يعتمد الأطباء على المرضى لوصف أعراضهم وتاريخهم الطبي والتغيرات الصحية الشخصية في أيَّة عيادة أو مستشفى؛ لذا يميل المتحدثون الجيدون من كبار السن إلى الحصول على رعاية صحية أفضل، بينما يؤدي التعرض المكثف "لصدمات الطفولة" دوراً في فقدان المهارات اللغوية لكبار السن عند الحديث عن قصصهم؛ ممَّا يؤدي إلى عدم حصولهم على الرعاية الطبية المناسبة.
لنتأمل ما حصل مع "فلورنسا"، كمثال مفترض:
تواجه المريضة "فلورنسا" نوبات من الدوار في إحدى ليالي تموز/ يوليو الحارة، فتشعر بالفزع والقلق من تكرار نوبات الدوار في أثناء القيادة، أو نتيجة لعدم التحسن، كما أنَّها قلقة من كيفية التعامل مع الأمر في حال تدهور المرض أو استمر بشكل متكرر؛ لذا قررت الذهاب إلى قسم الطوارئ على الرغم من تجربتها السابقة والتي لم تستفد منها.
- تسألها ممرضة الاستقبال عن سبب وجودها في قسم الطوارئ؟
- "حسناً، حدث لي هذا الشيء السيئ! قمت بعمل الفحوصات اللازمة وكان كل شيء ضمن معدله الطبيعي تقريباً".
- تبدو الممرضة في حيرة، "متى كان ذلك؟".
- "أكتوبر، كنت..." ستقاطعها ممرضة الاستقبال لأنَّها لا تحتاج إلى سماع ما حدث قبل تسعة أشهر، تقاطعها وتشير إليها بالجلوس في منطقة الانتظار.
وبعد فترة وجيزة من الزمن، تأخذ "فلورنسا" دورها للدخول إلى الطبيب.
تدربت "فلورنسا" على ما ستقوله للطبيب في أثناء الانتظار، لكنَّ الطبيب يقاطعها هو الآخر بعد بضع ثوان ليسألها ماذا تعني بكلمة "الدوار".
-ترد "فلورنسا": "كما تعلم، هذا الشعور بالدوار يبدو... أوه أنا أكره ذلك، كما تعلم...".
على ما يبدو فإنَّ صعوبة الحياة بدءاً بالعنف الذي شهدَته واختبرَته عندما كانت طفلة، تُعرِّض صحتها وسلامتها اللغوية للخطر.
تجارب الطفولة السيئة (adverse childhood experiences) والصحة:
أسفرت البحوث في مجال تحديد "الروابط بين تجارب الطفولة السيئة وسوء الصحة العقلية والبدنية" عن تصنيف هذه التجارب السيئة كعامل خطر خفي للعديد من أمراضنا المرهقة والمزمنة الأكثر انتشاراً، كما جعلَته موضوع رأي العام.
تبدو النتائج محيِّرة للعقل؛ إذ شهد نحو 60% من البالغين نوعاً واحداً على الأقل من "تجارب الطفولة السيئة" (ACE)، ويتعرض طفل واحد من كل ثلاثة أطفال لاعتداء بدني أو جنسي خطير، أو يتعرض للعنف بين الأفراد، وهي مشكلة رئيسة في مجال الصحة العامة.
ترتبط تجارب الطفولة السيئة بالسلوكات والخبرات غير الصحية في وقتٍ لاحق من الحياة؛ إذ إنَّها تزيد من خطر تدخين الأطفال السجائر، أو تعاطي المخدرات والكحول، أو البدانة، أو تعرُّض الفرد لمزيدٍ من الصدمات حتى بعد النضج، وبسبب التجارب السيئة وما تخلفه من آثار إجهاد في الصحة، يزداد خطر الإصابة بأمراض القلب والرئتين والكبد، والألم المزمن، وبعض أنواع السرطان.
يُعَدُّ ما تعانيه "فلورنسا" في غرفة الطوارئ نذراً قليلاً من الآثار المدمرة التي يتعرض لها الأشخاص الذين تعرضوا لتجارب طفولة سيئة؛ الأمر الذي يُصعِّب عليها الحصول على رعاية صحية جيدة، ثم إنَّ هناك علاقة قوية بين عدم تخطي الصدمات النفسية في مراحل النمو وضعف المهارات اللغوية والروائية؛ وهذا ما يسمى "اضطراب الفكر".
مهارات السرد اللغوية والصحة:
وصف الفيلسوف "بول غريس" (Paul Grice) صفات السرد الجيد في أربع مقولات:
- وجود أدلة على ما نقوله (الجودة).
- إرفاق تفاصيل مختصرة ولكن كاملة (النوعية).
- ترابط الكلمات بالموضوع الأصلي (الترابط).
- الوضوح والتنظيم (الأسلوب).
استعملَت عالمة النفس "ماري ماين" (Mary Main) ومعاونوها مقالات عالم النفس "بول غريس" لوصف تأثير إهمال علاج الصدمات والخسارات في أثناء مرحلة الطفولة، في الحالة الذهنية للشخص عندما يتعلق الأمر بالعلاقات الهامة في حياته؛ حيث وجدوا أنَّه يمكن ملاحظة الأشخاص الذين لم يُعالَجوا من صدمات الطفولة المؤلمة، من خلال الفشل في التنسيق بين جودة ونوع وترابط وأسلوب القصص التي يروونها خلال اللقاءات العاطفية، عند الحديث حول تلك العلاقات آنفة الذكر.
كما تُعَدُّ محادثة "فلورنسا" في قسم الطوارئ مع الطبيب مثالاً مصغراً عن "المحادثات الحاسمة"؛ حيث عانت بشدة لشرح حالتها والحصول على المساعدة التي تحتاج إليها.
شاهد بالفديو: 8 طرق لتحسين المهارات اللغوية عند طفلك
أنماط اضطراب الفكر:
يوجد نمطان شائعان من اضطراب الفكر في عملية التواصل؛ حيث إنَّ نمط "فلورنسا" على سبيل المثال يسمى "النمط مشغول البال"؛ وذلك لأنَّ قلقها واضح بسبب الشعور بالإنهاك من جرَّاء الخوف من تنظيم أفكارها، فهي تعرض الأحداث من دون تسلسل منطقي، ولا تستطيع إنهاء الأفكار، وتضيف الكثير من التفاصيل ضمن حديثها، حتى إنَّه من الصعب معرفة القصد وسط هذه الفوضى في الحديث.
ونتيجةً لذلك، يبدو سرد التفاصيل عن الحالة الصحية "لفلورنسا" كأحجية متناثرة القطع في المكان نفسه في آنٍ واحد؛ الأمر الذي يُشعِر المستمع بالحيرة والإحباط، وقد يبدأ الطبيب كتابة التشخيص بتعليق "ذاكرة ضعيفة".
أمَّا النمط الثاني من اضطراب الفكر، فهو يختلف تماماً عن نمط "فلورنسا" "مشغول البال" الذي يقدم الكثير من المعلومات غير المنظمة؛ حيث يميل الشخص الذي لديه نمط "المتجاهل" إلى تقديم استنتاجات من دون أدلة، وتعميمات من دون أمثلة واقعية، وهو ما يجسده الحوار الآتي:
أ: "ما شعورك؟".
ب: "كما هو الحال دائماً".
أ: "منذ متى يحدث هذا؟".
ب: "منذ برهة".
يمكننا أن نجد أنَّ المحادثة قصيرة وفي مراحلها النهائية دائماً، لا يستبين المتحدث (مقدم الرعاية الصحية) شيئاً، وفي حين يَظهر قلق شخص مثل "فلورنسا" بشكلٍ صريح، نجد أنَّ الأشخاص الذين يتَّبعون أسلوب التجاهل يكتمون مشاعرهم؛ ممَّا يجعل المستمع يشعر أنَّ أسئلته الإضافية غير مُرحَّبٍ بها.
خطوات عملية للتعامل مع مشكلة صعوبة سرد القصة من قبل المريض:
إذا تمكَّنَت "فلورنسا" ومقدمو الرعاية الصحية من إدراك أنَّ سبب صعوبة سرد قصتها هو علامة على ما يجري، وليس مجرد مؤشِّرٍ على أنَّها "ذات ذاكرة سيئة"، فيمكنهم اتخاذ الإجراءات المناسبة؛ إذ يمكن أن تتخذ "فلورنسا" بعض الخطوات الآتية:
- إحضار صديق معها لمساعدتها على البقاء هادئة ومتزنة.
- توضيح قلقها واحتياجها إلى بعض الوقت لوصف المشكلة.
- تدوين الملاحظات مسبقاً حول أهم النقاط والأسئلة.
والأهم من ذلك، يحتاج العاملون في مجال الرعاية الصحية إلى التعرف إلى أسباب الخوف لدى المرضى، ويمكن للطبيب مساعدة "فلورنسا" على تنظيم أفكارها بدلاً من المقاطعة المستمرة لاستجوابها؛ حيث يمكنهما مساعدة بعضهما الآخر للعثور على تفاصيل القصة "حول سبب الدوار".
يضطر كل مريضٍ إلى رواية أحداث حياته؛ لذا فوظيفة مختص الرعاية الصحية تسهيل عملية السرد، حتى مع وجود صعوبات لغوية لدى المتحدث.
أضف تعليقاً