متلازمة المحتال ومعاناة الأشخاص المصابين بها

يتحدث المقال بالتفصيل عن "متلازمة المحتال" التي يعاني منها الكثيرون وتدفعهم إلى الشعور بخداعهم للمجتمع من حولهم، من خلال أمثلة واقعية وحلول من أطباء ومدرِّبين تعاملوا بشكل مباشر مع حالات مصابة "بمتلازمة المحتال".



ظهر شغف الكوتش "غريغوري بيغناتارو" (Greg Pignataro) لكرة القدم في السادسة من عمره، وترعرع حالماً بمكانه بين لاعبي الكرة المحترفين أو متخيلاً حصوله على منحة دراسية جامعية.

لمع نجمه في سنته الأخيرة من المدرسة الثانوية في معسكر للاعبي كرة القدم، وبدا أنَّ حلمه يتحقق، وحينما لفت انتباه كوتش فريق كرة القدم الجامعي، والذي بدوره عرض عليه منحةً دراسية والانضمام إلى الفريق.

بدا أنَّ الحظ فتح أبوابه أخيراً، فكان "غريغ بيغناتارو" في غاية السعادة، ولكن ما لبثت الشكوك أن سيطرت على عقله بعد بضعة أسابيع من التدريب مع أفضل الرياضيين.

وقال "غريغ بيغناتارو": "كنتُ ألعبُ ضد أشخاص يفوقونني لياقةً بمستويات؛ لذلك مررتُ بأيامٍ شعرتُ فيها بأنَّني أسوأ لاعب في هذا الفريق، وتبادرت إلى ذهني خواطر الشك في أنَّني لا أستحق هذا المكان. لقد خدعتهم؛ فكم سيستغرق الأمر حتى يكتشفوا أمري؟".

اعتقدَ "غريغ بيغناتارو" أنَّ اللاعبين الذين أُصيبوا إصابات بالغة منعَتهم عن التدريب محظوظون جداً؛ لأنَّهم لن يضطروا إلى التدريب، فقرر أن يمزق مشط قدمه اليسرى في أثناء تدريبه التالي؛ مما أدى إلى خروجه عن التدريب لستة أسابيع.

ولأنَّه كان مبتدئاً، فقد منحه الكوتش فرصةً أخرى لإثبات نفسه في الموسم التالي، وقد حصل على مكانة في الفريق مجدداً؛ ولكنَّه لم يكد يعاود التدريب حتى حاصرته أفكار الشك في نفسه من جميع الجهات.

وأعرب عن قلقه قائلاً: "أعتقد أنَّني عززت صورة اللاعب غير الكفء بسلوكاتي لدى الكوتش وأعضاء الفريق المحترفين، قضيت معظم الوقت أتساءل عن مشكلتي الأساسية".

النساء اللّواتي يعانين من متلازمة المحتال:

بعد سنوات، اكتشف "غريغ بيغناتارو" أنَّ العديد من الناس يعانون من تجربة مماثلة لما يمر به؛ إذ إنَّها تدعى "متلازمة المحتال" أو "متلازمة إمبوستر" وتسبب شعور ذوي المهارات والإنجازات العظيمة بأنَّهم محتالون.

اكتُشِفَ هذا النمط الفكري لأول مرة في السبعينيات بينما كان الباحثون يدرسون سلوك النساء ذوات الإنجازات العالية؛ إذ عملت النساء بجد للوصول إلى مناصب عالية، ولسببٍ ما شعرنَ بأنَّهن لا يستحققن هذه المناصب، كما أفَدنَ بأنَّهن يعشن خوفاً دائماً من اكتشاف عدم كفاءتهم، التي تمكنوا بطريقةٍ أو بأخرى من إخفائها عن مديريهم.

وقد عرفت الطبيبة "جنيفر هانت" (Jennifer Hunt) رئيسة قسم علم الأمراض في "جامعة أركنساس للعلوم الطبية" (University of Arkansas for Medical Sciences) العديد من الحالات المشابهة؛ إذ بدأت دراسة "متلازمة المحتال" خلال عملها في تطوير القيادة النسائية في مجال الرعاية الصحية، وعندما اكتشفت عدد زميلاتها اللاتي عانين من هذه المشكلة، أنشأت برنامجاً لمساعدتهن على التغلب عليه.

أوضحت الطبيبة "جنيفر هانت": "صممتُ البرنامج خصيصاً للطبيبات، ولكن يمكن تطبيق واستعمال الأدوات المساعدة في البرنامج على أيَّة مجموعة من عامة الناس".

في البداية، اعتقدَ الباحثون أنَّ "متلازمة المحتال" خاصة بالنساء فقط؛ ولكنَّ النتائج الأخيرة تُظهِر أنَّ الرجال يعانون أكثر من النساء، فلا علاقة بين الإصابة بمتلازمة المحتال وجنس المصاب، مع وجود عامل متغير مشترك يربط هذه الحالات معاً.

وأفادت الطبيبة: "يُصاب بهذه المتلازمة أشخاص من مختلف مشارب الحياة وأشخاص خاضوا تجارب مختلفة في طفولاتهم، إلَّا أنَّ العامل المشترك بينهم هو أنَّهم أصحاب إنجازاتٍ رفيعة".

يسعى المصابون بمتلازمة المحتال إلى التميز؛ ولكنَّهم يشعرون داخلياً بتقصيرهم في السعي إلى تحقيق هدفهم، تسير هذه المعايير العالية جنباً إلى جنب مع عدم الثقة بالنفس، والذي يُصعِّب الأمر أكثر فأكثر.

غالباً ما ينبهر أصدقاء وعائلة وزملاء المصاب بمهاراته وقيادته؛ ولكنَّه لا يلقي بالاً للدعم والتقدير الخارجي، كما نلاحظ اختلافاً عظيماً بين عالمهم الداخلي وعالمهم الخارجي، ويبقى مصدر التناقض غامضاً.

سألت الطبيبة "جنيفر هانت" ضمن خطة علاجها المصابين الذين تدربهم أسئلة عدَّة لاكتشاف مصدر التناقض: "هل تحاول تطبيق معايير شخصٍ آخر؟" وأدرك الناس من خلال الأسئلة غرابة وضع معايير صعبة الوصول والتحقيق لأنفسهم؛ إذ لا يدفعهم أحد ليكونوا بمستوى معين من الأداء الناجح.

إقرأ أيضاً: حسب الأبحاث: النساء أفضل من الرجال في الإدارة

صورة ذاتية ثابتة:

يتساءَل بعضنا كيف كوَّن الشخص هذه الصورة المشوهة عن نفسه؟

وفقاً للكاتب "جون غرادن" (John Graden) مؤلف كتاب "متلازمة المحتال: كيفية استبدال الشك الذاتي بالثقة بالنفس وتدريب الدماغ على النجاح" (The Impostor Syndrome: How to Replace Self Doubt with Self Confidence and Train Your Brain for Success)؛ فقد يشعر الناس بالعجز في سنٍّ ما، متأثرين بحادثٍ مؤلم ترك أثراً سيِّئاً في أنفسهم.

وقال الكاتب "جون غرادن" الذي عانى من المتلازمة لفترة طويلة:

"تمثل إهانات الآباء والتنمر الذي يتعرَّض له الأبناء أحد الأسباب الرئيسة لبناء صورة ذاتية مشوهة عن النفس، والتمسك بهذه الصورة عبر الزمن والحديث عنها بشكلٍ علني".

بالنسبة إلى الكاتب "جون غرادن" فقد تشكلت صورته الذاتية المشوَّهة بسبب أفعال أبيه العنيف والمزاجي؛ ونتيجة لذلك كان طفلاً خجولاً يسعى إلى الاختباء وعدم الظهور.

في المقابل، أثَّرت أفلام "الكونغ فو" تأثيراً إيجاباً في شخصيته؛ إذ أخرجته من قوقعته ودفعته إلى تعلُّم فنون الدفاع عن النفس التي كانت ملاذاً آمناً لتقليل التعرُّض إلى الخطر الأُسري. تدرَّب تدريباً كثيفاً للحصول على الحزام الأسود، وفي غضون سنواتٍ قليلة أصبح مدرب كاراتيه مرموقاً يظهر على برنامج تلفزيوني خاص.

ولكن على الرغم من إنجازاته، وصف الكاتب "جون غرادن" نفسه بعد الوصول إلى نجاح حققه بشق الأنفس: "بأنَّه شخص مزيف محتال"، وأَعرب عن قناعته أنَّه سيواجه نهاية الطرد الحتمية ويندثر نجاحه في نهاية المطاف.

اعتقد الكاتب "جون غرادن" لسنواتٍ أنَّه الوحيد الذي يعاني من الصراع الداخلي، حتى سمع تصريح الممثل "بول نيومان" (Paul Newman) في مقابلة تلفزيونية معترفاً بقلقٍ مماثل قائلاً: "أشعر بأنَّه سيأتي شخص يوماً ما من العدم، ليمسك بمرفقي ويقول لي: "لقد انتهى الأمر "نيومان"، لقد خدعتَنا وانتهى الأمر".

كلَّما فهم "جون غرادن" "متلازمة المحتال"، وجد العديد من المشاهير الذين يشاركونه الشعور نفسه بالاحتيال؛ فكلما نجحوا أكثر، شعروا بالصراع الداخلي يحتدم أكثر فأكثر.

وأوضح الكاتب "جون غرادن": "قد يصل الناس ذوي الطموح العالي بجهودٍ جبارة إلى مراتب عالية تؤهلهم لأن يصبحوا نجوم سينما أو تلفزيون؛ ولكنَّهم ما يلبثوا أن يخسروا ما حققوه بسبب تعاطيهم المخدرات والكحول بسبب صراعهم الداخلي، وتجدهم في صراعٍ دائم بين ما حققوه وانتمائهم الداخلي إلى المكانة التي وصلوا إليها".

إقرأ أيضاً: كيف تتغلب على متلازمة المحتال؟

التواضع المزيف:

تعتقد الطبيبة "جنيفر هانت" أنَّ الناس يتشبثون بعدم الثقة بالنفس؛ لأنَّه كان حبل النجاة الوحيد سابقاً، فكان ضعف الثقة آلية حماية متَّبعة جرَّاء المشكلات التي تحصل، والتي تُبقي الشخص في حالة تأهب وتُجنِّبه المواقف الخطرة، ومع ذلك، يؤدي ضعف الثقة بالنفس إلى فقدان وضوح الرؤية فيما بعد؛ إذا ما أصبح ردة الفعل الطبيعية، كما يمكن أن يُهيِّئك ضعف الثقة بالنفس إلى حالات الفشل؛ ولكنَّه يمنع قدراتك المميزة عن الظهور والتألق.

لحسن الحظ، متلازمة المحتال ليست مرضاً مستعصياً؛ وإنَّما هي حالة ذهنية تضع حدَّاً لارتقاء الشخص؛ لذا توصي الطبيبة "جنيفر هانت" بتدارك الوضع باستعمال أدوات تعديل التصورات الذاتية.

وتقول الطبيبة "جنيفر هانت": "يشبه الحال وضع نظارتين في آنٍ واحد، ورؤية العالم من منظور كل منهما، ستشوه إحداهما المشهد، وتساعد الأخرى على إيضاح الرؤية".

يعتقد المصابون بمتلازمة المحتال أنَّ التواضع خطأ جسيم، ومع ذلك فهم يخشون في كثير من الأحيان الظهور بمظهر المتغطرس، ولكن تدَّعي "جنيفر هانت": "أنَّ الأمر لا يستحق القلق؛ إذ يجب تجنُّب التأرجح بين التواضع والتكبر، كما يتحتَّم عليهم أن يعملوا بجد فقط للوصول إلى مستوى مقبول من الثقة بالنفس".

يمكن إعادة تسمية متلازمة المحتال باسم متلازمة الاستنزاف الذاتي؛ إذ يستنزف المصابون طاقاتهم الذاتية تماماً مثلما يفعلون مع المال، والعكس هو متلازمة خداع الذات؛ إذ يخدع الأشخاص أنفسهم بتعظيم القيمة الذاتية، أمَّا الوضع الصحي هو تقدير الذات".

شاهد أيضاً:7 صفات أساسيّة يتميّز بها القائد المتواضع:

المديح والنقد الذاتي:

يوافق الكاتب "جون غرادن" الطبيبة "جنيفر هانت" الرأي بأنَّ إحدى العقبات الرئيسة في معالجة متلازمة المحتال هي تعلُّم كيفية المجاملة، ويبدو الأمر بديهياً للشخص الطبيعي، ولكن يصعب على المصاب الرد بكلمات سهلة مثل "شكراً" عندما يعتاد على عدم تقدير الذات. فتنصح الطبيبة بعدم الامتناع عن المجاملة ولكن يمكن إرفاقها بعذرٍ متواضع، مثل: "شكراً لك، احتاجَ الأمر إلى كثيرٍ من الدعم لنصل إلى هذا"، أو "شكراً، بالتأكيد سأؤدي بشكلٍ أفضل لاحقاً".

يوضح "جون غرادن" بعد علاجه: يوجد فارق بين التواضع وحرمان النفس من الاستمتاع بالنتائج المبهرة، ولا يعني الشكر أنَّك مغرور؛ وإنَّما هو اعتراف منك لمجاملة شخص ما ومبادلته مجاملةً أخرى، فأنت تُظهِر التقدير لمجاملته الداعمة".

كما يتشارك مصابو "متلازمة المحتال" صعوبة قبول النقد، وبالنسبة إلى أشخاصٍ يتعرَّضون إلى تأنيب ونقد داخلي قاسٍ باستمرار، فتضخيمُ أي حكم خارجي أمر وارد جداً.

وقالت الطبيبة "جنيفر هانت": "أُعاين هذه السلوكات طوال الوقت في المجموعات التي أدرِّبها؛ إذ لا يتذكر المصاب ردود الفعل الإيجابية البالغة نسبتها 98%، إذا ما تعرَّض لردة فعل سلبيَّة بشكلٍ مباشر أو من نسج تصوراته، وهذا ما يعلق بذاكرته".

إحدى الأدوات التي استعملَتها "جنيفر هانت" لدفع الناس إلى تقبل النقد دون تحويله إلى هجوم شخصي هو النظر إلى حقيقة كلمات النقد، وليس ما يتصورونه.

وأوضحت: "لنفترض أنَّ المصاب مقتنع أنَّ ربَّ عمله يكرهه، فيجب البحث عن أدلة منطقية تثبت الفكرة، ومواجهة الحجة المنطقية مع الناقد الداخلي عن طريق الدفاع عن حقيقة الحجة".

استطاع الكاتب "جون غرادن" ترويض الناقد الداخلي من خلال السيطرة على حديثه الداخلي ودحض أيَّة حجج أو أفكار سلبية بأدلة واقعية ومنطقية؛ لذلك عندما يبث الصوت الداخلي الأفكار السلبية، اعكسها.

قال الكاتب "جون غرادن": "اعمل بجد حتى لا تدع للماضي متسعاً للتأثير في الحاضر، ولقد تعلمتُ التعامل مع الأفكار السلبية المتشككة، بأن أقطع حبل الأفكار وأبدأ التفكير في الخطوة التالية أو بأمر إيجابي يمكنني القيام به، وكيفية تطوير عملي ومساعدة المجتمع، وسيُبعد التفكير في أي شيء آخر عقليَ عن الخوض في الماضي".

الاعتراف الذاتي:

جزء من آلام مصاب "متلازمة المحتال" هو شعوره الشديد بالعزلة، وتساعده مجرد معرفته أنَّه ليس وحده وأنَّ هناك آخرين يعانون من الانفصال الإدراكي الغريب نفسه، وأبدى جميع المتدربين تقريباً في مجموعة تدريب "هانت" ارتياحهم لمعرفة وجود آخرين يتشاركون معهم المعاناة نفسها.

أوضحت إحداهنَّ ذلك بشكلٍ جيد حينما قالت: "نظرتُ حولي ورأيتُ كل هؤلاء النسوة العظيمات اللاتي اعتقدنَ أنَّهن محتالات، وإذا كانوا مخطئات، فلربما أكون مخطئةً أيضاً".

حتى إن اعتدتَ على الشك الذاتي، فتستطيع التسلح بقدرٍ كافٍ من الوعي والممارسة والتعرُّف إلى قيمتك الذاتية، ومنع "متلازمة الاحتيال" من السيطرة على حياتك.

يعمل الكوتش "غريغوري بيغناتارو" اليوم بدوامٍ كامل كمدربٍ شخصي، وكوتش القوة والتكيف، كما يُظهِر شغفه في عمله بالارتقاء به والنجاح فيه؛ وذلك عن طريق مواجهة الأفكار المتشككة بثبات وثقة عالية بالنفس، ليثبت معرفته وكفاءته.

أصبح "غريغوري بيغناتارو" خبيراً بديناميكية "متلازمة المحتال" للسيطرة على أفكار عدم ثقة بالنفس.

وقالت الطبيبة "جنيفر هانت": "تمكنتُ من إثبات كفاءَتي من خلال نجاح جميع الأشخاص الذين دربتهم وعملت معهم مهنياً في تجاوز مرحلة الخطر، وجميع الشهادات التي نلتها جراء ذلك، وبفضل كل ما قرأته وكل الخبرة التي جمعتها، أصبحَ في إمكاني تحسين حياة كثير من الناس".

المصدر.




مقالات مرتبطة