعي والتنشئة الاجتماعية؛ إذ تشتمل الأخيرة على كل ما يتعلمه الفرد ويكتسبه من سلوكات ومعايير واتجاهات عن طريق تفاعله الاجتماعي مع محيطه، حتى يصبح في النهاية مؤهلاً للعيش ضمن هذه الجماعة.
2. عملية نمو:
فمن خلال التنشئة الاجتماعية تحدث نقلة نوعية في حياة الطفل، فيتحول من طفل يعتمد على أهله ويسعى إلى تلبية حاجاته الفيزيولوجية فقط إلى شخص مستقل قادر على التحكم بانفعالاته ويتصرف وفقاً لمعايير وقيم المجتمع.
3. عملية مستمرة:
فالتنشئة الاجتماعية لا تقتصر على عمر محدد أو على مرحلة الطفولة فقط؛ بل تستمر طيلة حياة الفرد.
4. عملية دينامية:
فهي تقتضي التفاعل والتغيير الدائم، والشخصية التي نراها ليست إلا نتاجاً لتفاعل الفرد هذا.
في النهاية عملية التنشئة الاجتماعية عملية صعبة ومعقدة ومتشعبة تؤثر بها الكثير من العوامل وتحتاج إلى الكثير من الوسائل، ومن الجدير بالذكر أنَّ بعض العوامل الأخرى غير الاجتماعية تؤثر في تكوين شخصية الطفل، وإن لم نكن في صدد شرحها، لكن من الهام أن نعرفها، وهي الوراثة والبيئة والغذاء وأعمار الوالدين والحوادث وغير ذلك.
ما هو دور المدرسة في التنشئة الاجتماعية؟
الثقافة والأسرة وجماعة الأقران ووسائل الإعلام ودور العبادة والمدرسة جميعها عوامل مؤثرة في التنشئة الاجتماعية، وسنختص في حديثنا هنا عن دور المدرسة في عملية التنشئة الاجتماعية؛ إذ تُعَدُّ المدرسة المؤسسة الثانية بعد الأسرة التي يقع على عاتقها القيام بعملية التنشئة الاجتماعية للتلاميذ.
تعمل المدرسة على إعداد التلاميذ فكرياً ونفسياً وسلوكياً ومعرفياً وروحياً، حتى إنَّ المدرسة في كثير من الأحيان توجِّه التلاميذ نحو خياراتهم المهنية في المستقبل، وتسهم إسهاماً كبيراً في صنع منظومتهم الأخلاقية، ودون المدرسة لن يتمكن الفرد من تحقيق درجة عالية من التفاعل مع المجتمع بحيث يتمكن من ممارسة نشاطات الحياة الاجتماعية المختلفة بشكل فاعل ومنسجم ومتسق مع الجماعة التي ينتمي إليها.
دور المدرسة في التنشئة الاجتماعية للطفل:
يدخل الطفل إلى المدرسة في أكثر الأحيان عندما يبلغ السادسة من عمره، وتُعَدُّ الأسابيع الأولى له في المدرسة من أكثر الفترات حرجاً، فنلاحظ على الطفل وعلى الأهل التوتر والخوف، فعلى الرغم من التحاق أغلب الأطفال بالروضة، إلا أنَّ طبيعة المدرسة تبقى مختلفة على الأطفال.
ينشغل الأطفال قبل المدرسة بنشاطات غير متكلفة وتتسم إلى حدٍّ ما بالطبيعية والتلقائية، في حين أنَّ المدرسة أكثر جديةً وتنظيماً وحتى أكثر توجهاً في الأهداف، كما أنَّ بيئة المدرسة مختلفة تماماً عن بيئة المنزل والروضة، فالطفل سيجد نفسه أمام مجموعة من القواعد التي عليه الالتزام بها، وهذا ما يجبره على تغيير سلوكه لتحقيق أكبر قدر من التكيف مع الوضع الجديد.
هنا لا بد من الإشارة إلى أنَّ أساليب التنشئة الاجتماعية التي يتلقاها الطفل في مرحلة قبل المدرسة تؤثر تأثيراً كبيراً في مدى قدرته على التكيف مع المدرسة، حتى إنَّ الظروف التي تكلمنا عنها داخل المدرسة مثل الخضوع للأنظمة والتقيد بالقواعد ستتحول إلى عوامل ضغط على الطفل الذي قد يجد نفسه عاجزاً عن الانسجام مع الوضع الجديد له.
مثلاً إذا كان الطفل قد تربى في بيئة منعزلة وغير اجتماعية سيواجه صعوبة في التكيف مع رفاقه في المدرسة، وقد يؤثر هذا في مدى تقبله وحبه للمدرسة، أما الطفل الاجتماعي فلن يواجه ذات الصعوبات.
شاهد بالفديو: 8 طرق لتنمية الذكاء الاجتماعي للطفل
تؤدي المدرسة كما سبق أن ذكرنا أكثر من مرة دوراً كبيراً في التنشئة الاجتماعية للطفل، ففيها يؤهَّل الطفل للعيش ضمن المجتمع الذي ينتمي إليه بشكل منسجم ومتسق مع طبيعته، ويمكن تحديد العديد من النقاط التي يظهر فيها دور المدرسة في التنشئة الاجتماعية للطفل واضحاً:
- المدرسة تكمل ما بدأته الأسرة، فالوقت الذي يقضيه الطفل في المدرسة مساوٍ تقريباً للوقت الذي يقضيه بين أفراد أسرته، لذلك يجب أن يكون هذا الدور منسجماً مع الأسرة، وقد تحدث الكثير من المشكلات للطفل عند وجود تعارض في القيم والأفكار بين الأسرة والمدرسة، مثلاً قد ينشأ الطفل في بيئة أسرية تتسم بالفوضى وعدم التنظيم، وهذا ما سينعكس عليه مباشرة داخل المدرسة التي سيزداد العبء عليها في هذه الحالة حتى تستطيع تهذيب سلوك الطفل وتنظيمه.
- تبسيط المعقد، لا شك أنَّ التعقيد أحد السمات التي تميز طبيعة العلاقات البشرية، وهذا التعقيد يظهر في كل شيء تقريباً من الثقافة إلى الحضارة إلى العلوم، وهنا يأتي دور المدرسة لإعداد بيئة مناسبة للطفل؛ بيئة بسيطة يقدر الطفل على فهمها، وعلينا أن ندرك تماماً أنَّ أي شيء لا يمكن فهمه من المستحيل أن يُحدث تغييراً، وبمجرد الفهم سيصبح الطفل قادراً على التغيير، ومن ثمَّ على التعامل مع العالم الخارجي بأفضل شكل.
مثلاً قد يتعرَّض الطفل للتعنيف لأول مرة في المدرسة من قِبل أحد رفاقه، وهذا السلوك قد يبدو معقداً لطفل نشأ في بيئة مسالمة، وهنا يجب على المدرسة أن تكون بيئة آمنة لهذا الطفل بحيث تكون قادرة على شرح السلوك غير المفهوم بالنسبة إليه وتنفيذ الإجراء اللازم لحمايته حتى لا ينعكس هذا السلوك على مدى تقبُّله للمدرسة، ومن ثمَّ يعاني من سوء التكيف، وهنا لا بد من الإشارة إلى أنَّ علماء النفس قد أرجعوا الكثير من الاضطرابات الاجتماعية إلى مشكلات سوء تكيُّف بسيطة أُهملت في الصغر. - تنمية خبرات الطفل ومعارفه داخل المدرسة، فقد يكتسب الطفل من خلال المدرسة خبرات ومعارف ومهارات جديدة، وعلى المدرسة الاهتمام بهذا الجانب والعمل على توسيع آفاق ومدارك الأطفال قدر الإمكان؛ وذلك من خلال المناهج الدراسية والنشاطات المختلفة التي تعطيهم فكرة حقيقية عن العالم الخارجي، وتدربهم على طرائق التعامل الأمثل مع ما يحيط بهم بشكل يساعدهم مستقبلاً على التكيف مع مجتمعاتهم والتفاعل معها بشكل إيجابي.
- تحقيق أكبر قدر من الانسجام بين الأطفال فيما بينهم، فقد تؤدي المدرسة دوراً كبيراً في إعداد الطفل وتأهيله لتقبُّل الآخر بحيث يصبح هذا جزءاً من وعيه فيظهر في سلوكاته المختلفة؛ إذ تضم المدرسة مثلاً أطفالاً من مختلف الألوان والثقافات والطبقات، وعلى المدرسة أن تعمل قدر الإمكان على إزالة كل الحواجز التي قد تكون مزروعة في نفوس التلاميذ مسبقاً تجاه بعضهم بعضاً، وتعلِّمهم أنَّ الاختلاف لا يعني الخلاف أبداً؛ بل بخلاف ذلك تماماً علينا أن نتعلم من بعضنا، وهذا ما يتطلب منا بدايةً القدرة على التواصل بشكل صحيح.
أهمية المدرسة في التنشئة الاجتماعية:
تُعَدُّ المدرسة من أهم المؤسسات التربوية والتعليمية التي تساهم في عملية التنشئة الاجتماعية إسهاماً كبيراً، فمن خلال ما يسودها من أنظمة وما يحكمها من قواعد يتعلم الطفل كيف يضبط سلوكه ويتحكم بانفعالاته، كما أنَّ خطة تنشئة الأطفال اجتماعياً داخل المدرسة ليست عشوائية؛ بل هي محددة وهادفة وتسعى إلى بناء طفل ملتزم بمعايير وقيم وعادات وتقاليد مجتمعه.
على المدرسة أن تكون النموذج الأفضل والبيئة المثالية للطفل، وعن طريقها وبفضل أساليبها يتم تعزيز أكبر قدر من الانسجام والتفاهم والتقارب بين التلاميذ، وهذا ما يجب أن يظهر في سلوكاتهم وتصرفاتهم وينعكس على أدائهم، وهنا من الواجب التأكيد على نقطة هامة جداً، فلا يجب أن يقتصر اهتمام المدرسة فقط على التعليم وعلى المناهج الدراسية؛ بل عليها أيضاً أن تهتم بنشر الثقافة والوعي بين التلاميذ، وعلى ذلك أن يكون جزءاً أساسياً من أهدافها.
مثلاً تنتشر داخل المجتمعات الكثير من العادات والتقاليد البالية، وعلى المدرسة أن تقف في وجهها وتعمل على إلغائها تماماً من خلال عملية التنشئة الاجتماعية التي تمارسها على التلاميذ، وهذا ما يُظهر الأهمية الكبيرة للمدرسة في الحفاظ على كل ما من شأنه تحسين وتطوير شخصية الطفل ونسف كل قيمة هدَّامة ترجع الأطفال إلى الوراء وتربطهم بأفكار خاطئة أخذت قيمتها فقط لأنَّها جزء من الموروث الشعبي للمجتمعات.
تطوير شخصية الطفل أكاديمياً ليس كافياً لإعداده للعيش داخل المجتمع، ولا شك أنَّ دور المدرسة في ظل الظروف والتحديات الراهنة أصبح أكثر صعوبة من قبل، فما يشهده العالم اليوم من ثورة تكنولوجية دخلت في كل تفصيل من تفاصيل حياة التلاميذ صعَّبت المهمة على المدرسة التي لم تعد وحيدةً في إعداد وتنشئة التلاميذ، فمثلاً شبكات التواصل الاجتماعي اليوم صارت جزءاً من روتين الحياة اليومي لكل تلميذ وطفل.
نحن هنا لسنا في صدد الاختباء خلف أصابعنا وإنكار التأثير الكبير لها في أطفالنا؛ بل علينا الاعتراف بالدور الكبير الذي تمارسه هذه الوسائل على أطفالنا حتى أصبحت تؤثر في شخصياتهم وسلوكاتهم وطرائق تفكيرهم، وبذلك على المدرسة والأسرة أن تبذلا جهداً مضاعفاً أولاً لمواجهة هذا التحدي دون عزل الأطفال عما يحدث في العالم، وثانياً من خلال تسخير هذه الوسائل لتكمل دور المدرسة والأسرة بدلاً من إعاقتها.
في الختام:
يبدو واضحاً من خلال ما سبق أنَّ دور المدرسة كبير في تنشئة الأطفال وصقل شخصياتهم وإعدادهم للحياة الاجتماعية؛ إذ تؤدي المدرسة دوراً لا يقل أهمية عن دور الأسرة في عملية التنشئة الاجتماعية للأطفال، فمن المدرسة يستقي الطفل ما يراه من عادات وتقاليد ومعايير وقيم، وفيها يتهذب سلوكه ويصبح أكثر تحديداً وتوجهاً، وهذا ما يؤدي في النهاية إلى تحقيق الانسجام المطلوب مع المجتمع.
المصادر +
- أهمية المدرسة في التنشئة الاجتماعية
- دور المدرسة في التنشئة الاجتماعية
- كتاب علم النفس الاجتماعي للدكتور مالك مخول كلية التربية جامعة دمشق
أضف تعليقاً