ما هي منطقة الراحة؟ وهل يجب علينا مغادرتها دائماً؟

لدي صديق يعمل في شركة تمتص طاقته، ويتعامل معه المدير بفوقية ويوكله بالكثير من المهام غير المتفق عليها، وفوق ذلك يعطيه راتباً لا يساوي ربع مجهوده فضلاً عن كونه يتكبد عناء الذهاب إلى العمل كل يوم في المواصلات العامة لساعتين من الزمن، وفي كل مرة نجلس معاً يشكو إليَّ عذاباته وضيقه، ولطالما سهرنا معاً نخط طلب استقالته التي سيرميها في وجه هذا الشخص المستغل، ليمزق صديقي الطلب كل صباح ويستقل المواصلات ذاهباً إلى عمله كأي يوم آخر.



وعندما أسأله "لماذا؟" يجيب بأنَّه ليست لديه القدرة ولا الطاقة للبحث عن عمل آخر وإجراء مقابلة العمل وإثبات جدارته في إنجاز المهام والتعرف إلى زملاء جدد وما إلى ذلك من تبعات الانتقال الجديد، فيرضى بواقعه ويغلق الأبواب في وجه التغيير، ويعود مرة أخرى إلى الصمت والتحمل لتنفد طاقته مرة أخرى بعد مدة ويخط طلب استقالة جديد يشهد مصرعه في الصباح التالي.

إنَّ ما يعاني منه صديقي هو الاستسلام لمنطقة الراحة؛ حيث كل شيء معتاد ومعروف وروتيني ومكرر، فلا بدايات جديدة؛ بل استقرار ودوران في المكان، فما هي منطقة الراحة؟ وهل يجب علينا مغادرتها دائماً؟ هذا ما سوف نخبركم به في هذا المقال.

ما هي منطقة الراحة؟

يمكن تعريف مفهوم منطقة الراحة (Comfort Zone) أو منطقة الأمان على أنَّها منطقة وهمية تدل على حالة نفسية يعيشها الفرد تشعره بالطمأنينة والرضى عن ذاته ومعلوماته وعلاقاته وعمله، فكل هذه الأشياء معتادة بالنسبة إليه ولا تطرأ عليها أيَّة تغيرات تقلقه، الأمر الذي يجعل حياته روتينية خالية من أيَّة تحديات ومحاولات للتحسين.

إنَّ منطقة الراحة تجعل الإنسان أقل عرضة للتطور؛ وذلك لأنَّ القواعد الحياتية تقول إنَّ التجارب تصقل شخصية الإنسان وتزيد من مهاراته، فتُعَدُّ منطقة الراحة عدوة التطور الإنساني؛ وذلك لأنَّ الإنسان يتعرض فيها كل يوم للأحداث ذاتها ولا يمر بتجارب جديدة، ومن ثمَّ لا يُضاف إلى رصيده أيَّة خبرات أو مهارات جديدة تسهم في رفع وعيه وزيادة إدراكه وتحسين قدراته.

إنَّ البقاء في منطقة الراحة لا يُعَدُّ من صفات الإنسان الذي يبحث دوماً عن الارتقاء بذاته وتطوير مهاراته، فهو يرى في البقاء ضمن منطقة الراحة حالة رضى مزيفة وركوداً واستسلاماً لا يقبل به، فنراه يزج نفسه في التحديات الجديدة ويضغط ذاته في التجارب ليخرج منها نسخة أكثر تطوراً ووعياً.

في مثال عن منطقة الراحة نطرح ما يأتي "يملك كل من ثائر ومنذر مبلغاً متساوياً من المال يدخرانه في مصرف يمنح أرباحاً قليلة، فيطرح ثائر على صديقه الاشتراك معه في مشروع يستثمران فيه رأسي مالهما، ويعده بأرباح جيدة إذا ما سارت الأمور على ما يرام، وثائر يفكر في تحسين وضعه المادي ويفكر في الاقتراض إذا ما رفض صديقه الفكرة ليبدأ بالمشروع، وهو بذلك يعرض نفسه لضيق مادي محتمل يستطيع التعايش معه سعياً نحو مستقبل أفضل، وإذا ما نجح مشروعه فإنَّه سيبدأ بحصد الأرباح فوراً.

أما منذر الذي رفض الدخول في المشروع والمغامرة برأس المال الذي يودعه في المصرف فإنَّه يفضل أن يبقى في مستواه المادي الذي يعيش فيه منذ بدئه بالعمل قبل خمسة أعوام، فإنَّ الوضع المادي الحالي وأسلوب الحياة لكل من منذر وثائر هو منطقة الراحة لكل منهما، ثائر الذي يعرِّض نفسه لتجارب جديدة قد تنجح وقد تفشل يكسر منطقة الراحة الخاصة به ويخرج منها، وإن لم يحقق الربح المادي الذي يرجوه فإنَّه بالتأكيد حصد خبرات حياتية ومعرفية لم ولن يحصل عليها منذر إذا ما بقي بالعقلية ذاتها التي تتجنب خوض التجارب وتفضل البقاء في دائرة الاعتياد ومنطقة الأمان".

بهذا المثال البسيط نستطيع توضيح مفهوم منطقة الأمان أو منطقة الراحة؛ فإنَّها حالة مستقرة من الشعور والسلوك يمثل الخروج منها اختبار مشاعر ومواقف جديدة تُضاف إلى رصيد خبرات المرء وتجاربه.

شاهد بالفديو: 20 طريقة بسيطة للخروج من منطقة راحتك

مغادرة منطقة الراحة:

تكثر الأقاويل والمقالات عن مغادرة منطقة الراحة، وعن عَدِّ البقاء فيها أمراً مذموماً، كونه يحرم المرء من لذة الإنجاز ويمنعه من تذوق معاني النجاح، ويعزز ذلك وجود منصات التواصل الاجتماعي ومدعي التحدث بإيجابية والتحفيز للآخرين، أولئك الذين يُشعرون بقصد أو بغير قصد من لا تسمح لهم ظروفهم الحالية بكسر القيود بأنَّهم كسالى ويستحقون ما هم فيه من نقص أو حرمان.

يصور "المؤثرون" على السوشيال ميديا لحظات نجاحهم ويرفقونها بعبارات الاجتهاد والسعي التي عنونت حياتهم حتى وصلوا إلى ما هم عليه الآن، حتى يشعر كل مشاهد لهم بأنَّه معدوم النفع وغير ذي جدوى، فيجلد نفسه كل يوم بسياط التأنيب على شيء لا يعرفه ولم يقترفه أصلاً، لكن لحظة واحدة! هل كل البشر على المستوى ذاته من الطموح؟ وهل كل البشر متساوون في المؤهلات والقدرات والفرص؟ ولماذا إذاً كل هذا التحفيز والسعي إلى أن تكون نجاحاتنا مستنسخة عن بعضنا بعضاً؟

إذا ما أردنا أن نكون منطقيين يجب علينا الإقرار بأنَّ البقاء في منطقة الراحة أمر إيجابي وسلبي في الوقت عينه، فإذا ما تساءلت كيف؟ فسأجيبك هل تناول الطعام سلوك إيجابي أم سلبي؟ ستجيب بأنَّه سلوك إيجابي في حال كان استجابة لحاجة الجسم الفيزيولوجية إلى الغذاء، وأنَّه سلوك إيجابي أيضاً في حال كان الطعام صحياً ومفيداً، ولكنَّه سيتحول إلى سلوك سلبي إذا ما كان أكلاً عاطفياً بوصفه تفريغاً لمشاعر أخرى غير الشعور بالجوع.

سيكون سلبياً أيضاً إذا ما كان الطعام المتناول غير صحي ومليئاً بالمواد المصنعة والحافظة أليس كذلك؟ الأمر عينه ينطبق على النوم وعلى الشرب وعلى أي شيء موجود في حياتنا، وعليه فإنَّ للخروج من منطقة الراحة فوائد سوف نستعرضها فيما يأتي.

إقرأ أيضاً: أثر النمو في حياتك

فوائد الخروج من منطقة الراحة:

إنَّ الخروج من منطقة الراحة يعني الانفتاح على عوالم جديدة، وعليه فإنَّ فوائد الخروج من منطقة الراحة تتجلى في مكتسبات مادية أو عاطفية أو معرفية يحصل عليها الإنسان لمجرد اتخاذه قرار المغادرة، وإنَّه وصول إلى نقاط أعمق في النفس، وإشعال للنور في زوايا معتمة من الفكر لم تكن لتضاء لولا هذه التجارب.

من يختار السفر يقتلع نفسه من جذوره الممتدة في مكانه ويذهب ليغرسها في مكان آخر، وهناك تتساوى احتمالات نموه وذبوله، ولكنَّه في كلتا الحالتين قد اكتسب كماً معرفياً وتجارب تحولت إلى دروس وخبرات لن يدركها أبداً مَن فضَّل البقاء في مكانه، ومن لم يعرِّض جذوره للهواء يوماً.

إنَّ فوائد الخروج من منطقة الراحة هي زيادة رصيد الإنسان من التجارب والخبرات والمعارف ورفع مستواه في الإدراك، وقد ينجم عن هذا الخروج أيضاً فوائد مادية واجتماعية لا يمكن إنكارها، لكن هل يجب علينا مغادرة منطقة الراحة دائماً؟

إقرأ أيضاً: 10 طرق للتغلب على الخوف والخروج من منطقة راحتك

هل يجب علينا مغادرة منطقة الراحة دائماً؟

لقد تحدَّثنا آنفاً عن الدور الذي تؤديه وسائل التواصل الاجتماعي في التأثير في أفكارنا التي دون أن نعي تجعلنا نتبنى أهدافاً غير أهدافنا، وننوط السعادة بتحقيق أشياء لا تسعدنا من الداخل أكثر ما يسعدنا استعراضها أمام الآخرين، وعليه فإنَّه يبدو بالنسبة إلى الكثيرين أنَّ السفر والعمل في أوروبا يعني السعادة والفوز العظيم، ولكنَّ قسماً من الناس يحبون بيوتهم وأعمالهم في أوطانهم ولا يحبون المناخات الباردة في أوروبا، فهل يُعَدُّ بقاؤهم حيث يحبون بقاءً في منطقة الراحة وكسلاً؟

لنشبه الأمر بسباق للجري، بعض الناس لديهم مهارة الجري ورغبة في تحقيق الأرقام القياسية في هذا المجال، الأمر الذي يجعل فوزهم في أحد السباقات مصدر سعادة لهم، فهل يعني هذا أنَّ كل الناس يجب أن يفوزوا بسباق الجري ليشعروا بالسعادة؟ بالطبع لا.

إنَّ الطموح يفرض على أولئك العدَّائين تحقيق رقم قياسي أعلى، فيبذلون جهدهم لتحقيقه ليشعروا بالسعادة مرة أخرى ويستلذوا بها برهة من الزمن ريثما يرسمون لأنفسهم هدفاً آخر، وهذا بالتأكيد لا يعني أنَّ الأشخاص الميالين إلى الحياة الوادعة البسيطة ليسوا سعداء، فإنَّ كل إنسان على هذه الأرض يتذوق السعادة من منظوره الخاص ويبحث عنها بطريقته، وبعضهم يرى أن يجوب العالم هو قمة السعادة، وبعضهم الآخر يراها في بيت ريفي ومزرعة تغنيه عن شراء أيَّة حاجة من السوق.

إنَّ الخروج من منطقة الراحة أمر اختياري بحت، ولكنَّ المواهب الدفينة التي تبقى حبيسة كسل صاحبها أمر محزن، ومما لا شك فيه أنَّ الخروج من دائرة الراحة يفتح أمام الإنسان آفاقاً جديدة، ولكنَّ البقاء فيها يساعده على أن يحيا حياة بطيئة تمكِّنه من الشعور بلذة كل فعل وحميمية كل علاقة في ظل التسارع والسباق المحموم مع الزمن، وقد يصل الإنسان إلى منطقة الراحة الخاصة به بعد جهد جهيد وعناء استمر لسنوات، فهل يجب عليه أن يغادرها بحثاً عن الأفضل لمجرد المغادرة ونفي صفة الركود والكسل؟

إنَّ مغادرة منطقة الراحة واجب حتمي إذا لم يكن الإنسان سعيداً، فلا يجب أن يقنع بتعاسته وشقائه، أما إذا ما كانت منطقة الراحة هي الحياة المنشودة للمرء - بصرف النظر عما يراه الآخرون - فمن المنطقي أن يعيش داخلها بسلام وقناعة، فليس علينا مغادرة منطقة الراحة فقط لمجرد المغادرة، وليس العيش بقلق وتوجس هو غاية الحياة.

شاهد بالفديو: 7 نصائح للتطوير الشخصي وتحقيق النمو المستمر

في الختام:

قد تكون وظيفة براتب مقبول وأسرة دافئة ومنزل صغير هي الحلم الذي يطمح لأجله الكثير من الناس، وقد تكون الأشياء عينها سجناً لقسم كبير منهم، فإنَّ مفهوم منطقة الراحة متباين بين الناس، ولكنَّ جوهر الأمر أن يسعى الإنسان إلى تحقيق الراحة التي ينشدها، فإن كان قانعاً بما لديه فليعش بهناء بعيداً عن آراء الآخرين، وإن كان ما ينشده يتطلب التخلي عن منطقة الراحة خاصته فهنا يجب عليه النهوض والسعي ليصل إلى ما يصبو إليه.




مقالات مرتبطة