وبسبب أهمية هذه الآلة وأهمية ما تقوم به، حولها الناس إلى شيء مقدس وأحاطوها بهالة من التعظيم والتبجيل؛ مع أنَّهم هم الذين صنعوها وأوجدوها. يستمر الأمر كذلك إلى أن يأتي ذلك اليوم الذي تتوقف فيه الآلة عن العمل، فيضطرب الناس ويتوهمون أنَّهم في طريقهم إلى الانهيار بسبب تعطل الآلة، وأنَّ حياتهم مرتبطة ارتباطاً مباشراً باستمرار عمل الآلة التي صنعوها أساساً.
لعلَّك عزيزي القارئ قد تتساءل الآن: ما الغاية من هذه القصة؟
الغاية منها أنَّه وبعد قرابة قرنٍ من الزمن - في مطلع عام 2019 - نشرت صحيفة وال ستريت جورنال التي تعد واحدة من أهم الصحف العالمية وأكثرها انتشاراً، مقالاً تحدثت فيه عن مدى حاجة الناس إلى كاميرات المراقبة، ومدى انتشارها، وذكرت في المقال أنَّه في عام 2021 ستركب الصين 560 مليون كاميرة مراقبة، وتليها الولايات المتحدة ب 85 مليون كاميرة، وكذلك الأمر في كل البقاع الأخرى من هذا الكوكب بما فيها المنطقة العربية.
أعتقد أنَّك عزيزي القارئ تحاول إيجاد الرابط بين القصة ومقال الصحيفة، وعنوان المقال الذي قرأته. يمكن تلخيص القاسم المشترك بين ما ذكر أعلاه من خلال أسئلة هامة جداً؛ وهي:
- هل هناك إشكالية بين الالتزام وتنمية الضمير والواقع الحالي؟
- هل التقدم الحضاري عزز الالتزام وتنمية الضمير في المجتمع؟
- هل هناك فعلاً حاجة إلى تركيب الصين أو الولايات المتحدة أو البلاد العربية لهذا الكم من كاميرات المراقبة؟
- هل نحن الأفراد المتوزعون على كوكب الأرض سيئون إلى هذه الدرجة لكي تكون هناك كاميرات تراقب حركاتنا؟
- هل اعتدنا أن يكون هناك رقيب علينا؟
مشكلات التطور الحضاري وانعكاسه على حياتنا اليومية:
على الرغم من حسنات التطور الحضاري والتكنولوجي، إلا أنَّه في ذات الوقت قد أفرز عديداً من المشكلات الحضارية على مستوى العالم، إذ إنَّ تحويل العالم لقرية صغيرة جعلت البشرية مفتوحة على بعضها، بكل ما تحتويه المجتمعات من قيم ومبادئ وعادات وتقاليد، الإيجابي منها والسلبي؛ وهنا يكمن الخطر في الاستخدام السيء لفضاء تلك الموارد التي لا يوجد رقيب على استخدامها، وهذا ما يمكن أن نجده مع ارتفاع معدلات الجريمة في العالم، وزيادة نسبة مدمني المخدرات، وتنوع أساليب وطرائق تنفيذ الجرائم على اختلاف أنواعها. إنَّ هذا التنوع ليس ذكاءً من المجرمين مثلاً بقدر ما هو استخلاص لها من أماكن أخرى حول العالم باستخدام الإنترنت وغيرها من وسائل التواصل الحديثة.
نعود الآن إلى أسئلتنا السابقة من أجل الإجابة عنها، والتي تتطلب منا أن نكون صادقين مع أنفسنا بصورة مطلقة.
يمكننا القول أنَّ هناك مشكلة بين الضمير والالتزام وواقعنا المعاصر، وكثيرة هي الأمثلة التي نراها يومياً ونعاين آثارها بشكل واقعي:
- لماذا لا نرتكب مخالفة سير إن كانت هناك كاميرا معينة في مكان ما من الشارع، أو إن كان شرطي المرور واقف في مكان ما؟
- لماذا لا نرمي مهملات البيوت أو المهملات الشخصية إن كان هناك من يراقبنا؟
- لماذا نُعلم أبناءنا أنَّ النجاح في الامتحانات يتطلب استخدام كل الوسائل المتاحة، حتى لو كانت بالغش، مع استخدام التطور التكنولوجي في تسهيل عملية الغش؟
- لماذا لا تقدم الرشاوى في مكان عام، وكلها تكون من تحت الطاولات كما يقولون، وفي أماكن خاصة؟
بناء على كل ما سبق نجد أنَّ هنالك الكثير من الثغرات الأخلاقية في مجتمعاتنا بشكل عام، والأهم من ذلك أنَّنا بتنا نُجمِّلها بعبارات منمقة وبإلقاء اللائمة على الآخرين؛ كأن يقول أحدهم:
- خالفت السير لأنَّني في عجلة من أمري.
- لقد رميت المهملات في الشارع لأنَّ مكان رمي النفايات بعيد، ويجب على القائمين أن يعيدوا توزيع الحاويات. وإنَّ قبض الرشوة هو بسبب غلاء المعيشة؛ وذلك الموظف الذي يبرر إهماله الوظيفي بسبب الراتب المتدني.
كلها مبررات واهية لا قيمة لها، ووهم لتزوير الحقائق؛ فالمشكلة لدينا في أساسها مشكلة ضمير والتزام أخلاقي، ويمكننا القول: إنَّ غالب مشكلاتنا الاجتماعية إن لم تكن كلها، هي مشكلة غياب الالتزام وغياب الضمير عن تعاملاتنا اليومية على جميع الأصعدة.
شاهد بالفديو: أحاديث الرسول محمد ﷺ عن الأخلاق
ما هي المشكلات الأساسية الناتجة عن عدم تعزيز الالتزام الأخلاقي، وتنمية الضمير؟
كثيرة هي المشكلات التي يمكن أن نعاني منها من جراء عدم الالتزام وعدم الاستماع لصوت الضمير، وهذه المشكلات قد تكون على مستوى الأفراد والمجتمعات، ونذكر منها:
1. زيادة مستوى السلوك العدواني:
هذا أمر حقيقي وواقعي، فغياب الالتزام وغياب الضمير يعني غياب الوازع الذي يردع الفرد عن القيام بسلوكات سيئة. قد يعتقد البعض أنَّ العدوانية تكمن في الضرب والسرقة والجريمة بشكل عام، وهذا غير صحيح؛ أوليسَ رمي القاذورات في الشارع عدوانية تجاه المجتمع؟ أوليسَ أخذ الرشوة عدوانية أيضاً؟ وحتى مخالفة السير وكسر القوانين، كلها عدوانية، إلا أنَّنا ألِفنا مثل هذه الأمور فباتت وقوعها أمراً عادياً.
2. انعدام التعاطف الاجتماعي، وزيادة القسوة:
لتأكيد هذا الكلام، لنعد إلى الإحصاءات التي تتحدث عن التنمر والتحرش والسخرية والضرب، إنَّها إحصاءات مرعبة، وتدل على مدى الانحدار الأخلاقي؛ فعلى سبيل المثال، ذكرت إحصائية لمنظمة هيومن رايتس ووتش أنَّ هنالك طالب أو طالبة من بين ثلاثة طلبة يتعرضون للعنف والتنمر على يد زملاء المدرسة؛ وهذا يدل على البيئة العاطفية التي ينشأ فيها أولئك المتنمرون، والتي تدل قطعاً على انعدام التعاطف وزيادة معدلات القسوة.
3. تفشي الانحلال الأخلاقي:
مثل إدمان المخدرات، والكحول، والعادات السيئة البعيدة عن أخلاقيات مجتمعاتنا الشرقية، إضافة إلى اعتياد هذه الأمور إلى درجة عدم إدراك عواقبها الوخيمة.
يكمن السؤال الذي يمكن أن يدور في بالك الآن أيها القارئ الكريم في كيفية امتلاك الآلية التي تعزز مبادئ الالتزام وتنمية الضمير؛ سواء عندك أم عند أبنائك أم أقرانك، وهذا أمر متاح لكل من يريد أن يعيش حياة راضية من خلال التعرف إلى خطوات تعزيز الالتزام.
ست خطوات لتعزيز الالتزام وتنمية ضميرك:
قبل الخوض في تفاصيل خطوات العمل الفعلي، من الهام لنا جميعاً أن ندرك المقصود من قول الله تعالى: "إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ"؛ فهذه الآية الكريمة هي لب تنمية الضمير وجوهر تعزيز الالتزام لدى الفرد، وهذا ما نسميه بالتربية النفسية، أي القيام بالإجراءات والممارسات التي تعزز عند كل فرد منا مبادئ الالتزام الأخلاقي، وتنمي فينا صوت الضمير الحي الصادق، وهذه الإجراءات هي:
1. تنمية مهارة المراقبة الذاتية:
على كل من يرغب بنقل نفسه إلى مرحلة العيش السعيد والرضى عن النفس، عليه أولاً أن يراقب ذاته، ويتوقف ليراجع أفكاره، ويستفيد من الأخطاء لتصحيح مساره في الحياة. على سبيل المثال؛ إنَّ مخالفة السير لا يجب أن تحدث، سواء كان هناك شرطي للمرور أم لا، وإنَّ التسرب من العمل لا يجب أن يحدث حتى لو لم يكن هناك من يراقب عملك، فهذا كله يعود إليك أنت كشخص، وكلما زاد المرء من مراقبة ذاته، زاد مقدار الالتزام لديه.
2. تعزيز مهارات التعاطف:
التعاطف لا يعني الشفقة على الآخرين؛ بل هو مفهوم آخر تماماً، إذ إنَّ تنمية الالتزام لدى الفرد يعني أن يشعر بالآخرين، وأن يضع نفسه في مكان الآخرين ليعرف مشاعرهم وأسباب سلوكاتهم ودوافعهم، فمثلاً لو كنت أنت صاحب منشأة ما، هل ترضى أن يهدر موظفيك أوقاتهم في شيء لا يفيد العمل ولا يعزز الإنتاجية ويزيد الكفاءة ويرفع الجودة.
لا داعي لكي أنتظر جوابك… أنت لن ترضى بكل تأكيد.
وإن كنت مدرساً؛ فهل ترضى أن يأتي مدرس آخر ويقضي حصته الدراسية من دون أن يفيد ابنك بتعليم صحيح؟
شاهد بالفديو: 8 نصائح لإظهار التعاطف ومراعاة الآخرين
3. تنمية مهارة تقبل النقد:
تكمن أهم مشكلة من مشكلات تعزيز الالتزام وتنمية الضمير في عدم تقبل نقد الآخرين، فكيف لإنسان لا يعترف بأخطائه أن يعزز مبادئ الالتزام عنده أو أن ينمي ضميره، فعندما تعلِّم ابنك أنَّ النجاح المدرسي مباح حتى لو كان بالغش، فهذا يعني أنَّك تجمل الخطأ، وإن جاء أحدهم وقال لك هذا خطأ، فقد يكون ردك: "هناك آخرون يقومون بمثل هذا الأمر".
إنَّ تعزيز مبادئ الالتزام وتنمية الضمير تتطلب من المرء وقفة صادقة مع الذات ليراجع أخطاء حياته لكي يتوقف عندها، بل ولكي يتقبلها إن سمعها من الآخرين، وأن يعمل على استبدالها فوراً.
4. تحمل المسؤولية:
على كل ما يريد أن يعزز مبادئ الالتزام لديه أن يعلم يقيناً أنَّ كل نتائج حياته التي يحصل عليها، والتي سيحصل عليها مستقبلاً هي نتاج عمله وأفكاره، فإن كان عمله خير سيحصد الخير، وإن كان عمله غير ذلك لن يحصل على ما يتمناه.
ولذا فإنَّ تنمية الالتزام وتعزيزه يقوم أساساً على تحمل المسؤولية ومعرفة مواطن القوة وتعزيزها، وإدراك نقاط الضعف وتحسينها؛ فعلى سبيل المثال؛ عليك إن كنت موظفاً في قطاع ما أن تدرك لماذا لم تحصل على ترقية وظيفية، فبكل تأكيد هناك نواقص أو نقاط ضعف لا بد من العمل عليها؛ والأصح هنا أن يتحمل هذا الموظف مسؤوليته كاملة، فيقوم بكل ما يلزم من التزام وظيفي ليحصل على الترقية التي يريدها.
5. الانصياع لصوت الضمير:
لقد خلق الله الإنسان على الفطرة السليمة، وهذه حقيقة لا جدال فيها، ويمكن معاينتها واقعاً على الأطفال مهما كان انتماؤهم الديني، وهذا يعني أنَّ بذرة الخير موجودة في كل شخص مهما كان؛ فحتى المجرمون في داخلهم بذرة الخير.
تتمثل بذرة الخير الموجودة لدى الإنسان في صوت الضمير الصادق الذي ينادي الإنسان في كل وقت ليقوم بما هو صحيح من أفعال وسلوكات، ولن يتمكن أي فرد منا أن يعزز مبادئ الالتزام عنده وينمي ضميره ما لم ينصت إلى نداءات الضمير الداخلية الصادقة؛ فأنت مثلاً عندما تصرخ في وجه زميلك أو زوجتك، وتكون مخطئاً في حقهم، يناديك صوت ضميرك ليحثك على الاعتذار، وفي مقابله تأتيك أصوات أخرى تبرر لك ما فعلت، من قبيل: لقد أزعجني كثيراً في وقت سابق، أو أنَّ زوجتي صرخت في وجهي في وقت سابق، فلا تعتذر... وهذا خطأ كبير يقع فيه كثير من الناس.
في الختام:
يمكن أن نقول إنَّنا لسنا في حاجة إلى كاميرات تراقب سلوكاتنا وتصرفاتنا بقدر ما نحتاج إلى إيقاظ ضمائرنا لتكون الصوت الذي يقود حياتنا، فالحضارة والارتقاء لا يمكن أن يكونا من دون بناء الإنسان أولاً، مهما بلغ التطور التكنولوجي.
إنَّ غياب مبادئ الالتزام وغياب دور الضمير يعني غياب الفضيلة والأخلاق، إذ يحول كل منا إلى قنبلة موقوتة تنتظر الانفجار لتُخرج ما فينا من أخطاء وسلبيات، ولا يمكن أن نبطل مفعول تلك القنبلة إلا بالتزام الخطوات الواردة في خطة تعزيز الالتزام وتنمية الضمير، فالمراقبة الذاتية تؤدي إلى نشوء التعاطف مع الآخرين.
وإنَّ تحمل مسؤولية أفعالنا تقودنا نحو معرفة أخطائنا وتقبل نقد الآخرين لنا، وكل ذلك يقودنا نحو الاستماع والإنصات والانصياع لصوت الضمير الصادق الذي يوجهنا نحو القرارات الصحيحة في حياتنا.
أضف تعليقاً