ملاحظة: هذا المقال مأخوذٌ عن المدوِّنة "كريستينا شويليز" (Christina Chwylis)، طالبة دكتوراه في الطب النفسي، في "جامعة فيلاديلفيا" (University in Philadelphia)، وتحدِّثُنا فيه عن تجربتها وما توصَّلت إليه الأبحاثُ فيما يتعلَّق بالتعاطف الذاتي.
منذ أن كنَّا صغاراً، تعلَّمنا كيف نكون أصدقاء للآخرين؛ ففي روضة الأطفال، تعلَّمنا المشاركة، والتعاون في اللعب. كان أي طفل يدعو طفلاً آخر بالغبيِّ، أو الفاشل، يُوَبَّخ بلطف، أو حتى يعاقَب قليلاً؛ لذا ترعرعنا ونحن نتعلَّم أن نتَّبِع القاعدة الذهبية القائلة: "عامل الناس، كما تحب أن يعاملوك"؛ ومع هذا، لم يعلِّمنا أحد كيفية تكوين صداقة مع أنفسنا.
في الواقع، ربما تعلَّمنا عكس ذلك؛ فبتنا نعتقد أنَّ كوننا لطفاء مع أنفسنا، هو إفساد للذات، أو كسل، أو ضعف. وبصفتي طبيبة نفسية في مرحلة التدريب، اكتشفت أنَّ جلد الذات أمر شائع للغاية؛ على سبيل المثال: غالباً ما يحكم الناس على أشكالهم، أو أدائهم في العمل، أو قدراتهم الأبوية، وَفقاً لمعايير لا يطبِّقونها على الآخرين. يُطلِق العديد من الأشخاص على أنفسهم أسماء لا يجرؤون على قولها للأصدقاء، أو لأفراد العائلة، أو حتى للذين لا يحبونهم.
شاهد: 6 نصائح لتعيش حياة مفعمة بالسعادة
ليس من المفاجِئ أن يحيط الجدل بالمفهوم النفسي لـ "التعاطف مع الذات"؛ فهو في جوهره أن تعامل نفسك باللطف والاهتمام نفسهما اللذين تعامل بهما أحد أفراد أسرتك. وكما يبدأ التعاطف بالتعرُّف إلى معاناة الآخر، يبدأ أيضاً من خلال إدراك أنَّك أنت نفسك تعاني. ووَفقاً للباحثة الرائدة في التعاطف مع الذات "كريستين نيف" (Kirstin Neff) في "جامعة تكساس" (University of Texas)، تتطلَّب استجابة التعاطف مع الذات ثلاثة مكوناتٍ أساسية:
- اللطف مع الذات: أن تقدِّم لنفسك الحنان، والتَّفهُّم، بدلاً من أن تحكم عليها.
- الإنسانية المشتركة: أن تتذكَّر أنَّ كلَّ إنسان يقع في الأخطاء ويتألَّم، بدلاً من الشعور بالعزلة في معاناتك.
- الوعي: أن تراقب أفكارك وعواطفك بطريقة متوازنة، دون أن تستنزفك تلك الأفكار والعواطف.
لقد رأيت أنَّ فكرة التعاطف مع الذات تثير ردود فعل، ما بين متقبِّل، ومتشكِّك، أو حتى خائف. وعند ذكر التعاطف مع الذات، يمكن أن تظهر مجموعة من الأفكار: "لا تناسبني فكرة التعاطف مع الذات'' أو "هل الناس متساهلون للغاية مع أنفسهم هذه الأيام؟'' أو "أحتاج إلى النقد الذاتي لتشجيع نفسي على تحقيق أهدافي" أو "إذا كنت متعاطفة مع ذاتي، ألن أُصاب بالكسل طوال اليوم؟" دون ما يأتي به النقد الذاتي من خيبة، سيكون من السهل على الناس أن يتحسَّنوا، ويتقدَّموا إلى الأمام.
لهذه المعتقدات نتائجها؛ بما فيها التأثير في كيفيَّة استجابة الناس لتحديات الحياة. على سبيل المثال؛ بحثنا في دراسة لي مع زميلَي "باتريشيا تشين" (Patricia Chen)، و"جميل زكي" (Jamil Zaki) في استراتيجيات التأقلم، التي يستعملها الناس عندما يكونون محبطين ومستائين من نتائج الانتخابات الرئاسية الأمريكية. كان أولئك الذين نظروا للتعاطف مع الذات من زاوية إيجابية أكثر احتمالاً لكي يلجؤوا إلى التعاطف مع الذات بطريقة تساعدهم على تخطِّي الأوقات الصعبة. على سبيل المثال؛ قالوا إنَّهم استخدموا طرائق فعالة للتعامل مع عواطفهم، مثل؛ طلب الدعم من الآخرين، واعتمدوا اعتماداً قليلاً على الاستراتيجيات غير المساعدة، مثل؛ المشتتات ولوم الذات.
لم يساعدهم ذلك على الشعور بشكل أفضل؛ بل أفاد المشاركون ممَّن جربوا التعاطف مع الذات، أنَّهم كانت لديهم نيَّة لتحسين أنفسهم وأوضاعهم، مثل؛ الالتزام بالمشاركة في الحياة السياسية أكثر.
يعكس عملنا ما تكشفه الأبحاث مراراً وتكراراً؛ وهو أنَّ التعاطف الذاتي استجابة صحية للمعاناة. فهو ليس ضرورياً لعافيتنا العامة؛ بل لمساعدتنا على التغلُّب على التحديات أيضاً. على سبيل المثال؛ وجدت أبحاث أخرى أنَّ التعاطف مع الذات يساعد الناس على أن يكونوا على قدر من المسؤولية الشخصية تجاه أفعالهم، وعلى مقاومة ما يتبع ذلك من عقبات، كأن تحصل على علامة امتحانية سيِّئة.
وعلى عكس الافتراض الذي يقول إنَّ التعاطف مع الذات ضرب من الأنانية، فهو يعيننا على أن نكون ألطف تجاه الآخرين. يفاجئك كيف أنَّ لصفة يسيرة كالتعاطف مع الذات، أن تساعدنا على أن نكون أفضل، وأكثر مرونة.
يحدث ما يثير الاهتمام عندما تكون رؤوفاً بذاتك؛ إذ يصبح من السهل الاعتراف بما ترتكبه من زلَّات بحقِّ نفسك. فكِّر في الأمر هكذا: هل ستفضِّل الاعتراف بخطأ مُحرِج ارتكبتَه أمام شخصٍ، تعلَم أنَّه يستجيب بتعاطف، أم أمام شخص تعلم أنَّه سينتقدك بقسوة؟
بهذه الطريقة، عندما تظهر الزلَّات، أو الأخطاء، فإنَّ الناس الرؤوفين بذواتهم سيتمكَّنون من الاعتراف أنَّ كلَّ ابن آدم خطَّاء؛ لذا في غياب الحِمل الثقيل لنقد الذات والإحراج، من السهل على الأشخاص المتعاطفين مع ذواتهم أن ينموا، ويتحسَّنوا، ويمضوا قدماً بشجاعة.
قدمت "نيف" في إحدى أحاديثها على منصة "تيد" (TED) في 2013 تشبيهاً، يساعد على فهم سبب أنَّ التعاطف مع الذات مفيد للغاية: تخيَّل طفلاً عاد من مدرسته إلى منزله مستاء؛ لأنَّه رسب في الرياضيات. يمكن لوالديه أن يستجيبا بتوبيخ لاذعٍ، أو بالتعبير عن خيبة الأمل، أو بالغضب. يمكن لهما أن يصرخا ويشكِّكا بذكاء الطفل. وبذلك يمكن للطفل أن يدرس باجتهادٍ أكثر لفترة قصيرة، ولكن مع مرور الوقت، يمكن له أن ييأسَ ويتخلَّى عن مادة الرياضيات؛ لأنَّ عواقب الفشل مرةً أخرى ستكون وخيمة.
ولكن بالمقابل فإنَّ الأبوين اللذين يستجيبان برأفة، يلاحظان شعور الطفل بالخيبة، ويذكِّرانه أنَّ الجميع يواجه الصعوبات بين حينٍ وآخر، ويساعدانه على اتِّخاذ وجهة نظرٍ متَّزنة. الاستجابة المتعاطفة لم تغض الطرف عن درجة الاختبار، ولم تحطِّم كبرياء الطفل؛ بل تضمَّنت إنشاء بيئة احتوائية وآمنة؛ حيث لا بأس للطفل أن يمرَّ بالأخطاء.
لنطرح تشبيهاً آخر؛ كلماتك لنفسك هي الوقود: يمكنك اختيار أن تملأَ خزَّان وقودك إمَّا بالنقد أو بالتعاطف. كلاهما سيجعلك تمضي قدماً، ولكنَّ نتائج التعاطف مع الذات، تستمر طويلاً، ودون أذى. عندما تكون لطيفاً مع نفسك، ستجد أنَّه من الأسهل أن تواجه صعوبات الحياة، سواء في الدراسة بعد تلقِّي درجة امتحانية سيئة، أم الاعتذار لشخص أخطأت في حقِّه، أم ممارسة التمرينات الرياضية بعد فترة من الخمول. الهامُّ أنَّ التعاطف مع الذات يمكِّننا من مواجهة تلك العقبات، دون أن يستنزفنا الشعور بعدم الكفاءة.
التعاطف مع الذات ليست سمة خدَّاعة، يمكن لبعض الناس أن يكتسبوها دون غيرهم؛ إذ إنَّ هناك طرائق معينة تمكِّن الجميع من تنمية ذلك التعاطف، سواء مع الآخرين أم تجاه أنفسنا. أنشأ الباحثون برامج، مثل: برنامج التعاطف مع الذات الواعي، والكتب، والموارد لمساعدة الناس على بناء قدر أكبر من التعاطف مع الذات.
شاهد أيضاً: 12 قاعدة يتّبعها الأشخاص الأكثر سعادة
يمكننا تدريب عناصر التعاطف مع الذات بطرائق مختلفة. على سبيل المثال؛ من خلال الكتابة (كتابة رسالة إلى نفسك من منظور صديق يُعنى بك دون قيد أو شرط)، أو الصور، أو التأملات. تُدرِّبنا هذه التمرينات على الاستجابة لألمنا، أو عدم الكفاءة تماماً كما كنَّا سنستجيب لآلام صديق؛ أي بالتشجيع والاهتمام.
يقتصر التعاطف مع الذات عن الإشارة إلى نفسك بطريقة بنَّاءة، وأكثر إنتاجية، وليس عن الرضى عن نفسك بشكل دائم. ومع هذا، إن كنت تجد - مثل معظم الناس - البدء بالتعاطف مع الذات أصعب ما في الأمر، أو يساورك الشك إن كان سيعود بأي نفع، فلن تكلِّف نفسك عناء المحاولة على الأقل. ومن ناحية تشجيعيَّة، وجدنا في الدراسة التي أجريناها أنَّ تغيير معتقدات المشاركين عن أهمية التعاطف مع الذات، ساعدهم على التأقلم مع الصعوبات بشكل أفضل.
عندما كنَّا نُخبِر المشاركين أنَّ التعاطف مع الذات قد ساعد الناس على تحسين دوافعهم، بدلاً من الإضرار بها، كانوا يصبحون أكثر عرضة للمشاركة في التدريب على التعاطف مع الذات خلال الصعوبات؛ وهذا بدوره قد ساعدهم على التأقلم بشكل أفضل، وعلى السعي نحو تطوير الذات. ومن ثمَّ، فإنَّ عملنا يؤكِّد أهميَّة أخذ الوقت الكافي لفهم وتصحيح افتراضاتك عن التعاطف مع الذات. يمكن أن يساعدك القيام بذلك على الاستجابة استجابة أكثر فاعلية للعقبات التي لا بدَّ أن تعترض طريقك.
أولاً؛ انتبه لما لديك من معتقدات عن التعاطف مع الذات. اسأل نفسك: ما الذي أخبرك به الآخرون، قولاً أو فعلاً، عن التعاطف مع الذات؟ هل استخدم والداك التعاطف في حياتك؟ وإن فعلوا، فهل طبقوا تعاطفهم مع أنفسهم؟ وما الذي تعتقد أنَّه سيتغير فيما لو كنت متعاطفاً مع نفسك؟ وما الذي تعتقد أنَّه سيحدث إذا توقفت عن جلد الذات؟
الخطوة التالية؛ هي أن تلاحظ كيف تتحدَّث مع نفسك. إذا كان حالك مثل معظم الناس، فإنَّ عقلك مليء ببثٍّ مستمرٍّ من الثرثرة، فكما هو الحال عندما تنهي تناول الفشار بلا تفكير في أثناء مشاهدتك لفيلم دون أن تلاحظ نكهته، فقد لا تتوقف عن التفكير في حوارك الذاتي. هل هو أكثر سلبية؟ وهل تلزم نفسك بمعايير مستحيلة؟ ستقضي بقيَّة حياتك بصحبة هذا الصوت؛ لذا خُذ الوقت الكافي للتعرف إليه، وفكِّر في إجراء تعديلات واعية إذا لزم الأمر.
أخيراً، تحقَّق من افتراضاتك عن التعاطف مع الذات. تذكَّر أنَّ الباحثين يؤكدون مراراً وتكراراً أنَّ التعاطف مع الذات لا يساعدنا على الشعور بالتحسُّن؛ بل يحمل نتائج عملية، وإيجابية أيضاً. التعاطف مع الذات؛ هو أداة تحفيزية قوية، يمكن أن تساعدك على المثابرة، حتى في مواجهة التحديات.
في البداية، يبدو التعاطف مع الذات غير مألوف، أو مخيفاً، أو صعباً. كن صبوراً مع نفسك، وتذكَّر أنَّ التعاطف مع الذات يتعلق بالتواصل مع نفسك بطريقة بنَّاءة وعناية أكثر، وقد يستغرق تطويره وقتاً. لا يتعلَّق الأمر بالرضى عن نفسك طوال الوقت. تماماً مثل بدء نظام تمرين بدني جديد. إنَّ رحلة التواصل مع نفسك بتعاطفٍ يمكن أن تكون صعبة؛ بل ومؤلمة في البداية.
يُعَدُّ التعاطف مع الذات بالنسبة إلى الكثير من الناس نهجاً مختلفاً كلياً عمَّا اعتادوا عليه؛ إذ يعني أن تتعاطف مع نفسك تعاطفاً غير مشروط، بغضِّ النظرِ عمَّا تمرُّ به من ظروف، وما حقَّقتَه من إنجازات. وهذا يتعارض مع ثقافتنا التي غالباً ما تكافئنا على الإنجازات. بينما يهمس "الأنا" الذي في داخلنا كناقوس الخطر: "أنجز أكثر، واعمل أفضل، وستستحقُّ الأمر".
التعاطف مع الذات هو صديق يُعتمَد عليه، ونستحقه جميعاً؛ إذ يقول: "أنا أُؤمن بك، وموجود لأجلك مهما حصل".
عندما أتذكَّر زميلتي في الثانوية، وهي توبِّخ نفسها أمام مرآة الحمام، أتمنى لو كانت تعلم أنَّها لم تكن مضطرة أن تتنمَّر على ذاتها. فلو كانت تؤمن بقوَّة التعاطف مع الذات، لكنت سمعت بدلاً من ذلك حديثاً حماسياً متعاطفاً مع الذات، على غرار: "من المؤلم الحصول على نتيجة اختبار سيئة، لكنَّه لا ينمُّ عن أنَّني سيِّئة، أعلم أنَّ الأشخاص الآخرين في الفصل يعانون أيضاً، وأنَّني لست وحدي أُعاني. سأطلب المساعدة في الدراسة بفاعلية أكبر، وسأحصل على الدعم الذي أحتاجه وأستحقه".
من خلال عملي في العيادة وأبحاثي، وجدت أنَّ التعاطف مع الذات هو دافع يعطي المرونة. ولو كان بإمكان زميلتي أن تكون صديقةً لنفسها، أراهن أنَّها كانت ستجد وضعها في المدرسة يتحسَّن، وستصبح حياتها على الطريق أكثر إثارة للاهتمام.
هذا ينطبق علينا جميعاً؛ وفي حين أنَّ الرحلة - نحو تنمية قدر أكبر من التعاطف مع الذات - تبدو شاقَّة، إلا أنَّها جديرة بالاهتمام؛ فمع وجودك بجانب نفسك، ستكون شخصاً لا يُهزم.
أضف تعليقاً