كم عدد المرات التي ندمت فيها على تجاوبك السريع مع كل طلب يُطلَب منك، إلا أنَّك تعود وتُخطِئ الخطأ نفسه في كل مرة؟ كم عدد المرات التي لمست فيها عدم تقدير الآخرين لك، بالرغم من كل تضحياتك وأفعالك؟ كم عدد المرات التي استغربت فيها تقدير الآخرين لذلك الشخص الذي لا يقدِّم لهم إلا ما يتماشى مع رغباته، ويرفض تقديم أي تنازل في سبيل إرضائهم؟
يخسر كثيرٌ من الناس أنفسهم يومياً طمعاً في الوصول إلى صورة مجتمعية معيَّنة قاموا بعبادتها، وطلباً لقيمة قاموا بتعليقها على الآخرين، واجتراراً لمشاعر من الحب والتقدير لم يُحسِنوا إدارتها داخلياً فبحثوا عنها خارجياً.
عندما يغيب تقدير الذات، وتُنسَف الحقوق الشخصية مقابل إشباع أولويات الآخرين، وتطغى اللطافة على السلوكات وصولاً إلى انعدام القدرة على المواجهة، وتُعشَق حالة التبرير الدائم، ويُحترَف تمثيل دور الضحية؛ فهذا يعني أنَّنا أمام مسألة غاية في الصعوبة، تتطلب البحث والصبر لعلاجها. الخضوع النفسي؛ مدار حديثنا خلال هذا المقال.
ما الخضوع النفسي؟
هي حالة نفسية يشعر فيها الإنسان بأنَّ قيمته أقل من قيمة الآخرين، وأنَّ عليه السعي لكسب رضا الآخرين من أجل الإحساس بالسعادة والهناء والثقة بالنفس. يتنازل الخاضع عن راحته ووقته وأولوياته في سبيل إرضاء الآخر؛ الأمر الذي يجعله دائم التعب والإرهاق. من جهة أخرى، يعتاد الخاضع على قول ما لا يتوافق مع ما في داخله، أي أنَّه يكبت مشاعره الداخلية الحقيقية؛ الأمر الذي يبقيه في حالة من القلق والتوتر والعصبية.
ما أسباب الخضوع النفسي؟
1. التربية:
يُربِّي كثيرٌ من الآباء أبناءهم على تقديس نظرة الآخرين عنهم، فيقول الأب لابنه: "كُنْ مهذباً أمام الآخرين، وإلا سيأخذون عنك نظرة سلبية"، وتقول الأم لابنتها: "ابقِ جميلة وهادئة، وإلا لن تنالي رضا الآخرين واستحسانهم". يخلق هذا النوع من التربية طفلاً خاضعاً للآخرين، غير حر وغير مستقل، وفاقداً للثقة بنفسه؛ إذ إنَّه يستقي ثقته بنفسه من كلام الآخرين عنه، فيكتئب ويحزن إن كان كلاماً سلبياً، ويشعر بالفرح إن كان كلاماً إيجابياً.
2. الاعتداء الجسدي:
تخلق الاعتداءات الجسدية التي قد يتعرض لها الطفل في طفولته المبكرة إحساساً بالدونية والنقص، كأن يتعرض -على سبيل المثال- للضرب والإهانة من قبل أبويه؛ الأمر الذي يُنشِئ طفلاً خاضعاً للآخرين وضعيف الثقة بالنفس.
3. طريقة تعامل الأبوين أحدهما مع الآخر:
تؤدي الطريقة التي يتعامل بها الأبوان مع بعضهما إلى كثيرٍ من التأثيرات النفسية على شخصية الطفل، فإن كان الأب يضرب ويهين ولا يحترم زوجته، ويقوم بتلك التصرفات اللاأخلاقية أمام طفله، سينشأ الطفل خاضعاً للآخرين ومهزوز الشخصية.
4. عدم تقدير الذات:
لا يُقدِّر الإنسان الخاضع ذاته، ولا يهتم بأولوياته، ويتنازل عن كل ما يحب في سبيل إرضاء الآخر، ولا يستطيع قول كلمة "لا" لأي أحد، ولا يستطيع رفض أي طلب يُطلب منه، حتى إن كان يضرُّ بمصالحه الشخصية وبحقوقه. هو دائم التبرير لتصرفات الآخرين غير المحترمة معه، وعلى الرغم من سعيه الدائم لتلبية رغبات ومصالح الآخرين، إلا أنَّه يُفاجأ بمعاملة الآخرين الدونية له؛ إذ إنَّه من الواضح أنَّهم لا يقدِّرونه بل يستغلونه.
5. فقدان أحد الأبوين:
قد يسبب فقدان أحد الأبوين أثراً سلبياً في نفسية الطفل، وذلك نتيجة عدم إشباع الطفل من الناحية العاطفية، وعدم الاهتمام الكافي به؛ الأمر الذي يؤثِّر في اكتمال نموه العاطفي والعقلاني، حيث ينمو الطفل والعاطفة تحتل جزءاً كبيراً من حياته، فيكون أسير تعليقات ومجاملات الناس، وكأنَّه يعوِّض المشاعر العاطفية التي كان يفتقدها عندما كان صغيراً. من جهة أخرى، عندما يكبر هذا الطفل، فإنَّه سيُبدي استعداداً للخضوع أمام الآخرين في سبيل إشباع النقص العاطفي الذي يشعر به.
شاهد بالفيديو: 8 نصائح لتحب نفسك وتمنحها حقها
ما الآثار النفسية الخطيرة للخضوع النفسي؟
1. استغلال الآخرين:
يتعرض الشخص الخاضع إلى الاستغلال من قبل الآخرين، بحيث ينتهزون ضعفه وعدم قدرته على قول "لا"، من أجل تغذية مصالحهم الشخصية. لا تُفهَم نيَّته الطيبة وأعماله الصالحة على أنَّها كرم وجود منه، بل يُسِيء الآخرون فَهْم أفعاله، ويشعرون أنَّه يقدمها من مكان ضعف وليس قوة، وكأنَّه يشتريهم لكي يتقبلوه ويجعلوه رفيقاً لهم.
2. البعد عن الرسالة:
يعتاد الشخص الخاضع على تجاهل رغباته الداخلية، وعلى كبتها وعدم الاعتراف بحقها في الظهور؛ الأمر الذي يُبعِده عن حقيقته وشغفه ورسالته. ففي كل مرة يقول فيها الشخص الخاضع "نعم" مع أنَّ داخله يقول "لا"؛ يعطي رسالةً إلى الكون مفادها أنَّ قيمته معدومة، والقيمة العليا إنَّما هي للطرف الآخر وطلباته فحسب. فعلى سبيل المثال: في حال كان الشخص الخاضع متعباً جداً، وطلب منه صديقه الذهاب إلى السوق، فإنَّه يجيب بـ "نعم" على الرغم من أنَّه لا يريد الذهاب إلى السوق. وعلى الرغم من أنَّه متعب جداً، فهو لا يستطيع الاعتذار إلى صديقه وقول كلمة "لا"، ولكنَّه يستطيع المخاطرة بصحته الشخصية وراحته وأولوياته.
3. التعاسة:
مَن يعتاد العيش وفق آراء الناس، يجد نفسه أسير نظرة وكلام الناس عنه، فلا يستطيع العيش بحرِّية وعفوية، وترافقه التعاسة في شتَّى نواحي الحياة؛ إذ كيف له أن يعطي قراراً بأيِّ ناحية من نواحي حياته إن لم يكن حراً طليقاً. سيسأل الآخرين عن رأيهم في كل فرصة قد تظهر في حياته، ويخشى تعليقاتهم في حال اتخاذه قراراً يحتوي على نسبة من المخاطرة.
4. التبرير الدائم وعدم المواجهة:
يميل الشخص الخاضع إلى تبرير تصرفات الآخرين أيَّاً كانت، حتى في حال تعدِّيهم على أولوياته، واختراقهم خصوصيته، وعدم اكتراثهم لمصالحه الشخصية. ودائماً ما يؤجل المواجهة إلى أجل غير مسمى، فلا يريد أن يخسر أي شخص من المحيطين به.
5. ضياع الحقوق والقيمة:
لا يدافع الشخص الخاضع عن حقوقه، بل لا يعترف بوجودها، ويكون شاهداً على زوالها من دون أن يقوم بأيِّ خطوة للحفاظ عليها. وفي كل لحظة يتنصَّل فيها من قول ما يعتمل في قلبه، فإنَّه يطعن في حقه بأن يكون حقيقياً وصادقاً، وهو بذلك يخون ذاته ويهمشها.
6. الأمراض:
يعاني الشخص الخاضع من أمراض جسدية كثيرة نتيجة الكبت الرهيب الذي يقوم به في حق مشاعره. ثم إنَّه يبقى في حالة دائمة من الطاقة السلبية والتوتر والعصبية مع عائلته نتيجة بُعدِه عن حقيقته.
ما علاج الخضوع النفسي؟
1. حب الذات:
ابدأ التفكير في ذاتك وأولوياتك، فالآخر لا يعيرك أيَّ انتباه. وعلى الرغم من كل تضحياتك إلا أنَّ الآخرين ينظرون إليك نظرة دونية ولا يقدِّرون معروفك معهم. ذاتك هي الشيء الوحيد الثابت معك على مدار العمر، فحافظ عليها، وصادقها، وكن رحيماً بها، فهي التي تستحق كل الحب والاحترام.
2. تعلَّم قول "لا":
تدرب على قول "لا" وتدرب على الموافقة ما بين داخلك وأقوالك. كن حقيقياً مع الآخرين، ولا تَخَف خسارتهم، فمن لا يحترم حقيقتك لا تحتاج إليه كصديق. على سبيل المثال: في حال طلب صديقٌ منك مساعدته في دراسة مادة معيَّنة، وأنت لا تملك الوقت نهائياً للمساعدة، لأنَّ لديك كثيراً من المسؤوليات الضاغطة. وفي حال أنَّك خصَّصت وقتاً لصديقك، فهذا يعني تنازلك عن أولوياتك وعن مشاريعك الهامة؛ لذا، هنا عليك قول "لا" لصديقك بأسلوب لطيف، وهنا عليك التفكير مدة 30 ثانية قبل إعطاء جوابك؛ إذ تمنحك هذه المدة مراجعة لذاتك، وتُوقِف العادة التي لديك بإعطاء كلمة "نعم" لكل طلب يُطرح عليك. فيمكنك أن تقول له مثلاً: "أمهلني خمس دقائق لكي أراجع جدول أعمالي، وأرى إمكانية تخصيص وقت لمساعدتك". وبذلك تكون قد خلقت استعداداً نفسياً لديه بإمكانية الرفض أو الموافقة، ومن ثم تتصل به وتقول له إنَّك قمت بمراجعة جدول أعمالك، وتأسف لعدم قدرتك على مساعدته.
3. التأمل:
تأمَّل حياتك وتجاربك، واسأل نفسك: "مَن يستحق كل اهتمامك وطاقتك؟ هل الأشخاص الذين تعطيهم يبادلوك السوية نفسها من الأعمال، أم أنَّهم يستغلون طيبتك لا أكثر؟". اكسر شبح تعلقك بالآخر، فقيمتك عالية ومُستمَدة من الله، ولا تحتاج إلى إثبات من الآخرين. أنت قوي بذاتك ومهاراتك وليس بمجاملات الآخرين وأفكارهم عنك. عِشْ كما أنت بحقيقتك التامة، وعبِّر عن كل ما يجول في داخلك. لن تستطيع أن تكون مُعطِياً بالشكل الصحيح، إلا إذا تعلمت إعطاء نفسك ابتداءً وحبها، ومن ثم إعطاء الآخرين. أعطِ الآخرين ولكن بما لا يتنافر مع أولوياتك وقيمك واهتمامك. أنتَ أولاً ثم الآخر، فما الفائدة أن تكسب الآخر وتخسر ذاتك.
4. القوة:
أيَّاً كانت الظروف التي تعرضت لها في صغرك والتي سببت لك عقدة الخضوع هذه؛ اعلم أنَّها لا تمثلك، وأنَّك منفصل عنها؛ فهي قد انتهت تماماً، وما تحمله الآن هو مجرد أفكارك عنها. وإن كنت شاهداً على ضرب وإهانة والدتك من قبل أبيك، فاعلم أنَّ هناك خللاً في الوعي من قبل والدك، وعدم تقدير للذات من قبل والدتك. فسِّر الأمور التفسير السليم، ولا تقع في فخ الماضي، واعلم أنَّك متحرر من ممارسات أبيك غير المسؤولة وغير الناضجة، وأنَّك الآن واعٍ وقادر على صنع حياتك بيديك.
الخلاصة:
حياتك انعكاس أفكارك، فإن كنت مُستغَلاً من قبل الآخرين، وغير قادر على قول "لا" فهذا يعني أنَّ أفكارك هي مَن تجذب هذه الحالات في حياتك. أعد ترتيب أفكارك واربط قيمتك مع الله، وتدرب على جعل ذاتك أولوية؛ عندها ستجذب لحياتك كل شخص قوي ومتزن وحكيم.
أضف تعليقاً