ما هي آليات عمل العقل عند بني البشر؟
يقول خبراء علم النفس إنَّ البشر يملكون آليتين للتفكير؛ تتصف الأولى بأنَّها عاطفية وعفوية وسريعة، فيما تكون الثانية على نقيضها تعتمد على العمليات الفكرية والعقلية؛ وهي آلية بعيدة كل البعد عن العواطف والمشاعر، ولكنَّها تتسم بالبطء؛ فهي عملية تراكمية قد تستمر لفترات طويلة جداً.
تتفق مدارس علم النفس في أنَّ الدماغ البشري كسول بطبعه؛ فهو دائماً يختار الطرق القصيرة أو المباشرة ويبتعد كل البعد عن الطرق المعقدة أو الطويلة أو المتعبة؛ وبذلك فهو يميل إلى استخدام الآلية الأولى العفوية في أغلب الحالات؛ وذلك لأنَّها قصيرة وسريعة وسهلة؛ لذلك يَعُدُّها خبراء علم النفس آلية بدائية، فيما يَعُدُّون الآلية الثانية المعتمدة على التفكير المنطقي آلية متطورة في التفكير البشري؛ لا بل توجد بعض مدارس علم النفس التي تكون فيها الآلية الثانية ميزة يمتلكها العقل البشري وتميِّزه عن غيره من الكائنات الحية.
لذلك واستناداً إلى ما سبق؛ يلجأ المتلاعبون بعقول البشر إلى استغلال الآلية الأولى بحكم أنَّها مفضَّلة لدى الأغلبية المطلقة من الناس، فلا شيء يمكن أن يغلب العقل أكثر من العاطفة.
أهم مثال يجسِّد فكرة التلاعب بالعقول وغسيل الدماغ:
إنَّ أهم وأوضح مثال يمكن أن نشرح من خلاله مصطلح غسيل الدماغ هو ما نراه جميعاً من ممارسات وأفكار وقوانين الأنظمة الشمولية، والتي تتصف بالديكتاتورية القمعية البعيدة كل البعد عن احترام الرأي الآخر، وعن المشاركة في الحكم وفصل السلطات، وتفعيل المحاسبة الحقيقية والعادلة.
إنَّ أشهر ما يمكن أن نذكره من أحداث تاريخية تجسَّد فيها غسيل الدماغ هو الحكم النازي لألمانيا؛ إذ يُجمِع خبراء علم النفس على أنَّ الشعب الألماني قد خضع في ذلك الوقت إلى أكبر عملية غسيل دماغ ممنهجة في التاريخ؛ إذ انساق ملايين الألمان وراء حلم السيطرة على العالم، لا بل صدَّقوا أنَّهم أشخاص يملكون قدرات أكثر من غيرهم من بني البشر؛ وذلك فقط لمجرد انتمائهم إلى عِرقٍ معيَّن وهو العرق الآري؛ وبذلك تكون عليهم مسؤولية كبيرة في حكم العالم.
ما هو حجر الأساس في عملية غسيل الدماغ الجماعية؟
إنَّ أهم خطوة في عملية غسيل الدماغ هي التركيز في القواعد أي الأطفال؛ والتي رأينا الكثير من تجلياتها على أرض الواقع في العديد من الأنظمة الشمولية، مثل الحكم النازي في ألمانيا الذي كان واضحاً وجلياً تجنيده للأطفال في معسكرات خاصة بهم يتلقون بها عملية غسيل دماغ كاملة؛ وذلك من خلال زرع أفكار الحزب النازي العنصرية والسياسية، ووضع الوفاء للفوهرر "أدولف هتلر" وحتى الموت من أجله على قائمة أهداف هؤلاء الأطفال.
لماذا يُركَّز في الأطفال في عملية غسيل الدماغ؟
- إنَّ غسيل الدماغ أسهل ما يكون على الأطفال؛ وذلك بسبب بنيتهم العقلية الهشة نوعاً ما، والتي تكون في طور النمو ولم تتبلور توجهاتهم بعد.
- يتَّسم دماغ الطفل بمرونة نفسية وعقلية تجعله قادراً على تقبُّل أيَّة فكرة أو تبنيها في حال أُرفِقَت مع بعض الاهتمام العاطفي والمادي والحسي.
- ما يُسهِّل غسيل الدماغ عند الطفل هو حاجته الفطرية والتطورية إلى وجود شخص كبير يرشده ويحميه ويقدم له المعلومات.
- طريقة تقبُّل الطفل للمعلومات المعطاة إليه هي طريقة استقبال صافية غير خاضعة إلى أي فلتر؛ إذ إنَّ دماغ الطفل لا يقوم بأيَّة عملية تنقية للأفكار والمعلومات التي يتلقاها؛ لأنَّه لم يكتسب بعد معلومات كافية ليقارنها فيما سبق.
- يلجأ المشرفون على عمليات غسيل الدماغ إلى الأطفال بسبب عدم امتلاكهم لآليات المحاكمة العقلية التي يفلترون من خلالها الأفكار والمعلومات التي يتلقونها إلى معلومات خاطئة أو صحيحة، وإلى أفكار مفيدة أو غير مفيدة.
- إنَّ تطبيق عمليات أو منهجيات غسيل الدماغ على الأطفال هي عملية لا تقتصر ميزاتها على السهولة؛ بل أيضاً تتمتع بديمومة واستمرارية؛ إذ تضمن الجهات المستفيدة استمرار هذه الأفكار في عقول الأطفال إلى أن يصبحوا شباباً ومن ثم رجالاً.
- بيَّنت الدراسات الحديثة أنَّه من الصعب جداً على الأطفال - الذين تربوا تربية صارمة جداً على أفكار ومعتقدات معينة - أن يغيروا أو ينكروا في المستقبل ما تربوا عليه؛ وذلك لأنَّ الإنسان بعد مرحلة عمرية معينة يفقد قدرته على تغيير نفسه.
شاهد بالفديو: 10 حقائق قد لاتعرفها عن العقل البشري
ما هي العوامل المساعدة في عمليات غسيل الدماغ والتلاعب بالعقول؟
1. الانغلاق:
إنَّ البيئة الخصبة والمناسبة لغسيل الأدمغة هي البيئة المنغلقة، والتي ترفض أي جديد أو في معزل عن أي جديد، وكل شيء فيها خاضع لنظام دقيق من مراقبة ومحاسبة الحكومة لأي شيء جديد يدخل إلى المجتمع.
2. الحالة الاقتصادية المتدنية:
عندما تصبح المعدة فارغة لن يبقى أي مكان للفكر والعقل والوعي والثقافة؛ وذلك لأنَّها ستصبح في عيون عامة الناس هراءً؛ وهذا حقهم الطبيعي فلا شيء في الحياة له أهمية عندما يفقد الإنسان قدرته على تأمين لقمة العيش لنفسه ولأطفاله؛ لذا تلجأ الحكومات إلى إفقار الشعوب وجعل همومها مقتصرة على الركض وراء رغيف الخبز.
3. الحالة التعليمية:
إنَّ الجهل هو أكثر مصائب الشعوب فتكاً وتدميراً؛ وذلك لأنَّه يجعلها تدمِّر نفسها وقدراتها وتخرِّب ما لديها من مقومات بأيدي أبنائها؛ ظناً منهم أنَّهم بذلك يفعلون أموراً مفيدة، ولا يمكن إنكار حقيقة أنَّ الجاهل يمكن أن يخضع إلى عمليات غسيل الدماغ بطريقة أكثر سهولة وسرعة.
4. السيطرة على جميع وسائل الإعلام:
لوسائل الإعلام دور محوري في تشكيل ثقافة ووعي وأيديولوجية الإنسان، وخصوصاً في الفترة التي سبقت اكتساح وسائل التواصل الاجتماعي، وعندما تسيطر جهة واحدة فقط على وسائل الإعلام هذه وتبث أفكاراً ذات غاية معينة، مع منع أيَّة وسيلة إعلامية تحمل فكراً مغايراً، فمن الطبيعي أن نجد مجتمعات كاملة لها رأي واحد وطريقة تفكير واحدة؛ وهذا تجلِّي واضح لدور وسائل الإعلام في غسيل الدماغ والتلاعب بالعقول.
ما هي الوسائل التي يستطيع من خلالها الإنسان تجنُّب عمليات غسيل الدماغ؟
- يُعَدُّ التسلُّح بالعلم والمعرفة الوسيلة الأهم في محاربة ومنع أيَّة محاولة لنسف ما نؤمن به ونعتقد به من مبادئ وقيم.
- تعويد النفس دائماً على التفكير بشكل منطقي، وعدم فعل أي شيء دون أن تسأل نفسك: لماذا أفعل أنا هذا الأمر؟ وما هي الفائدة التي سأجنيها في النهاية؟
- يجب على الإنسان أن يكون حذراً من الأفكار والمعلومات التي يستقبلها في وسائل الإعلام، وعليه أن يُخضِعها إلى محاكمة عقلية صارمة؛ إذ يختار الأفكار المفيدة ويرمي الأفكار الضارة.
- تربية الأطفال على عدم القيام بأي فعل دون وجود مبرر منطقي له أو فائدة ولو كانت بسيطة، وعدم تربيتهم على مبدأ "نفِّذ ثم اعترض" أو "يجب أن تفعل هذا الشيء لأني أمرتك بذلك".
- تعلَّم لغة ثانية إلى جانب لغتك الأم؛ وذلك لأنَّ اللغة تفتح لك باباً واسعاً من أبواب العلم والمعرفة المختلفة، وتدفعك نحو الانفتاح على ثقافات جديدة تستفيد منها الكثير، وتُكسبك القدرة على البحث عن وسائل معرفة غير خاضعة إلى عمليات الأدلجة وغسيل الدماغ.
شاهد بالفديو: كيف تمتلك مهارة الإقناع والتأثير في الآخرين
هل ساهمت وسائل التواصل الاجتماعي في السيطرة على غسيل الدماغ أم زادت من حدته؟
في الحقيقة يوجد الكثير من الآراء المتناقضة حيال هذا الموضوع؛ إذ يعتقد بعض الأشخاص أنَّ وسائل التواصل الاجتماعي قد زادت من أساليب وطرائق الأشخاص أو الجهات التي تريد غسيل الدماغ؛ مثل المنظمات الإرهابية والتخريبية على سبيل المثال.
يوجد رأي آخر يظنون خلاف ذلك تماماً؛ إذ يظنون أنَّ وسائل التواصل الاجتماعي قد أتاحت كماً كبيراً ومتنوعاً من الأفكار والمعلومات والفلسفات والتوجُّهات والنظريات وطرائق التفكير وأساليب العيش؛ وهذا جعلَ الإنسان ينفتح على الكثير من الأفكار الجديدة ويتقبَّل الاختلاف بشكل أفضل، وأصبحت لديه الحرية في اختيار ما يناسبه من الأفكار أو التوجهات أو أساليب الحياة بكل حرية، وهذا ما لم يكُن متاحاً في وسائل الإعلام التقليدية من قنوات تلفزيونية وكتب وجرائد تحتاج إلى إمكانات مادية كبيرة جداً لإنشائها، ومن ثم تخضع أفكارها إلى مصالح وأفكار الجهة المموِّلة، بخلاف وسائل التواصل الاجتماعي التي لا يحتاج صاحبها إلى أي مال من أجل إنشاء حساب والبدء باستخدامها لنشر أفكاره التي يؤمن بها.
لا تنتهي الآراء عند هذا الحد؛ فمنهم مَن يرى أنَّ وسائل التواصل هذه، جعلت من الإنسان حائراً من كثرة ما لديه من خيارات لم يعتد عليها من قبل؛ مما ساهم في ازدياد التردد حيال ما يريد اتِّخاذه من قرارات هامة في حياته.
في الختام:
يوجد في الحياة الكثير من الأفكار والآراء والاتجاهات الدينية والاقتصادية والسياسية، وكلها تمجِّد ذاتها وتدَّعي امتلاك الصواب الحق، وتلصق بالآخرين صفة غسيل الدماغ، حتى أضحى هذا المصطلح يُستخدم للتهكم والسخرية من الآخر الذي لا يوافقنا الرأي والتوجهات، ولكنَّ ما يمكن أن نستفيده من هذا المقال هو ألَّا نكون مصدقين لأيَّة معلومة أو فكرة تُقال لنا مهما كان أصحابها أشخاصاً صالحين، فحتى الإنسان الجيد من الممكن أن يتعرَّض إلى الخداع أو غسيل الدماغ أو التلاعب العقلي بشكل أو بآخر.
أضف تعليقاً