يعدُّ العطاء من أعظم الممارسات الإنسانيَّة، وفيه من المثوبة ما يعوِّض على الإنسان مجابهة نفسه وإجبارها على الإنفاق ممَّا تحب، فينال بذلك رضى الله، ويكسب أجر طاعته، ويهذِّب ذاته ويعوِّدها على الصدقات، وفي الدعاء الذي يلقاه المرء ممن تصدَّق له في حضوره أو في غيابه ما يفتح أبواب السماوات على مصاريعها ويحثه على مزيدٍ من البذل، أما على صعيد المستفيد من العطاء، فلنا أن نتخيَّل مشهد الهموم المتساقطة عن كاهله بفضل إحسان الآخرين، وشعوره بالامتنان والمحبة تجاه إخوانه من أفراد المجتمع، فلمَ يجب علينا التركيز على العطاء والخير في شهر رمضان؟
أهمية العطاء والخير في شهر رمضان:
إنَّ العطاء وفعل الخير أمران محبذان ومحبوبان في كل الأشهر والأيام، لكن لهما في شهر رمضان المبارك وقعٌ وبعد آخر أكثر روحانية وسلاماً، وتعود فوائدهما على كلٍّ من المعطي والآخذ على حدٍّ سواء.
يجب التنويه على أنَّ مَن يقوم بفعل العطاء والبذل هو إنسان يمتلك نفساً سامية يترفع بها عن كل دناءة، وهو مؤمن طائع يستغل فترة شهر رمضان ليعزز من سمو نفسه، ويزيد من ترفعها على الملذات الدنيوية الفانية، طامحاً لنيل جنة النعيم التي وعد الله المتقين بها.
في العطاء تلبية لاحتياجات الآخرين وقضاء لحوائجهم، ولون من ألوان الامتنان والشكر للمولى الذي منَّ عليه بما أعطاه وأكرمه بفضل الصدقة، فهو الكريم المعطي في عليائه.
التركيز على العطاء والخير خلال شهر رمضان هو تجسيد لتعاليم الشهر الذي يدعى شهر المواساة، ففيه يواسي المؤمنون إخوانهم، فيعفونهم من أموال كانوا قد أقرضوهم إياها أو يمنحونهم أموالاً ليسوا متطلبين لها، وفي هذا اقتداء بأخلاق النبي الأكرم، فهو الذي كان يحث أمته على اغتنام فضل شهر رمضان بالعطاء، وهو القائل فيه: "من تطوَّع فيه بخصلة من الخير كان كمن أدى فريضةً فيما سواه، ومن أدى فيه فريضة كان كمن أدى سبعين فريضة، وهو شهر الصبر، والصبر ثوابه الجنة، وهو شهر المواساة، وهو شهر يزاد فيه رزق المؤمن، من فطَّر فيه صائماً كان له عتق رقبة، ومغفرة لذنوبه".
قال بعض المؤمنين للرسول الكريم إنَّهم في بعض الأحيان لا يجدون ما يفطِّرون به الصائم، فقال: "يعطي الله هذا الثواب مَن فطَّر صائماً على مذقة لبن، أو تمر، أو شربة ماء، ومن أشبع صائماً كان له مغفرة لذنوبه، وسقاه الله من حوضي شربة لا يظمأ بعدها أبداً حتى يدخل الجنة، وكان له مثل أجره من غير أن ينقص من أجره شيئاً". (أخرجه ابن حبان وابن خزيمة من حديث سلمان رضي الله تعالى عنه).
في الأحاديث النبوية السابقة نجد أنَّ رسولنا الأكرم لم يترك لأحد المجال بأن يمتنع عن العطاء بسبب حرجه لكون العطاء قليلاً، ويؤكد على ضرورة البذل حسب المقدرة ولو كان تمرة واحدة أو شربة ماء، لتتعزز لدى الصائم خصال الجود والكرم التي تفضي إلى نيل عطاء الله سبحانه وتعالى، فالثواب من جنس العمل، ومن يبذل جوداً وعطاءً ينال جود الله وعطاءه.
في شهر رمضان الكريم يُكثِر الصائمون من تلاوة القرآن، فيطلعون على عدد المرات الكثير الذي امتدح الله تعالى به المتصدق والمعطي، ويزداد يقينهم بكون الحياة الدنيا دار فناء، وأنَّ الحياة الآخرة دار البقاء، فيهرعون إلى استثمار دنياهم في كل ما يسبب لهم النجاة والفلاح في الآخرة، فيتصدقون مما وهبهم الله، ويعطون من مالهم وجهدهم، ويتسامحون مع الآخرين، ويغيثون الملهوف، وينصرون الضعيف، ويساعدون العاجز، ويطعمون اليتيم، وهذه جميعها صور من التركيز على العطاء والخير في شهر رمضان.
شاهد بالفيديو: 7 من أهم أعمال الخير في رمضان
أوجه العطاء والخير في شهر رمضان:
ليس العطاء والبر وفعل الخير أشياء محصورة بإخراج المال وتقديمه للمحتاجين والفقراء، بل إنَّ التركيز على العطاء والخير في شهر رمضان له أشكال عديدة، ومن أبرز وجوه العطاء والخير في شهر رمضان نذكر:
1. صلة الرحم والإحسان للجار:
إنَّ صلة الرحم والإحسان للجار وجه من وجوه العطاء والخير في شهر رمضان، فلقد أمرنا الله تعالى بوصل الرحم والتعامل مع الجيران بحب ورحمة في جميع الأوقات، وذلك في قوله: (وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَبِذِي الْقُرْبَىٰ وَالْيَتَامَىٰ وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَىٰ وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ) [سورة النساء، 36]، وفي شهر رمضان بشكل خاص تأخذ هذه الطاعات أجراً مضاعفاً، فيسامح الجيران المتخاصمون بعضهم، ويزور الأقرباء بعضهم بعد القطيعة طمعاً في مرضاة الله.
إنَّ الإحسان ومد يد العون للجار المحتاج أو للقريب الذي يشكو القلة والعوز أمر له ثواب كبير، فالحديث الشريف يذكر أنَّ "الصدقة على المسكين صدقة، وهي على ذي الرحم اثنتان: صدقة وصلة"؛ لذا لا بد من العطاء في شهر رمضان؛ لأنَّ ثوابه كبير، ولأنَّ فعل الصدقة سبب في إزالة غشاوة الكره عن القلوب وإخماد نار البغض فيها.
2. إعطاء المساكين والمحتاجين:
إنَّ تقديم الصدقة للمساكين والمحتاجين هو أكثر وجوه العطاء والخير في شهر رمضان شيوعاً، وفيه امتثال لأوامر الله سبحانه وتعالى التي ذكرها صراحة بشكل لا يقبل التأويل في قوله: (وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَىٰ حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً) [سورة الإنسان، 8]، وفي آيات كثيرة أخرى.
إنَّ في إعطاء الصدقة لهذه الفئات المستضعفة في شهر رمضان جمعٌ بين فضلين؛ فضل الصيام وفضل العطاء والصدقة، ولقد أكد على ذلك نبيُّنا الأكرم في الحديث الشريف الذي رواه عليٌّ رضي الله عنه: "إنَّ في الجنة غرفاً تُرى ظهورها من بطونها، وبطونها من ظهورها"، فقيل له: لمن هي يا رسول الله؟ قال: "لمن طيَّب الكلام، وأطعم الطعام، وأدام الصيام، وصلى لله بالليل والناس نيام"، كما أنَّ ابن رجب قال: "إنَّ الجمع بين الصيام والصدقة من موجبات الجنة".
3. إفطار الصائمين في شهر رمضان:
إنَّ إفطار الصائمين وجه آخر من وجوه العطاء والخير في شهر رمضان، وإنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم أكد على فضل هذا الفعل بقوله: "من فطَّر صائماً كان له مثل أجره غير أنَّه لا ينقص من أجر الصائم شيئاً"، وينال الفاعل أجراً حميداً فعله سواء قام بإفطار صائم غني أم فقير، فهو قد تذكَّر إخوانه الصائمين وساهم في توفير وجبة إفطار لهم، وبذل جهده في تحقيق ذلك.
لشدة فضل هذا الفعل وعظيم ثوابه، كان الصالحون من الأسلاف يتصدقون بفطورهم للآخرين ويؤثرون على أنفسهم، وأمثلة ذلك كثيرة ومنها السائل الذي جاء إلى الإمام أحمد فدفع إليه الرغيفين اللذين كان يعدهما لإفطاره ثم طوى وأصبح صائماً، وابن المبارك الذي كان يطعم إخوانه في السفر ألوان الحلواء وهو صائم، والحسن البصري الذي كان يطعم إخوانه ويصوم تطوُّعاً، ويجلس وهم يأكلون يروحهم.
4. إكرام الأرامل واليتامى من المسلمين في شهر رمضان:
هذا وجه آخر من وجوه العطاء والخير في شهر رمضان، وفيه ينصب تركيز المسلمين على إخوانهم المعوزين الذين لا معيل لهم، كالأرامل واليتامى الذين لا يملكون مَن يوفر لهم الطعام والشراب والكسوة، فيبادرون إلى جهاد أنفسهم وابتغاء مرضاة الله تعالى ونيل هذا الأجر العظيم الذي ساواه الله سبحانه بأجر القيام في الليل وصيام النهار والجهاد في سبيله؛ وذلك وفق الحديث الشريف عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "الساعي على الأرملة والمسكين كالمجاهد في سبيل الله أو القائم الليل والصائم النهار".
5. انتهاج طريق الستر:
من أجل اكتمال فضل العطاء والخير في شهر رمضان لا بد للمعطي المتصدق أن يحرص على السرية في صدقته؛ وذلك حفظاً لماء وجه الآخرين وكرامتهم، وتجنيبهم الشعور بالدونية والنقص، كما يجب على المتصدق أن يتجنب المنة والإهانة فهي تبطل الصدقة، فيقول سبحانه: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُم بِالْمَنِّ وَالْأَذَى) [سورة البقرة، 264].
من المحبب التواضع للسائلين وفتح الباب لهم، واختيار الأساليب والكلمات غير المحرجة عند عطائهم، وعلى المسلم أن يعرف أنَّ الله تعالى قد دفع له هؤلاء السائلين ليرفعه ويكرمه بهم وبفضل عطائهم؛ لأنَّ في العطاء بركة عظيمة وضَّحها الله بقوله: (مَّثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ مِّائَةُ حَبَّةٍ ۗ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَن يَشَاءُ ۗ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ) [سورة البقرة، 261].
إنَّ فضل الصدقة لا يضيع بل يعود على صاحبه أضعافاً كما في الآية الكريمة: (وَمَا أَنفَقْتُم مِّن شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ ۖ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ) [سورة سبأ، 39]، وكما في الحديث الشريف عن النبي صلى الله عليه وسلم: "ما نقصت صدقة من مال".
في الختام:
إنَّ التركيز على العطاء والخير في شهر رمضان المبارك من شأنه أن يعود بالمنفعة على كل من المتصدق والمحتاج، فالمتصدق ينال ضعف ثواب جهاد نفسه وبركة في ماله وسعة في رزقه ورضى الله سبحانه وتعالى، والمحتاج ينال محبة تسكن في قلبه ورزقاً من حيث لا يحتسب، وإنَّ العطاء في شهر رمضان هو شكل من أشكال التكافل الاجتماعي الذي ينعكس على المجتمع بكثير من الألفة والتعاضد والتماسك.
أضف تعليقاً