منهجية كينيفن: أفضل منهجية يجب على القادة اعتمادها في اتخاذ القرارات

قد يتفاجأ العديد من المديرين التنفيذيين عندما تفشل منهجيات القيادة - التي نجحت سابقاً - عند تطبيقها في المواقف الجديدة؛ إذ لا يدركون أنَّ الظروف المتباينة تتطلب أنواعاً مختلفة من الاستجابات؛ لذا ينبغي أن يتعرَّف القادة إلى نوعية الظرف الذي يواجهونه قبل التعامل مع الموقف، وأن يعدِّلوا تصرفاتهم وفقاً لذلك.



ومن أجل هذا صاغ كلٌّ من "ديفيد ج. سنودن" (David J. Snowden) - مُؤسِّس شبكة "كوجنيتيف إيدج" (Cognitive Edge) والمسؤول العلمي الأول فيها - و"ماري ي. بون" (Mary E. Boone) رئيسة شركة "بون أسوشييتس" (Boone Associates) نظرية جديدة للقيادة واتِّخاذ القرار تعتمد على نظرية التعقيد، وكانت النتيجة هي منهجية "كينيفن" (Cynefin)، التي تساعد المديرين التنفيذيين على تصنيف المشكلات في سياقات خمس:

تصنيف المشكلات

  1. السياق الواضح (السهل): الذي يتَّسم بالاستقرار ووضوح العلاقة بين السبب والنتيجة؛ وهذا يجعل الاستجابة الصحيحة بديهية على الأغلب. يتعيَّن على القادة في هذا السياق إجراء تقييم حقائق الموقف أولاً أو استشعارها، ثمَّ تصنيفها والتعامل معها، كما يُعرَف هذا السياق باسم المجال "المعروف"؛ نظراً لوضوحه.
  2. السياق المعقَّد: الذي قد يحتوي على استجابات صحيحة متعددة، وفي هذا السياق لا يمكن لجميع القادة رؤية العلاقة الواضحة بين السبب والنتيجة على الرغم من وجودها؛ وهذا يجعل الناس يُطلقون عليه اسم "المجهول المعروف"، وهنا يجب على القادة القيام بتقييم الموقف وتحليله والاستجابة وفقاً لذلك.
  3. السياق المركَّب: في هذا السياق، لا يمكن اكتشاف الاستجابات الصحيحة على الإطلاق، ولكن تَظهر أنماط إرشادية إذا أجرى القائد تجارب قد تفشل دون حدوث أضرار مؤثِّرة، وهذا هو مجال "المجهول"، الذي تعمل ضمنه معظم الشركات الحديثة. وفي هذا السياق ينبغي على القادة تقصِّي الحقائق أولاً، ثمَّ إجراء التقييم، ثمَّ الاستجابة.
  4. السياق الفوضوي: يُعَدُّ البحث عن الاستجابات الصحيحة هنا أمراً لا طائل منه؛ وذلك لأنَّه من المستحيل تحديد العلاقة بين السبب والنتيجة؛ نظراً لتغيُّرها المستمر وعدم وجود أنماط قابلة للتحكُّم، ويُعرَف هذا السياق باسم مجال "المجهولات"، وفيه يجب على القائد أولاً أن يعمل على إيجاد نوع من النظام، واستشعار الأماكن التي تشهد استقراراً، ثمَّ العمل على تحويل الوضع من حالة الفوضى إلى التعقيد.
  5. سياق الارتباك: ينطبق هذا السياق عندما يُفتقَد الوضوح ولا يُعرَف أي من السياقات الأربعة الأخرى هو السائد، ويتمثَّل المخرج هنا في تقسيم الموقف إلى عناصره الأساسية، وإسناد كل منها إلى واحد من السياقات الأربعة الأخرى، وبعد ذلك، يمكن للقادة اتِّخاذ القرارات وإدارة السياقات المناسبة؛ ويُعرَف باسم مجال "عدم الاستقرار".

في كانون الثاني/ يناير 1993، قتل شخص مسلَّح سبعة أشخاص في مطعم للوجبات السريعة في منطقة "بلاتين" (Palatine) التي تُعَدُّ إحدى الضواحي في ولاية "شيكاغو" (Chicago)؛ وهذا جعل "والتر جاسور" (Walter Gasior) - الذي كان يعمل مديراً تنفيذياً إدارياً ومتحدِّثاً باسم قسم الشرطة - مضطراً إلى التعامل مع مواقف عدة مختلفة في آنٍ واحد؛ مثل التعامل مع عائلات الضحايا، والمجتمع المذعور، وتوجيه عمليات قسم شرطة، وتلقِّي أسئلة من وسائل الإعلام التي أغرقت المدينة بالمراسلين والمصوِّرين.

وقد قال "جاسور" وهو يتذكَّر هذه الحادثة: "كان هناك أربعة أشخاص يأتون إليَّ ليسألوا عن حلول لمشكلات لوجستية وإعلامية في آنٍ واحد، وفي خضم كل هذا، كان ثمَّة إدارة يجب أن تستمر في العمل كالمعتاد".

على الرغم من نجاح "جاسور" في نهاية المطاف في التوفيق بين مطالب متعددة، لم يحقِّق القادة جميعهم النتائج المنشودة عندما واجهوا مواقف تتطلَّب مجموعة متنوعة من القرارات والاستجابات؛ إذ يعتمد المديرون أحياناً على منهجيات قيادية معروفة، التي قد تنجح في إحدى الظروف؛ لكنَّها تفشل في ظروف أخرى. فلماذا تفشل هذه الأساليب إذاً حتى عندما يشير المنطق إلى أنَّه يجب أن يُعمَل بها؟

تكمن الإجابة في الافتراض الأساسي للنظرية التنظيمية وتطبيقها؛ إذ يوجد مستوىً معيَّن من القدرة على التنبؤ والنظام في العالم، ويشجِّع هذا الافتراض القائم على العلم الذي أرساه "نيوتن"، الذي تستند إليه الإدارة العلمية، على التسهيل الذي يكون مفيداً في الظروف المنظَّمة؛ ومع ذلك تتغير الظروف، وكلما ازدادت تعقيداً، زادت احتمالية فشل التسهيل، ومن ثمَّ يصبح من الواضح أنَّ القيادة التقليدية عمليَّة لا تلائم للجميع.

وبناءً على هذا، يُعتقد بأنَّ الوقت قد حان لتوسيع النهج التقليدي للقيادة واتِّخاذ القرار، وتشكيل منظور جديد قائم على نظرية التعقيد، فعلى مدار السنوات العشر الماضية، طُبِّقت مبادئ هذا العلم على الحكومات ومجموعة واسعة من المجالات، كما طُوِّرت منهجية "كينيفن" (Cynefin) من خلال العمل مع مساهمين آخرين، التي تتيح للمديرين التنفيذيين رؤية الأمور من وجهات نظر جديدة، واستيعاب المفاهيم المعقَّدة، ومعالجة مشكلات العالم الحقيقي وإتاحة المزيد من الفرص.

تُشير الكلمة الويلزية (Cynefin)، التي تُلفَظ باللغة الويلزية القديمة (كا-نيف-ين)، إلى العوامل المتعددة في بيئتنا، وتجاربنا التي تؤثر فينا بطرائق لا يمكننا فهمها أبداً. ويتعلَّم القادة - باستعمال هذه المنهجية - تحديد إطار العمل بالنظر إلى أمثلة من تاريخ المنظمة وأيضاً إلى السيناريوهات المستقبلية المحتمَلة؛ وهذا يعزِّز التواصل ويساعد المديرين التنفيذيين على فَهْم السياق الذي يعملون فيه بسرعة.

إقرأ أيضاً: الأسئلة الجوهرية حول المشكلات للقادة

فَهْم نظرية التعقيد:

تُعَدُّ نظرية التعقيد طريقة للتفكير في العالم أكثر من كونها طريقة جديدة للتعامل مع النماذج الرياضية. لقد أحدثَ "فريدريك وينسلو تايلور" (Frederick Winslow Taylor)، الذي يُعرَف باسم "أبو الإدارة العلمية" (The father of scientific management) ثورة في القيادة منذ أكثر من قرن من الزمان، واليوم تعمل التطورات في علم التعقيد جنباً إلى جنب مع المعرفة الكامنة في العلوم الإدراكية على تغيير المجال مرة أخرى.

كما توشك نظرية التعقيد على مساعدة القادة الحاليين والمستقبليين على فَهْم التكنولوجيا المتقدِّمة، والعولمة، والأسواق المعقَّدة، والتغيير الثقافي، وغير ذلك الكثير؛ باختصار، يمكن لنظرية التعقيد أن تساعدنا جميعاً على التعامل مع التحديات والفرص التي نواجهها في حقبة جديدة من تاريخ البشرية.

يتَّسم النظام المعقَّد بالخصائص التالية:

  • يتضمَّن أعداداً كبيرة من العناصر المتفاعلة.
  • ينصُّ على أنَّ التفاعلات غير خطية، وقد تؤدي التغييرات الطفيفة إلى نتائج كبيرة للغاية.
  • يتَّبع النظام الديناميكي، الذي ينص على أنَّ الكل أكبر من مجموع أجزائه، وأنَّ الحلول لا تُفرَض فرضاً؛ بل تنشأ من تلقاء نفسها نتيجة الظروف القائمة، وكثيراً ما يُشار إلى هذا بالنشوء.
  • ينصُّ على أنَّ النظام له تاريخ، والماضي يندمج مع الحاضر، فتتطوَّر العناصر مع بعضها بعضاً ومع البيئة، والتطوُّر لا رجعة فيه.
  • قد يبدو النظام المعقَّد - في بعض جوانبه - مرتباً ويمكن التنبؤ به، ولكن يمنع الإدراك المتأخر القادة من التحلِّي بالاستبصار (بُعد النظر)؛ نظراً لتغيُّر الظروف والأنظمة الخارجية باستمرار.
  • بخلاف الأنظمة المنظَّمة (إذ يقيِّد النظام العوامل)، أو الأنظمة الفوضوية (إذ لا توجد قيود)؛ في النظام المعقَّد، يقيِّد النظام والعوامل بعضهما بعضاً، خاصةً مع مرور الوقت؛ وهذا يعني أنَّه لا يمكننا التنبؤ بما سيحدث.

إحدى النظريات المبكرة للتعقيد هي أنَّ الظواهر المعقَّدة تنشأ من قواعد سهلة، مثل قواعد سلوك أسراب الطيور: التحليق إلى مركز السرب، وتوحيد السرعة، وتجنُّب الاصطدام.

ولقد طُبِّقت نظرية القاعدة السهلة هذه على النمذجة الصناعية والإنتاج في وقتٍ سابق أملاً في إحداث فارق في الأمور، ولكنَّها لم تحقِّق نجاحاً منفرداً؛ إذ زعم بعض المفكرين والممارسين في الآونة الأخيرة أنَّ الأنظمة البشرية المعقَّدة تختلف تماماً عن تلك الموجودة في الطبيعة، وأنَّه لا يمكن اتِّباعها بالطرائق نفسها؛ نظراً لعدم قدرة الإنسان على التنبؤ، وقد ذكروا بعض الطرائق التي تجعل النظام البشري مختلفاً عن أنظمة الحيوانات الأخرى، ومنها ما يأتي:

  • يمتلك البشر هويَّات متعددة يستطيعون التبديل بينها بسلاسة دون تفكير واعٍ؛ على سبيل المثال: قد يكون الشخص عضواً محترماً في المجتمع، وقاتلاً متسلسلاً في الوقت نفسه.
  • يتَّخذ البشر القرارات بناءً على تجارب النجاح والفشل السابقة، بدلاً من القواعد المنطقية القابلة للتحديد.
  • يمكنهم - في ظروف معينة - تغيير الأنظمة التي يعملون فيها بغية تحقيق التوازن من أجل التوصُّل إلى نتائج يمكن التنبؤ بها، على سبيل المثال: استراتيجية الحيود السداسي (معايير الستة سيجما).

يتعيَّن على القادة الذين يرغبون في تطبيق مبادئ نظرية التعقيد في مؤسساتهم التفكير والتصرف تصرُّفاً مختلفاً عمَّا كانوا عليه في الماضي؛ وذلك لأنَّه أمرٌ ضروريٌ لفَهْم السياقات المعقَّدة، حتى لو لم يكن سهلاً.

لقد طبَّقت وكالة مشاريع البحوث المتطوِّرة الدفاعية الأمريكية (DARPA) منهجية لمكافحة الإرهاب؛ ومع مرور الوقت، تطوَّرت هذه المنهجية من خلال مئات التطبيقات، بدءاً من مساعدة شركات الأدوية في تطوير استراتيجية جديدة للمنتجات، ووصولاً إلى مساعدة حكومة مقاطعة كندية في جهودها الرامية إلى إشراك الموظفين في وضع السياسات.

بالإضافة إلى ذلك، تُقسِّم هذه المنهجية المشكلات التي تواجه القادة إلى خمسة سياقات تحدِّدها طبيعة العلاقة بين السبب والتأثير، وتتمثَّل هذه السياقات في خمسة أنواع: السياق الواضح (السهل)، والسياق المعقَّد، والسياق المركَّب، والسياق الفوضوي.

تتطلَّب هذه السياقات الأربعة من القادة تشخيص المواقف والتصرف بطرائق تتوافق والسياق، أمَّا السياق الخامس، فهو سياق الارتباك (عدم الاستقرار)، وينطبق هذا السياق عندما يُفتقَد الوضوح حول أي من السياقات الأربعة الأخرى هو السائد.

قد يفيد استعمال منهجية "كينيفن" (Cynefin) المديرين التنفيذيين في تعرُّف الوضع القائم حتى يتمكَّنوا من اتِّخاذ قرارات أفضل، وتجنُّب المشكلات التي تنشأ عندما يتسبَّب أسلوبهم المفضَّل في الإدارة في ارتكاب الأخطاء.

في هذه المقالة، نركز على السياقات الأربعة الأولى، ونقدِّم أمثلة واقتراحات حول كيفية القيادة واتِّخاذ القرارات المناسبة، ونظراً لانتشار "السياق المركَّب" في عالم الأعمال والحاجة فيه إلى استجابات مختلفة وحدسية؛ سنركِّز تركيزاً خاصَّاً عليه، وفضلاً عن ذلك سيجد القادة الذين يؤمنون بأنَّ العالم يكون غالباً غير منطقي ولا يمكن التنبؤ به منهجية "كينيفن" (Cynefin) مفيدة للغاية:

1. السياقات الواضحة (مجال أفضل الممارسات):

تتميز السياقات الواضحة بالاستقرار ووضوح العلاقات بين السبب والنتيجة؛ وهذا يمكِّن الجميع من تمييزها بسهولة؛ إذ تكون الاستجابة الصحيحة بديهية ولا جدال فيها. وفي هذا المجال "المعروف"، لا مجال للجدال في اتِّخاذ القرارات؛ إذ يَسهُل التفاهم بين جميع الأطراف، وتنتمي عادةً المجالات التي لا تخضع للتغيير إلى هذا السياق، مثل مشكلات تجهيز الطلبات وإنجازها.

تتطلب السياقات الواضحة - التي يُجرَى تقييمها تقييماً صحيحاً - إدارة ومتابعة مباشرة، وهنا ينبغي على القادة القيام بالتقييم، والتصنيف، ثمَّ الاستجابة؛ أي بعبارة أخرى، ينبغي أن يقيِّم القادة حقائق الموقف ويصنِّفوها، ثمَّ يبنون استجابتهم على الممارسات المتَّبعة.

وتكون المواقف شديدة التوجه نحو العمليات - مثل تجهيز مدفوعات القروض - سياقات واضحة على الأغلب، ومن ثمَّ يَسهُل على الموظف تحديد المشكلة إذا حدث خطأ ما (كأن يدفع المقترِض أقل مما هو مطلوب)، وتصنيفها (مثل مراجعة مستندات القرض لمعرفة كيفية تجهيز الدفعات الجزئية)، ومن ثمَّ تقديم الاستجابة المناسبة (إمَّا عدم قبول الدفع أو استعمال الأموال وفقاً لشروط الوثيقة).

يسير أسلوب التحكُّم والسيطرة سيراً أفضل في هذا المجال؛ نظراً لأحقيَّة كلٍّ من المديرين والموظفين في الوصول إلى المعلومات اللازمة للتعامل مع الموقف، فضلاً عن كون التوجيهات واضحة ومباشرة، وسهولة تفويض القرارات، وأتمتة الوظائف (Automation)؛ وهذا يجعل الالتزام بأفضل الممارسات أو إعادة هيكلة الأعمال أمراً منطقياً، كما لا يكون التواصل الشامل بين المديرين والموظفين مطلوباً عادةً؛ وذلك لأنَّ الخلاف حول ما يجب القيام به نادر الحدوث.

ومع ذلك قد تنشأ المشكلات في السياقات الواضحة نظراً لأسباب عدَّة:

  1. تصنيف المشكلات تصنيفاً خاطئاً نظراً للمبالغة في تسهيلها؛ إذ يواجه القادة الذين يطلبون معلومات مكثفة باستمرار - بغض النظر عن مدى تعقيد الموقف - هذا الخطر بصفة خاصَّة.
  2. تمسُّك القادة بالتفكير التقليدي (المبني على قناعات مسبَقة)؛ إذ تحدُثُ استجابة مشروطة؛ وذلك عندما يتجنب القادة أساليب تفكير جديدة معتمدين على وجهات نظر سابقة اكتسبوها من خلال تجارب سابقة حققت نجاحات؛ ومن ثمَّ ساد اعتقادٌ بسلامتها ودقتها ونجاحها.
  3. شعور القادة بالرضى عن النفس عندما يبدو أنَّ الأمور تسير بسلاسة؛ وهذا يجعلهم لا ينتبهون إذا حدث تغيير السياق في هذه المرحلة، ومن ثمَّ يتصرَّفون بعد فوات الأوان.

وفي عرض منهجية "كينيفن" (Cynefin)، يقع السياق الواضح بجوار السياق الفوضوي؛ إذ تحدث أكثر الانهيارات شيوعاً في السياق الفوضوي بعد زيادة الشعور بالرضى عن الذات الذي أدَّى إليه النجاح؛ وهذا قد يؤدي إلى فشل ذريع، ويمكننا رؤية ذلك بوضوح في العديد من التقنيات التي كانت سائدة سابقاً وتلاشت فجأة بسبب البدائل الأكثر ديناميكية.

إقرأ أيضاً: 6 أمور تخلصك من العقلية التقليدية وتجعلك قائداً عظيماً

منهجية "كينيفن" (Cynefin):

تساعد منهجية "كينيفن" (Cynefin) القادة على تحديد السياق القائم حتى يتمكَّنوا من اتِّخاذ القرارات المناسبة؛ إذ يتطلَّب كل سياق إجراءات مختلفة، فالسياقات الواضحة والمعقَّدة - على سبيل المثال - تكون منظَّمة؛ نظراً لوضوح العلاقات بين السبب والنتيجة، ومن ثمَّ يمكن تحديد الاستجابات الصحيحة بناءً على الحقائق، بينما تكون السياقات المركبة والفوضوية غير منظَّمة، وتفتقر إلى العلاقة الواضحة بين السبب والنتيجة، ومن ثمَّ تُحدَّد الخطوات التي يجب اتِّباعها بناءً على الأنماط الناشئة، ويُعَدُّ عالم الإدارة المنظَّم هو ذاك القائم على الحقائق، بينما يقوم عالم الإدارة غير المنظَّم على الأنماط.

تجعل طبيعة السياق الخامس على وجه الخصوص (سياق الارتباك) إدراك المرء له عند تعرضه له أمراً صعباً؛ إذ تتنافس وجهات النظر المتعددة، ويتجادل القادة مع بعضهم بعضاً، وتصير القواعد غير متناسقة، ويتمثَّل السبيل للخروج من هذا في تقسيم الموقف إلى عناصره الأساسية وإسناد كل منها لواحد من السياقات الأربعة الأخرى، وبعد ذلك يمكن للقادة اتِّخاذ القرارات وإدارة السياقات إدارةً مناسبة.

منهجية كينيفن (Cynefin)

يتعيَّن على القادة تجنُّب الإدارة التفصيلية والاطلاع على ما يحدث من أجل تحديد التغيير في السياق؛ وذلك لأنَّه على الرغم من أنَّ جميع العاملين قد لا يتمكَّنون من التعامل مع المشكلات التي قد تنشأ بمفردهم؛ إلَّا أنَّ أولئك الذين يمتلكون سنوات من الخبرة يعرفون جيداً كيفية إنجاز العمل، ومن ثمَّ يجب على القادة التواصل معهم ومنحهم المجال لتقديم تحذيرات مبكَّرة بشأن الرضى عن الذات الذي قد يحوِّل السياق الواضح إلى سياق فوضوي.

بالإضافة إلى ذلك، يجب أن يتذكر القادة أنَّ أفضل الممارسات، بحكم طبيعتها، هي الممارسات السابقة؛ إذ يُعَدُّ استعمالها أمراً شائعاً، وغالباً ما يكون استعمالها مناسباً في السياقات الواضحة، ولكن تظهر الصعوبات في طريقة العمل عندما يُمنَع الموظفون من مخالفة الممارسات الروتينية حتى عندما تفشل. ونظراً لأنَّ الإدراك المتأخر لن يفضي إلى التصرف المطلوب بعد حدوث تحوُّل في السياق؛ فقد تدعو الحاجة إلى إجراء تغيير مناسب في أسلوب الإدارة.

2. السياقات المعقَّدة (مجال الخبراء):

قد تحتوي السياقات المعقَّدة - بخلاف السياقات الواضحة - على استجابات صحيحة متعددة، ولا يمكن للجميع رؤية العلاقة الواضحة بين السبب والنتيجة على الرغم من وجودها، ويسمَّى هذا المجال بـ "المجهول المعروف"، في حين أنَّه يجب على القادة في السياق الواضح أن يستشعروا الموقف ويصنفوه ويستجيبوا له، يجب عليهم القيام بالتقييم والتحليل والاستجابة في ظل السياق المعقَّد أيضاً.

ومن الجدير بالذكر أنَّ هذا النهج ليس سهلاً، ويتطلب خبرة عادةً؛ مثل السائق الذي يدرك أنَّ ثمَّة مشكلةً ما في محرِّك السيارة، ولكن عليه أن يأخذها إلى ميكانيكي لتشخيص المشكلة.

بما أنَّ السياق المعقَّد يستدعي التقصِّي في الكثير من الخيارات التي قد يكون العديد منها ممتازاً، تُعَدُّ الممارسة الجيدة أكثر ملاءمة من أفضل الممارسات (Best practice)، على سبيل المثال: قد يؤكد النهج المعتاد لهندسة هاتف خلوي جديد على أنَّ الخاصيَّة "أ" أفضل من الخاصية "ب"، ولكن تؤكِّد الخطة البديلة أنَّ الخاصية "ج" قد تكون ذات قيمة مماثلة.

مثال آخر: يتطلَّب البحث عن النفط أو الرواسب المعدنية عادةً جهد فريق من الخبراء، وقد نعثر على نتائج في أكثر من مكان، كما يتضمَّن تحديد مكان المواقع المناسبة للحفر أو التعدين تحليلاً معقَّداً وفَهماً للعواقب على مستويات متعددة.

يُعَدُّ التفكير التقليدي خطراً في السياقات المعقَّدة، ولكنَّ الخبراء (وليس القادة) هم الأكثر عُرضة لذلك؛ لأنَّهم يميلون إلى السيطرة على المجال، ومن ثمَّ يتجاهلون اقتراحات غير الخبراء المبتكَرة أو يرفضونها عند حدوث المشكلة؛ وهذا يؤدي إلى ضياع الفرص؛ والسبب في ذلك أنَّ الخبراء لاقوا صعوبة في بناء معارفهم؛ لذا من غير المرجَّح أن يتقبَّلوا الأفكار المخالفة.

ولكن إذا تغيَّر السياق، فقد ينبغي على القائد التغلُّب على هذه المشكلة من خلال الإصغاء إلى الخبراء مع الترحيب في الوقت نفسه بالأفكار والحلول الجديدة من الآخرين. وثمَّة تجربة رائعة في هذا الصدد، فعندما فتح المسؤولون التنفيذيون في أحد مصانع الأحذية باباً للشركة بأكملها لمناقشة الأفكار عن أشكال الأحذية الجديدة؛ قدَّم أحد حرَّاس الأمن تصميماً رائعاً لحذاء، أصبح فيما بعد من أكثر المنتجات مبيعاً.

ثمَّة عقبة أخرى محتمَلة تتمثل في "عدم القدرة على التحليل"، عندما يصل مجموعة من القادة إلى طريقٍ مسدود، ولا يستطيعون الاتفاق على أي استجابة بسبب التفكير التقليدي لكل فرد أو غروره، ومع ذلك قد يساعد العمل في بيئات غير مألوفة القادة والخبراء على التعامل مع عملية اتِّخاذ القرار تعاملاً أكثر إبداعاً.

على سبيل المثال: وضعت إحدى الشركات اختصاصيين اثنين في تسويق التجزئة في بيئات بحثية عسكرية عدة لمدة أسبوعين؛ حيث كانت الأجواء صعبة وغير مألوفة، ولكنَّها تتشابه مع بيئة البيع بالتجزئة؛ إذ كان على المسوقين في كلتا الحالتين التعامل مع كميات كبيرة من البيانات، سواء من خلال تحديد الاتجاهات الدقيقة أم الإشارات الضعيفة، ولقد اكتشفوا أنَّه لا يوجد فرق كبير بين التعامل مع العملاء الساخطين - على سبيل المثال - والتنبؤ بالصواريخ الباليستية القادمة.

لقد ساعد التمرين موظفي التسويق على تعلُّم كيفية التنبؤ بفقدان الولاء المحتمَل واتِّخاذ الإجراءات قبل أن يتحوَّل العميل الوفي إلى مقدم خدمة منافس، وقد تمكَّن المسوقون، من خلال تحسين استراتيجيتهم، من إنجاز صفقات تجارية هائلة.

قد تشجِّع الألعاب أيضاً على التفكير بأساليب جديدة؛ إذ أنشأت إحدى الشركات لعبة تُلعَب على كوكب خيالي، وتستند إلى ثقافة منظمة حقيقية لأحد العملاء، وعندما "هبط" المديرون التنفيذيون على الكوكب الغريب، طُلِب منهم معالجة المشكلات التي تواجه السكان. لقد كانت المشكلات التي واجهوها غير حقيقية، ولكنَّها مصمَّمة لتعكس مواقف حقيقية، وكان العديد منها حسَّاساً أو مثيراً للجدل، ونظراً لأنَّ البيئة بدت غريبة جداً وبعيدة؛ وجد اللاعبون أنَّه من الأسهل بكثير التوصُّل إلى أفكار جديدة بطريقة أسهل من أي طريقة أخرى.

لذا، يؤدي لعب لعبة مَجازية إلى زيادة استعداد المديرين للتجربة، ويسمح لهم بحل المشكلات حلَّاً أكثر سهولة وإبداعاً، ويوسِّع نطاق خياراتهم في عمليات اتِّخاذ القرار؛ وهذا يجعل الهدف من هذه الألعاب هو الحصول على أكبر عدد ممكن من وجهات النظر لتعزيز التحليل دون قيود.

يستغرق الوصول إلى القرارات في السياق المعقَّد الكثير من الوقت عادةً، ويجب أن يكون هناك دائماً موازنة بين العثور على الاستجابات الصحيحة واتِّخاذ القرار بسهولة؛ بعبارة أخرى، تكون الاستجابات الصحيحة بعيدة المنال، ومع ذلك يجب أن تبني قرارك على بيانات غير كاملة؛ لذا فمن المحتمَل أن يكون موقفك مركَّباً وليس معقَّداً فحسب.

إقرأ أيضاً: كيف ينجح القائد في حل المشكلات؟

3. السياقات المركَّبة (مجال ظهور الأنماط):

في السياق المركَّب، ثمَّة استجابة واحدة صحيحة على الأقل، ومع ذلك لا يمكن اكتشافها؛ إذ يشبه الأمر الفرق بين السيارة الفيراري والغابات المطيرة البرازيلية؛ فسيارات الفيراري آلات معقَّدة، ولكن يمكن للميكانيكي الخبير تفكيكها وإعادة تجميعها دون تغيير أي شيء؛ وذلك لأنَّ السيارة ثابتة، والكل هو مجموع أجزائها، بينما الغابات المطيرة في حالة تغيُّر مستمر؛ إذ قد تنقرض الحيوانات التي تعيش فيها، وتتغيَّر أنماط الطقس، وقد يغيِّر مشروع زراعي مسار مصدر المياه، ومن ثمَّ قد نجد أنَّ الكل هو أكثر بكثير من مجموع أجزائه؛ هذا هو مجال "المجهول"، وهو المجال الذي تدور في فلكهِ الكثير من الأعمال المعاصرة.

تُعَدُّ معظم المواقف والقرارات مركَّبةً في المنظمات؛ إذ تؤدي بعض التغييرات الرئيسة - مثل النتائج غير المُرضية، أو التحوُّل في الإدارة، أو الدمج، أو الاستحواذ - إلى عدم القدرة على التنبؤ بالأمور وصعوبة مواكبتها؛ وذلك لأنَّنا لا يمكننا فَهْم سبب سير الأمور بالطريقة التي سارت بها في هذا المجال إلَّا في وقتٍ لاحق، ولكن قد تظهر أنماط إرشادية إذا أجرى القائد تجارب قد تفشل دون حدوث أضرار مؤثرة؛ لذا يجب على القادة أن يتريَّثوا حتى يجدوا مساراً مناسباً للعمل بدلاً من محاولة فرض مسار معيَّن؛ إذ يجب عليهم التقصِّي أولاً، ثمَّ إجراء التقييم، ومن ثمَّ الاستجابة.

مثال: ثمَّة مشهد في فيلم "أبولو 13" (Apollo 13) عندما يواجه روَّاد الفضاء أزمة تحوِّل الوضع إلى سياق مركَّب؛ إذ يُوضع مجموعة من الخبراء في غرفة تحتوي على مجموعة من المواد مثل أجزاء من البلاستيك وأغراض صغيرة تعكس الموارد المتاحة لروَّاد الفضاء في أثناء الطيران، وبعد ذلك يقول القادة للفريق: هذه هي الموارد المتاحة؛ ينبغي أن تجدوا حلَّاً وإلا سيموت روَّاد الفضاء.

لم يعرف أي من هؤلاء الخبراء كيف سيحلُّون الأمور، ولكنَّهم تركوا الحل يظهر من هذه المواد المتاحة، ونجحوا بالفعل؛ إذ تؤدي الظروف التي تكون الموارد فيها شحيحة غالباً إلى نتائج إبداعية أكثر من ظروف الوفرة.

مثال آخر: لم يكن في إمكان مؤسِّسي موقع "يوتيوب" (YouTube) توقُّع جميع تطبيقات تقنية بث الفيديو الموجودة الآن، فبمجرد أن بدأ الناس استعمال المنصة استعمالاً إبداعياً، صارت الشركة تدعم أساليب الاستعمال الناشئة؛ وهذا جعل "يوتيوب" (YouTube) منصة شائعة للتعبير عن الآراء السياسية، وقد صارت الشركة تبني نفسها على هذا النمط من خلال رعاية مناظرات المرشحين للرئاسة باستعمال البث المرئي من الموقع.

يواجه القادة العديد من التحديات في السياق المركَّب كما هو الحال في السياقات الأخرى، ولكن تكمُن المشكلة في الميل إلى العودة إلى أساليب إدارة القيادة التقليدية بغية إنشاء خطط عمل تكون في منأىً من الفشل وذات نتائج محدَّدة؛ إذ قد ينفد صبر القادة الذين لا يدركون أنَّ السياق المركَّب يتطلب أسلوباً إدارياً تجريبياً عندما لا يحققون النتائج المنشودة؛ وذلك لأنَّهم قد لا يستطيعون تحمُّل الفشل المحتمَل، الذي يُعَدُّ جانباً أساسياً للفَهْم التجريبي.

علاوةً على ذلك، إذا حاول القادة السيطرة على المنظمة على نحو مبالغ فيه، فسوف يقللون من فرص ظهور أنماط زاخرة بالمعلومات؛ لذا يفشل القادة الذين يحاولون فرض النظام في سياق مركَّب، بينما ينجح أولئك الذين يتخلُّون عن التفكير التقليدي، ويسمحون لأنماط جديدة بالظهور، ويحددون أياً منها سينجح، كما يكتشفون العديد من نماذج الأعمال الجديدة ويتيحون الفرص للابتكار والإبداع.

شاهد بالفيديو: كيف تتعلَّم فن اتخاذ القرارات الصحيحة

أفضل الوسائل للإدارة في سياق مركَّب:

يُعَدُّ المجال المركَّب غامضاً للغاية؛ لذا يجب على القادة معرفة وسائل الإدارة لقيادة الموقف بفاعلية، التي تتمثَّل في:

1. فتح باب المناقشة:

تتطلب السياقات المركَّبة عمليات تواصل تفاعلية أكثر من أيٍّ من المجالات الأخرى، وتُعَدُّ أساليب فتح النقاش في مجموعات كبيرة (LGMs) - على سبيل المثال - أساليب فعَّالة لبدء جلسات مناقشة ديمقراطية وتفاعلية ومتعددة الاتجاهات؛ إذ تسمح للناس بالتوصُّل إلى أفكار مبتكَرة تساعد القادة على تطوير وتنفيذ القرارات والاستراتيجيات المركَّبة.

على سبيل المثال: "الاختلاف الإيجابي"، الذي يسمح للأشخاص بمناقشة الحلول القائمة بالفعل داخل المنظمة نفسها، بدلاً من البحث عن أفضل الممارسات الخارجية لإيجاد أفكار حول كيفية اتِّخاذ الإجراءات. لقد استعمل معهد "بليكسوس" (Plexus) هذا الأسلوب لمعالجة المشكلة المركَّبة المتمثِّلة في العدوى المكتسبة من المستشفيات؛ وهذا أدَّى إلى تغيير السلوك الذي خفض معدل الإصابة بنسبة تصل إلى 50%.

2. وضع الحدود:

تُعَدُّ الحدود سلاحاً ذا حدين؛ فقد تحدُّ من السلوك أو تحدده. فبمجرد وضع الحدود، يعمل التنظيم الذاتي وفقاً لها؛ وهذا يحدُّ من الانحرافات. على سبيل المثال: لقد أنشأ مؤسسو شركة "إيباي" (eBay) بعض الحدود من خلال إنشاء مجموعة صغيرة من القواعد؛ ومن بينها الدفع في الوقت المحدَّد، وتسليم البضائع بسرعة، وتقديم الكشف الكامل عن حالة البضائع، ومراقبة المشاركين لأنفسهم من خلال تصنيف بعضهم بعضاً بناءً على نوعية سلوكهم.

3. تحفيز عوامل الجذب:

عوامل الجذب عبارة عن ظواهر تنشأ عندما تلقَى المحفزات الصغيرة وعمليات البحث - سواء من القادة أم من غيرهم - رواجاً لدى الناس، وعندما تكتسب عوامل الجذب الزخم، توفِّر التنظيم والاتِّساق.

يقدِّم موقع "إيباي" (eBay) مثالاً توضيحياً؛ ففي عام 1995، أطلق المؤسِّس "بيير أوميديار" (Pierre Omidyar) عرضاً يُسمَّى "أوكشن ويب" (Auction Web) على موقعه الشخصي على الإنترنت، الذي كانت فكرته إنشاء مزاد على شبكة الإنترنت، وسرعان ما تحوَّلت هذه الفكرة إلى موقع "إيباي" (eBay)، وصارت عامل جذب رائع للأشخاص الذين يرغبون في شراء وبيع الأغراض.

واليوم، يواصل البائعون على موقع "إيباي" (eBay) تقديم أفكار تجريبية تخلق عوامل الجذب لأنواع الأغراض المختلفة، وقد لاقت إحدى هذه الأفكار - وهي بيع سيارة على الموقع - رواجاً لدى المشترين، وسرعان ما أصبحت مبيعات السيارات عامل جذب شهير.

4. التشجيع على الاختلاف وتنوُّع الآراء:

يُعَدُّ الخلاف والمناقشة العامَّة عوامل تواصل هامَّة في السياقات المركَّبة؛ وذلك لأنَّها تشجِّع على ظهور أنماط وأفكار جيدة، على سبيل المثال: تعمل طريقة "تناوب الآراء المختلفة" (Ritual Dissent) على وضع مجموعة من الفِرَق للعمل على حل المشكلة نفسها، ويعيِّن كل فريق متحدِّثاً باسمه ينتقل من طاولة فريقه إلى طاولة فريق آخر، ويعرض المتحدِّث استنتاجات المجموعة الأولى، بينما تصغي المجموعة الثانية في صمت، بعد ذلك يذهب المتحدِّث إلى الطاولات الأخرى بالترتيب، وبحلول نهاية الجلسة، تصبح جميع الأفكار مدروسة ومصقولة.

تُعَدُّ هذه التقنية مفيدة للغاية؛ إذ يساعد الإصغاء الفعَّال الجميع على فَهْم قيمة الإصغاء والتحدُّث بصراحة وعدم أخذ النقد على محمَلٍ شخصي.

5. إدارة ظروف البدء ومراقبة الظهور:

يتعيَّن على القادة التركيز على خلق بيئة تتيح ظهور الحلول الجيدة، بدلاً من محاولة تحقيق نتائج محدَّدة مسبقاً واحتمالية تفويت الفرص التي تنشأ على نحو غير متوقَّع؛ نظراً لأنَّ النتائج لا يمكن التنبؤ بها في السياق المركَّب؛ لذا وضعت شركة "3 إم" ( 3M) منذ سنوات عدة قاعدة تسمح لباحثيها بقضاء 15% من وقتهم في العمل على أي مشروع يثير اهتمامهم، وأسفرت النتائج عن نجاح هائل وخلق بيئة عمل أكثر إبداعاً.

إقرأ أيضاً: الميزة التنافسية ودور القادة في تعزيزها

4. السياقات الفوضوية (مجال الاستجابة السريعة):

في السياق الفوضوي، سيكون البحث عن الاستجابات الصحيحة أمراً لا طائل منه؛ إذ يستحيل تحديد العلاقات بين السبب والنتيجة؛ نظراً لتغيُّرها المستمر وعدم وجود أنماط يمكن التحكُّم بها. ويُعرَف هذا المجال باسم "المجهولات".

لا تتمثل مهمَّة القائد المباشرة في السياق الفوضوي في اكتشاف الأنماط الصحيحة؛ بل في إيقاف الخسائر فحسب؛ لذا يجب على القائد أولاً أن يعمل على إرساء النظام، واستشعار أين يوجد الاستقرار وأين لا يوجد، ومن ثمَّ الاستجابة من خلال العمل على تحويل السياق من "فوضوي" إلى "مركَّب"؛ إذ قد يساعد تحديد الأنماط الناشئة على منع الأزمات المستقبلية وظهور الفرص الجديدة، كما يُعَدُّ انتقال عمليات التواصل مباشرةً من أعلى الهرم القيادي إلى أدناه أمراً حتمياً؛ وذلك لأنَّه ليس هناك وقت لطلب المدخلات.

من المؤسف أنَّ القادة معظمهم يتَّبعون أنظمة الإدارة التقليدية للأزمات في السياق الفوضوي، وهذا أمر خاطئ؛ وذلك لأنَّ السياق الفوضوي - لحسن الحظ - نادر الحدوث، ويتطلَّب إجراءات حازمة؛ مثلما حدث في أحداث 11 سبتمبر، التي لم تكن مفهومة على الفور، إلَّا أنَّ الأزمة تطلَّبت إجراءات صارمة.

ولقد أظهر عمدة "نيويورك" "رودي جولياني" (Rudy Giuliani) في ذلك الوقت فاعلية استثنائية في ظل ظروف فوضوية من خلال إصدار التوجيهات واتِّخاذ الإجراءات لإعادة تأسيس النظام، ومع ذلك تعرَّض في دوره كرئيس بلدية - وهي بالتأكيد واحدة من أكثر الوظائف تعقيداً في العالم - إلى انتقادات كثيرة بسبب أسلوب القيادة من أعلى الهرم إلى أسفله، الذي أثبت فاعليته بشدة في ظل الكارثة، كما تعرَّض لانتقادات بعد ذلك لاقتراحه تأجيل الانتخابات حتى يتمكَّن من الحفاظ على النظام والاستقرار.

في الواقع، ثمَّة خطر محدَّد على القادة في أعقاب الأزمة، وهو أنَّ بعضهم يغدو أقل نجاحاً عندما يتغيَّر السياق؛ وذلك لأنَّهم غير قادرين على تغيير أساليبهم القيادية لمطابقتها مع الوضع القائم.

علاوة على ذلك، قد يطوِّر القادة الناجحون في السياقات الفوضوية صورة ذاتية مبالَغاً فيها، ويتخيلون أنفسهم أبطالاً أسطوريين ويعجبون بأنفسهم إلى حد الغرور، وربما يكوِّنون دائرة معجبين داعمين لهم في جميع قرارتهم؛ وهذا يُصعِّب القيادة عليهم نظراً لعدم القدرة على التوصُّل إلى معلومات دقيقة.

وعلى الرغم من ذلك، يُعَدُّ السياق الفوضوي أفضل فرصة للقادة لتشجيع الابتكار؛ إذ يكون الناس أكثر انفتاحاً على القيادة الحديثة التوجيهية في هذا السياق أكثر من السياقات الأخرى، وتتمثَّل إحدى الأساليب الممتازة للتعامل مع هذا السياق في إدارة الفوضى وتشجيع الابتكار في آنٍ واحد.

على سبيل المثال: في اللحظة التي تواجه فيها أزمة، عيِّن مديراً كفئاً أو فريق إدارة أزمات لحل المشكلة، وفي الوقت نفسه اختر فريقاً منفصلاً واطلب من أعضائه التركيز والقيام بالأمور بصورة مختلفة؛ وذلك لأنَّك إذا انتظرت حتى تنتهي الأزمة، فسوف تضيع الفرصة.

القيادة في ظل السياقات المختلفة:

تتطلَّب القيادة الحصيفة انفتاحاً على التغيير على المستوى الشخصي؛ إذ يعرف القادة الماهرون كيفية تحديد السياق الذي يعملون فيه في أي وقت، وكيفية تغيير سلوكاتهم وقراراتهم أيضاً لتتناسب مع هذا السياق، كما يهيئون منظمتهم بأكملها لفَهْم السياقات المختلفة وكيفية الانتقال بينها، فقد يقود العديد من القادة بفاعلية (وإن كان عادةً ما يكون في سياق واحد أو سياقين فقط)، ولكن يجهِّز القليل منهم - إن وُجِد - مؤسساتهم للتعامل مع السياقات المتنوعة.

القرارات في السياقات المتعددة (دليل القائد):

يتعلَّم القادة الماهرون تغيير أساليبهم في اتِّخاذ القرارات لتتناسب مع بيئات العمل المتغيرة؛ إذ تتطلب السياقات الواضحة والمعقَّدة والفوضوية استجابات إدارية مختلفة، ومن ثمَّ من خلال تحديد السياق القائم تحديداً صحيحاً، والوعي بدلالات الخطر، وتجنُّب ردود الفعل غير المناسبة، يمكن للمديرين القيادة بفاعلية في مجموعة متنوعة من المواقف.

ملخص السياقات المختلفة:

 

خصائص السياق

ما يجب على القائد فعله دلالات الخطر كيفية الاستجابة
السياق الواضح
  • تكرار الأنماط والأحداث المتسقة.
  • وضوح العلاقة بين النتيجة والأثر.
  • توافر الاستجابات الصحيحة.
  • يُعرَف السياق باسم مجال "المعروف".
  • تعتمد الإدارة على الحقائق المتوفرة.
  • إجراء التقييم، ثمَّ التصنيف، ثمَّ الاستجابة.
  • الحرص على تقديم الاستجابة الصحيحة.
  • التفويض.
  • استعمال أفضل الممارسات (الممارسات السابقة).
  • التواصل تواصلاً واضحاً ومباشراً.
  • معرفة أنَّ التواصل التفاعلي المكثَّف قد لا يكون ضرورياً.
  • الشعور بالراحة والرضى عن الذات.
  • الرغبة في جعل السياقات المعقَّدة واضحة.
  • التفكير التقليدي.
  • عدم وجود تحديات.
  • الاعتماد المبالَغ فيه على أفضل الممارسات في ظل تغيُّر السياق.
  • إنشاء مجالات للتواصل والعصف الذهني.
  • التخلِّي عن أسلوب الإدارة التفصيلية.
  • عدم تجاهل المشكلات على أنَّها سهلة.
  • تعرُّف قيمة أفضل الممارسات وقيودها.
السياق المعقَّد
  • يتطلَّب تشخيص الخبراء.
  • لا يمكن للجميع رؤية العلاقة الواضحة بين السبب والنتيجة على الرغم من وجودها.
  • احتمالية تعدُّد الاستجابات الصحيحة.
  • يُعرَف باسم مجال "المجهول المعروف".
  • تعتمد الإدارة على الحقائق المتوفرة.
  • القيام بالتقييم، والتحليل، ثمَّ الاستجابة.
  • تكوين فِرَق من الخبراء.
  • الإصغاء إلى النصائح المتباينة.
  • ثقة الخبراء المُفرِطة في حلولهم وأفكارهم، أو في فاعلية حلولهم السابقة.
  • عدم القدرة على التحليل.
  • تجمُّع الخبراء في فِرَق منغلقة، وعدم الإصغاء إلى نصيحة غير الخبراء.
  • تشجيع أصحاب المصلحة على تحدِّي آراء الخبراء للقضاء على التفكير التقليدي.
  • محاكاة تجارب مختلفة وإيجاد ألعاب تساعد الناس على التفكير من خارج الصندوق.
السياق المركَّب
  • حدوث تغيير متواصل وغير متوقَّع.
  • عدم وجود استجابات صحيحة، وظهور أنماط إرشادية.
  • يُعرَف باسم مجال "المجهول".
  • ظهور العديد من الأفكار المتباينة.
  • الحاجة إلى اتِّباع أساليب مبدعة ومبتكَرة.
  • تعتمد القيادة على الأنماط الإرشادية.
  • التقصِّي، ثمَّ إجراء التقييم، ثمَّ الاستجابة.
  • خلق بيئة وإنشاء تجارب تسمح للأنماط الإرشادية بالظهور.
  • تعزيز مستويات التفاعل والتواصل.
  • الاستفادة من الطرائق التي تساعد على التوصُّل إلى أفكار جديدة؛ مثل فتح باب المناقشات في مجموعات كبيرة، ووضع الحدود، وتشجيع الاختلاف وتنوُّع الآراء، وإدارة ظروف البدء، ومراقبة أنماط الظهور.
  • الرغبة في العودة إلى الوضع المعتاد.
  • الرغبة في النظر إلى الحقائق والتصرُّف وفقاً لها بدلاً من انتظار ظهور أنماط إرشادية.
  • الرغبة في إيجاد حل سريع للمشكلات.
  • التحلِّي بالصبر وتخصيص الوقت الكافي للتفكُّر.
  • استعمال نهج يشجِّع على التفاعل ويسمح للأنماط بالظهور.
السياق الفوضوي
  • حدوث اضطراب كبير.
  • عدم وضوح العلاقة بين السبب والأثر، وعدم القدرة على معرفة الاستجابة الصحيحة.
  • يُعرَف باسم مجال "المجهولات".
  • الاضطرار إلى اتِّخاذ قرارات سريعة لعدم توفر وقت للتفكير.
  • التوتُّر الشديد.
  • تعتمد القيادة على الأنماط الإرشادية
  • التصرُّف، ثمَّ القيام بالتقييم، ثمَّ الاستجابة.
  • البحث عن ممارسات ناجحة بدلاً من البحث عن الاستجابات الصحيحة.
  • اتِّخاذ إجراءات فورية لإعادة النظام مرَّة أخرى.
  • تعزيز التواصل المباشر والواضح
  • تطبيق نهج السيطرة والتحكُّم لفترة أطول من اللازم.
  • الإعجاب الشديد بالقائد وعدم مراجعته في قراراته.
  • تفويت فرص الابتكار.
  • الفوضى المستمرة
  • وضع آليات للاستفادة من الفرص التي تتيحها البيئة الفوضوية.
  • تشجيع الآخرين على التعبير عن الآراء ووجهات النظر المختلفة بمجرَّد أن تخفَّ حدَّة الأزمة.
  • العمل على تغيير السياق من "فوضوي" إلى مركَّب

لقد واجه "والتر جاسور" (Walter Gasior) أربعة سياقات في آنٍ واحد خلال جرائم القتل التي حدثت في منطقة "بالاتين" (Palatine) عام 1993؛ لذا كان عليه أن يتَّخذ إجراءات فورية عبر وسائل الإعلام للحدِّ من موجة الذعر من خلال إبقاء المجتمع على اطِّلاع بما يجري (سياق فوضوي)، وكان عليه أن يساعد على استمرار عمل الإدارة روتينياً ووفقاً للإجراءات المتَّبعة (سياق واضح)، وكان عليه استدعاء الخبراء (سياق معقَّد)، وأخيراً، تعيَّن عليه مواصلة تهدئة المجتمع في الأيام والأسابيع التي أعقبت الجريمة (سياق مركَّب).

وقد تبيَّن أنَّ الموقف الأخير هو الأكثر صعوبة؛ إذ كان الآباء يخشون إرسال أطفالهم إلى المدرسة، وكان الموظفون قلقين بشأن سلامتهم الشخصية في أماكن عملهم.

لو أخطأ "جاسور" في فَهْم "السياق الواضح"، فلربما فشل في بثِّ الطمأنينة في المجتمع، ولو كان أخطأ في فَهْم "السياق المعقَّد"، فلربما دعا الخبراء ليقولوا إنَّ الوضع آمن؛ وهذا سيشكِّل مجازفة بفقدان المصداقية والثقة، ولكن ما فعله "جاسور" أنَّه أنشأ منتدى لأرباب الأعمال وطلاب المدارس الثانوية والمعلِّمين وأولياء الأمور لمشاركة مخاوفهم والاطِّلاع على الحقائق؛ وكان هذا هو النهج الصحيح لإدارة سياق مركَّب؛ إذ سمح للحلول بالظهور من المجتمع نفسه بدلاً من محاولة فرضها.

تهيِّئ المؤسسات وكليات إدارة الأعمال القادة للعمل في مجالات منظَّمة (التي تتضمَّن سياقات واضحة ومعقَّدة)، ولكن يتعيَّن على القادة معظمهم عادةً الاعتماد على قدراتهم الطبيعية عند العمل في حالات غير منظمة (التي تتضمَّن سياقات مركَّبة وفوضوية)، ولكن نظراً للتعقيد المتزايد في عصرنا الآن؛ لم يكتفِ القادة بالحدس والفكر والكاريزما؛ بل احتاجوا إلى وسائل ومنهجيات تساعدهم على قيادة شركاتهم في ظل ظروف الشُح والعسر.

لقد صارت البيئة المعقَّدة لعالم الأعمال الحالي تتطلَّب من القادة عادةً التصرُّف خلاف غرائزهم، ومعرفة متى يتشاركون السلطة ومتى يمارسونها بمفردهم، ومتى يستشيرون فِرَقهم ومتى يطبِّقون آراءهم الخاصَّة، كما أصبح الفَهْم العميق للسياقات والقدرة على التعامل مع التعقيد والتناقض والاستعداد لتغيير أسلوب القيادة بمرونة، لزاماً على القادة الذين يرغبون في إصلاح الأمور في أوقات عدم الاستقرار.

المصدر




مقالات مرتبطة