ينبع تأثير دانينغ - كروجر (Dunning-Kruger) من جهلنا؛ لكن كيف تصلح شيئاً ما إذا كنت لا تعرف أنَّه معطل؟
ربما يكون الأمر الأكثر إثارة للدهشة هو أنَّه قال هذا قبل وقت طويل من ظهور الإنترنت، أما اليوم، وبسبب المتعة المرتبطة بوسائل التواصل الاجتماعي نحن نتعرف دائماً إلى أشخاصٍ يتحدثون عن أشياء يعتقدون بأنَّهم يعرفونها؛ وهم يجهلونها حقاً.
وفي الواقع، وكما أشار راسل، كلما كان هؤلاء الأشخاص أكثر جهلاً، زادت ثقتهم في تصريحاتهم.
تبيَّنَ أنَّ مبدأ راسل قد خضع للدراسة، وأنَّ البيانات تدعمه؛ حيث يعتقد الأشخاص السيئون أنَّهم يجيدون شيئاً ما، في حين يعتقد الأشخاص الذين يجيدونه أنَّهم سيئون فيه، ويشعر الهواة بالثقة الزائدة ولا يتمتع الخبراء بالثقة الكافية، ويعتقد المبتدئون أنَّهم قد فهموا كل شيء ويدرك المتمرِّسون ألَّا شيء معروف بالفعل.
في علم النفس، يُعرَف هذا باسم "تأثير دانينغ كروجر"، إنَّه اتجاه نفسي سُمِّيَ على اسم الباحثَين اللذين قاما بقياسه في البداية، ومن المدهش مدى اتساع نطاق تطبيقاته في حياتنا.
تأثير دانينغ كروجر "الجهل بالجهل":
هناك أربعة أنواع من المعلومات:
- المعلومات المعروفة: وهي المعلومات التي تعرف أنَّك تفهمها، على سبيل المثال: طريقة ركوب الدراجة.
- معلومات مجهولة لكنَّك تعرفها: وهي المعلومات التي تعرف أنَّك لا تفهمها، على سبيل المثال: فيزياء الكم.
- معلومات معروفة لكنَّك تجهلها: وهي معلومات تعرفها، لكنَّك لا تدرك أنَّك تعرفها، على سبيل المثال: لم ندرك أنَّنا نعرف غريزياً كيف نصبح آباءً وأمهات حتى يحدث ذلك معنا.
- معلومات مجهولة وغير معروفة: وهي معلومات أنت غافل عنها تماماً؛ فأنت لا تعرفها ولا تعرف أنَّك لا تعرفها. يؤثر تأثير دانينغ - كروجر في المعلومات المجهولة غير المعروفة بطريقة سيئة، وهنا يكمن ميلنا إلى المبالغة في تقدير معرفتنا ومهاراتنا وكفاءتنا والتقليل من جهلنا؛ ويتجاوز تأثير دانينغ كروجر الجهل، فهو يصف ما هو أكثر من الجهل، وهو "الجهل بجهلنا". من الجيد أن ترتكب خطأ ما ثم تدرك أنَّك فعلت ذلك لأنَّك لم تعرف كيف تتصرف بشكل أفضل، لكن أن ترتكب خطأً ولا تدركه ثم تستمر في الاعتقاد بأنَّك لم ترتكب أي خطأ لأنَّك رائع؛ فهنا يكمن الجهل.
هذا هو تأثير دانينغ كروجر، وهذا ما يؤكد راسل بأنَّه الخطأ الفادح الذي يحصل في العالم من حولنا. في الواقع جميعنا نرتكب ذلك؛ فمن المتوقَّع أن نبالغ في تقدير معرفتنا وقدراتنا بطريقة تسبب المزيد من الأخطاء الفادحة.
شاهد بالفديو: كيف تتعلم باستمرار لتطور نفسك وتنمي قدراتك؟
على سبيل المثال:
- يعتقد أصحاب الأسلحة بأنَّهم على دراية كبيرة بالتعامل الآمن مع الأسلحة، ويحصلون على أدنى الدرجات في اختبارات التعامل الآمن مع الأسلحة.
- يصنف عمال المختبرات الطبية الذين يعالجون عينات نتائج الاختبارات أنفسهم على أنَّهم يتمتعون بكفاءة عالية في وظائفهم، وهم في الواقع الأسوأ في وظائفهم.
- يعتقد كبار السن بأنَّهم سائقون أفضل من غيرهم وهم في الواقع أكثر عرضة إلى ارتكاب أخطاء القيادة غير الآمنة بأربعة أضعاف.
- يبالغ طلاب الكليات الأقل أداءً بشكل كبير في تقدير أدائهم في الامتحانات ومعرفتهم العامة في مجال دراستهم.
- بالغ أصحاب الأداء الأقل في المناظرات التنافسية بتقدير أدائهم، حيث اعتقدوا أنَّهم فازوا بنسبة 59٪ من مسابقاتهم بينما فازوا بنسبة 22٪ فقط.
قد تقول أنا حقاً شخصٌ رائع:
على الأرجح عندما قرأت هذه الأمثلة، تذكرت أنَّك فعلت شيئاً مشابهاً.
هؤلاء الأشخاص أغبياء جداً؛ فمن الجيد أن تعرف الأشياء التي لا تجيدها، والأشياء التي أنت رائع فيها؛ فنحن نقرأ أشياء كهذه ولا نلقي نظرة على المجالات التي لا نجيدها، ونتوهَّم بأنَّنا نجيدها؛ ونفشل في اعتبار أنَّنا سنكون ضحايا للأمور التي لا نستطيع فهمها وتجربتها.
ومن الأمثلة على ذلك: نحن نحجب رؤيتنا عندما يتعلق الأمر بوعينا العاطفي، فقد نتفوه بكلام فارغ ويُساء تفسير غضبنا والحكم علينا، لذلك نبتعد عندما نشعر بعدم الارتياح، ونبالغ في التعويض عن الشعور بالنقص، ونترك غِيرَتنا تسلب أفضل ما فينا، ونصبح أشخاصاً غير حساسين ولا ندرك ذلك.
لكنَّ بعضنا يعتقد أنَّنا لا نفعل ذلك بنفس القدر أو السوء مثلما يفعله الآخرون؛ ومع ذلك، أظهرت الدراسات أنَّ الأشخاص الذين حصلوا على أدنى المراتب في اختبارات الذكاء العاطفي يعتقدون أنَّهم أكثر وعياً عاطفياً من غيرهم؛ ومما يزيد الأمر سوءاً أنَّ هؤلاء الأشخاص أنفسهم أكثر تردداً في الاستماع إلى التغذية الراجعة حول درجاتهم، وكانوا أقل ميلاً للتعبير عن الاهتمام بالموارد التي من شأنها أن تساعدهم على تحسين ذكائهم العاطفي.
لا يتعلق الأمر بالعواطف فحسب، وإنَّما يتعلق بكل شيء؛ فالأشخاص الذين يتبعون عادات غير صحية في نمط الحياة يصنفون أنفسهم على أنَّهم أكثر صحة نسبياً مما هم عليه في الواقع، والأشخاص الذين يُحرزون نتائج متدنية في اختبارات التفكير المعرفي والتحليلي يبالغون بشدة في تقدير قدراتهم؛ وفي الوقت نفسه فإنَّ الأشخاص الذين يسجلون درجات أعلى يستخفون بأدائهم، والأشخاص الذين يتبنون أكثر الآراء تحيزاً سياسياً لديهم فعليَّاً أكثر المعتقدات افتقاراً للدقة؛ فهم يبالغون أو يقللون بشكل كبير من الأرقام المتعلقة ببعض الأمور مثل المساهمة في الرعاية الاجتماعية ونفقات الميزانية الحكومية؛ لذلك نحن محاصرون في عالم حيث الأشخاص الذين يحتاجون إلى أكبر قدر من المساعدة لا يرفضونها فحسب، وإنَّما يرفضون حتى تصديق أنَّهم بحاجة إلى المساعدة في المقام الأول.
فهل نحن في حالة ميؤوس منها؟ أم هناك طريقة للخروج؟
كيف يمكنك إقناع شخصٍ ما أو إقناع نفسك بالبحث عن شيء لا يمكنك رؤيته حتى؟ كيف تصحح خطأ ما إذا كنت لا تعرف أنَّك ارتكبته أساساً؟ هذه هي المفارقة في محاولة التغلب على جهلنا: الشيء الذي سيساعدنا على رؤية أخطائنا هو نفس الشيء الذي يمنعنا من ارتكابها أساساً، حيث لا يمكنك مناقشة أصحاب نظرية المؤامرة نقاشاً دقيقاً لأنَّهم لم يشكلوا معتقداتهم بعقلانية، فلو كانوا قادرين على تغيير معتقداتهم بشكل عقلاني واعتماداً على الأدلة، لما كانوا ليؤمنوا بنظريات المؤامرة الغريبة في المقام الأول، في الواقع، يعتقد هؤلاء أنَّهم الوحيدون العقلاء أساساً.
جزء من المشكلة هو أنَّ هناك راحة في الشعور بالمعرفة، فالناس لا يحبون الشك، وبالتالي الثبات على معتقد ما يساعدنا على الشعور بأنَّنا أصبحنا قادرين على فهم العالم، فعندما نتمكن من فهمه نشعر بالأمان، ولا يهم سواءً كان هذا الاعتقاد صحيحاً أم لا، يجب أن يمنحنا بعض الراحة من القلق من عدم المعرفة، وربما يكون هناك طريقة للتسلل إلى عقولنا العاجزة وإزالة الشعور بالراحة بطريقة ما، حيث تشير الأبحاث إلى أنَّ هذا قد يكون ممكناً نوعاً ما، ويبدو أنَّ جعل الأشخاص يركزون على تطوير المهارات ذات الصلة، بدلاً من تقييم قدراتهم الخاصة له بعض التأثير في تقليل تأثير دانينغ كروجر في أداء المهام، على سبيل المثال، إذا كان شخص ما سيئاً في المحاسبة ولكنَّه لا يدرك ذلك، فربما يجب تعلميه المهارات التنظيمية حتى يدرك أثناء عملية تعلم طريقة تنظيم الأعمال الورقية والمعاملات أنَّه أسوأ محاسب في العالم.
قد يكون من المفيد أيضاً البدء بتعليم الناس مفهوم النقاط العمياء وتأثير دنينغ كروجر، ثم تركهم يستوعبون الفكرة لفترة حتى يبدؤوا في التشكيك في افتراضاتهم الخاصة؛ وبقدر رغبتك في أن تكون مزعجاً بالنسبة لهؤلاء الأشخاص، فقد اتضح أنَّه ليس من المفيد السخرية منهم على مدى جهلهم، فالسخرية منهم تجعلهم يتخذون موقفاً دفاعياً ويضاعفون تحدي المعتقدات ولا يتخلون عنها.
يمكنك الضغط بلطف على شخص ما لرؤية جهله؛ حاول مثلاً أن تعرض عليه بعض الأمثلة عن أفضل أداء في أي مجال يبالغ في ثقته به.
قد يُجدي هذا نفعاً وقد لا يُجدي، وذلك بحسب توهم الشخص، لكنَّ الأمر يستحق المحاولة.
في النهاية، إنَّ الطريقة الوحيدة لتجنب جهلنا هي من خلال السعي إلى إبداء عدد أقل من الآراء والتمسُّك بعددٍ أقل من المعتقدات، فالتواضع هام، وفي الواقع، يشير تأثير دانينغ كروجر إلى أنَّ التواضع يمكن أن يكون عملياً للغاية، فمن خلال التقليل المتعمد من فهمنا للأشياء.
نحن لا نحصل على المزيد من الفرص للتعلم والنمو فحسب، وإنَّما نعزز نظرة أكثر واقعية لأنفسنا، ونمنع أنفسنا من أن نبدو وكأنَّنا نرجسيون أمام الآخرين؛ هذا كل ما في الأمر، حتى نكون أكثر شخص متواضع نقابله على الإطلاق، وبهذا عدنا إلى نقطة البداية.
أضف تعليقاً