من أجل ألا ننسى الدروس التي يلقننا إياها الشهر الفضيل بعد انقضائه، لا بدَّ من تطبيق هذه المبادئ والقيم الأخلاقية في حياتنا اليومية، لتتحول إلى عادات متأصِّلة في تفكيرنا وتصرُّفاتنا، وفي هذا المقال سوف نسلِّط الضوء على المبادئ والقيم الأخلاقية في رمضان وكيف يمكن تطبيقها في حياتنا اليومية لتصبح ضمن سلوكنا العفوي.
أهم المبادئ والقيم الأخلاقية في رمضان:
يهذِّب الصيام النفس، ويساهم حرمانها المؤقت من الملذات في كبح جماح شهوتها وغريزتها، فلا اندفاع جنوني نحو الشهوات، إنَّما تصبير بالعقل والمنطق، أما الصدقة ففيها جهاد للنفس لتُنفق ممَّا تحب، وفي مساعدة الآخرين ولو على حساب راحتنا ثواب مضاعف، فماذا يعلمنا الشهر الفضيل؟ وكيف نحتفظ بتعاليمه طوال العام؟
1. الصبر:
تعد قيمة الصبر من أهم المبادئ والقيم الأخلاقية التي يغرسها فينا شهر رمضان، وكثيرة هي المواقف التي تدفعنا إلى الصبر في هذا الشهر، فتساهم في تثبيت هذه القيمة في سلوكنا، فالامتناع عن الطعام والشراب وباقي الملذات من طلوع الفجر حتى غياب الشمس يتطلب كثيراً من الصبر والمقاومة، وخاصة في أثناء التجول في الأسواق ورؤية مناظر المأكولات الشهية وشم روائحها.
ومن الصائمين الأم التي تُعِدُّ الطعام لأطفالها وتشتهيه لفرط جوعها، أو المعلِّم الذي يجفُّ حلقه من شرح الدروس للتلاميذ، أو السائق الذي يجوب المدينة في الحر والقر، أو العامل الذي يحمل على ظهره ما ينهك جسده، والقاسم المشترك بين الصائمين جميعاً هو صيامهم طواعيةً واختيارهم تصبير النفس وكبحها عن شهواتها لتحسَّ بمعاناة الفقراء والمحتاجين، ولتتعلَّم كيف تضبط غرائزها بفعل العقل الذي يميزها عن باقي الكائنات.
ليس الامتناع عن الطعام والشراب هو ما يتطلب الصبر فقط، بل أداء العبادات، ففي صلاة التراويح وقيام الليل والسحور والتهجد ما يجبر النفس على الخروج من راحتها أو نومها إلى أداء العبادة التي تعود على الصائم بثواب عظيم، والمثابرة على أداء هذه العبادات طيلة الشهر يتطلب كثيراً من الصبر وجهاد النفس وتشجيعها على الاستمرار، فضلاً عن الصبر في المواقف اليومية التي قد يتسبب الصيام والجوع والعطش بزيادة احتمالات الانفعال فيها، وهنا بدل أن ينساق الصائم وراء تقلبات جسده، يصبر ويحكِّم عقله ويتعامل مع الآخرين بهدوء وروية.
للصبر وجوه أخرى كالصبر على الابتلاء، والصبر على أذية الآخرين وتجنُّب ردها بأذية من طرف الصائم، وكل ذلك ابتغاء الأجر الذي رصده الله سبحانه وتعالى للصائمين الصابرين، والذي يؤكده الحديث النبوي الشريف عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: "المؤمنُ الَّذي يخالطُ النَّاسَ ويصبرُ على أذاهم أعظمُ أجراً منَ المؤمنِ الَّذي لاَ يخالطُ النَّاسَ ولاَ يصبرُ على أذاهم"، صحيح ابن ماجه: 3273.
شاهد بالفيديو: كيف تجعل من شهر رمضان نقطة انطلاقة للتغيير الإيجابي؟
2. العطاء:
أما العطاء فهو قيمة هامة أخرى من المبادئ والقيم الأخلاقية في رمضان التي نتعلمها بفضل الصيام، فالصيام يحثُّ المرء الذي تذوق مرارة الجوع والعطش على التصدق للفقراء والمساكين، فيعطيهم من ماله الذي تعب في جنيه، لكنَّه بعد أن جرَّب معاناتهم رقَّ قلبه لصعوبة ما يقاسون فأخرج من جيبه سراً وعلانية، فعن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما، قال: "كان رسول اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ أجودَ الناسِ، وكان أجودَ ما يكون في رمضانَ حين يلقاه جبريلُ، وكان يلقاهُ في كل ليلةٍ من رمضانَ فيدارسُه القرآنَ، فلرسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ أجودُ بالخيرِ من الريحِ المرسلةِ"، صحيح البخاري: 6.
ليس عطاء المال هو العطاء الوحيد الذي نتعلمه في شهر رمضان ونحرص على استمرار تطبيقه في حياتنا اليومية بعد الشهر الفضيل، بل عطاء الجهد والعلم أيضاً أنواع أخرى للعطاء يجب أن نحرص على الاحتفاظ بها، وكثر هم الأشخاص القادرون على توظيف جهودهم في خدمة الإنسانية، ومنهم الذين بدؤوا هذه السلسلة في رمضان عند التطوع لتوزيع وجبات إفطار تعدها منظمات خيرية على الصائمين من الفقراء والأرامل واليتامى، ولكنَّهم بعد انقضاء الشهر الفضيل استمروا في توظيف جهودهم الخيرية لخدمة الفئات المستضعفة والمستحقة للإحسان، وفي هذا احتفاظ بالمبادئ والقيم الأخلاقية التي تعلموها في الشهر الفضيل.
3. المراقبة الذاتية أو مراقبة الضمير:
من المبادئ والقيم الأخلاقية في رمضان والتي يجب أن نطبقها في حياتنا اليومية هي المراقبة الذاتية أو تفعيل رقابة الضمير، فالصائم قد يختلي بنفسه في كثير من الأوقات، ويكون مخيراً بين الاحتفاظ بصومه أو إفساده بإحدى المفطرات، فإذا ما اختار استكمال صيامه فذلك بسبب معرفته برقابة الله ورؤيته له حتى لو كان وحيداً وبعيداً عن الآخرين، فإن استطاع إخفاء الأمر عن الناس، فلن يستطيع إخفاءه عن ربه الذي يراه في كل لحظة، وكذلك بسبب ضميره المتيقظ الذي يمنعه عن عصيان ربه.
إنَّ في هذا الخلق سمو بالنفس الإنسانية إلى حد كبير، وتفعيل للمراقبة الذاتية على الأفعال، فيتصرف الإنسان في الخفاء كما يتصرف في العلن، لأنَّه يعرف أنَّ عين الله تراقبه وتشهد على أفعاله فلا يفعل ما يغضب ربه حباً به.
إنَّ امتلاك الناس لرقابة الضمير من شأنه أن يمنع كثيراً من الأفعال السيئة مثل السرقة وتدبير الأذى وكيد المكائد للآخرين وحتى النميمة، فالضمير حي متيقظ لرفض كل ما يُغضب الله سبحانه، وهذا من صور الإحسان الذي ذكره النبي في حديثه عن أبي هريرة رضي الله عنه، أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الإحسانُ أنْ تعبدَ اللهَ كأنَّكَ تراهُ، فإنْ لم تكنْ تراهُ فإنَّهُ يراكَ"، صحيح البخاري: 4777.
4. الالتزام:
أما الالتزام فهو مبدأ آخر من المبادئ والقيم الأخلاقية في رمضان، والتي يجلب الالتزام بها في حياتنا اليومية خلال الشهر الفضيل وبعده مكاسب كثيرة، ففي كل تفاصيل الثواب والنجاح يكون الالتزام لبنة الأساس في ذلك، فالالتزام بالابتعاد عن الملذات هو أساس الصيام الذي يُكسب رضى الله.
في الصيام يكون الالتزام أيضاً بأوقات الإفطار والسحور وأداء الطاعات والعبادات التي يُسوَّل للنفس أحياناً التكاسل عنها، ولكنَّ الالتزام بها يعزز رضى وطمأنينة وثواباً عظيماً يجزينا الله به، فماذا لو طبقنا قيمة الالتزام في حياتنا اليومية؟
النتيجة ستكون مذهلة بالتأكيد، فإذا ما التزمنا بأعمالنا وواجباتنا المهنية سنحصل على النجاح المهني والعلاوات، وإذا ما التزمنا بالتعلم والدراسة نلنا علامات مميزة، وإذا ما التزمنا بحمية غذائية كسبنا صحتنا، وإذا ما التزمنا بممارسة الرياضة حصلنا على جسم مرن ورشيق؛ إنَّ في الالتزام تدريب للنفس على تحمُّل المسؤولية، وهذه خطوة أولى على طريق النجاح والفلاح.
شاهد بالفيديو: أعمال يجب أن تقوم بها في العشر الأواخر من رمضان
5. الرحمة والإنسانية:
هما من أهم المبادئ والقيم الأخلاقية في رمضان ويُكسب الالتزام بهما ثواباً في الدنيا والآخرة، فقد تحدَّثنا عن أثر الصيام في جعل قلب الصائم رقيقاً متعاطفاً مع الفقراء والمحتاجين فهو قد جرَّب معاناتهم، وهذا يكون دافعاً له على مساعدتهم والوقوف إلى جانبهم بنفسه وماله ومساندتهم، وهذا يساهم في تعزيز التكافل الاجتماعي الذي يقرِّب القلوب بين أفراد المجتمع ويخفف الضغينة في نفوس المستضعفين تجاه مَن هم أفضل حالاً منهم.
لا تتوقف الممارسات الرحيمة الإنسانية على البشر، بل تصل إلى بقية الكائنات الحية، فيرق قلب الصائم تجاه الحيوانات ويمنع أذيتها ويهرع إلى مساعدتها وإطعامها، كما تنعكس الرحمة والإنسانية على النباتات، التي تنال نصيبها من هذا النمو الروحي، فيتوقف الإنسان عن إيذائها ويسعى إلى خدمتها ورعايتها.
لعلَّ هذه النزعة الرحيمة في القلوب هي جوهر الصيام والدين الإسلامي بشكل عام، الذي يهدف إلى تأليف القلوب والجمع بينها، فعن النعمان بن بشير رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مَثلُ المؤمنين في توادِّهم وتراحُمِهم وتعاطُفِهم، مَثلُ الجسدِ؛ إذا اشتكَى منه عضوٌ، تداعَى له سائرُ الجسدِ بالسَّهرِ والحُمَّى"، صحيح مسلم: 2586.
6. تنظيم الوقت:
في شهر رمضان المبارك ينظِّم المسلمون وقتهم بين العمل والعبادة والراحة، وإنَّ تنظيم الوقت وإيلاء كل جانب حقه مبدأ هام من المبادئ والقيم الأخلاقية في رمضان التي يجب أن نطبقها في حياتنا اليومية، فنتعلم كيف نفصل بين أدوارنا الاجتماعية والمهنية والدينية دون أن ننسى حقوق أنفسنا علينا.
التوازن وتنظيم الوقت ضروري، وليس من المحبب أن يتفوق جانب على آخر، ودليل ذلك الحديث الآتي: عن وهب بن عبد الله رضي الله عنه، قال: "آخَى النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بين سَلمانَ وأبي الدَّرداءِ، فزار سَلمانُ أبا الدَّرداءِ، فرأَى أمَّ الدَّرداءِ مُتَبَذِّلَةً، فقال لها: ما شأنُك؟ قالتْ: أخوك أبو الدَّرداءِ ليس له حاجةٌ في الدنيا، فجاء أبو الدَّرداءِ، فصنَع له طعاماً، فقال: كُلْ، قال: فإنِّي صائمٌ، قال: ما أنا بآكِلٍ حتى تأكُلَ، قال: فأكَل، فلما كان الليلُ ذهَب أبو الدَّرداءِ يقومُ، قال: نَمْ، فنام، ثم ذهَب يقومُ، فقال: نَمْ، فلما كان من آخِرِ الليلِ، قال سَلمانُ: قُمِ الآنَ، فصلَّيا، فقال له سَلمانُ: إن لربِّك عليك حقَّاً، ولنفْسِك عليك حقَّاً، ولأهلِك عليك حقَّاً، فأعطِ كلَّ ذي حقٍّ حقَّه، فأتَى النبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فذكَر ذلك له، فقال النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: صدَق سَلمانُ"، صحيح البخاري: 1968.
في الختام:
إنَّ شهر رمضان المبارك ثريٌّ بالعِبر والمواعظ في جميع تفاصيله وتعاليمه التي لم توضع عبثاً، والتي تستحق أن تصير بالنسبة إلى المسلمين بوصلة المبادئ والقيم الأخلاقية التي تضبط سير حياتهم اليومية، وإنَّ تطبيق قيم الشهر الفضيل وحملها في الروح والسلوك طيلة أيام العام، من شأنه أن يسمو بالأفراد ويرفع شأنهم، وهذا ينعكس بدوره على المجتمع الذي يرتقي بارتقاء أفراده.
أضف تعليقاً