ما هي أسباب الاحتراق الوظيفي؟

يواصل مسار الاحتراق الوظيفي - وفقاً للعديد من الدراسات الاستقصائية - الارتفاع؛ حيث يشعر الموظفون بالإرهاق العاطفي، والانفصال عن عملهم وزملائهم، ويصبحون أقل إنتاجية وفاعلية، وهذا ما يجعلهم أكثر عرضة للمعاناة من العواقب الصحية، والحاجة إلى إجازات مَرَضية، وترك وظائفهم.



ليس من المستغرب أن يصبح الاحتراق الوظيفي أكثر انتشاراً خلال الجائحة، ولا سيَّما بين العاملين في مجال الرعاية الصحية؛ مما يسبب قلقاً عارماً، ولكن في حين أنَّ العديد من أرباب العمل يدركون المشكلة، إلا أنَّهم في الكثير من الأحيان لا يعترفون بالحلول.

توضح الصحفية "جنيفر موس" (Jennifer Moss)، مؤلِّفة الكتاب الجديد "وباء الاحتراق الوظيفي: ارتفاع الإجهاد المزمن وكيفية إصلاحه" (The Burnout Epidemic: The Rise of Chronic Stress and How We Can Fix It) أنَّ أرباب العمل بحاجة إلى التوقف عن إلقاء اللوم على الموظفين لعدم المرونة الكافية، وأن يُغيروا بدلاً من ذلك سياسات وثقافات مكان العمل التي تؤدي إلى الاحتراق الوظيفي قبل كل شيء.

تقول "جينيفر": "إذا كنتَ تريد معالجة مشكلة الاحتراق الوظيفي، فإنَّ الخطوة الأولى هي تكرار واستيعاب هذا الشعار: "الاحتراق الوظيفي يتعلق بالمؤسسة، وليس بالأشخاص".

يمكن أن تساعد ممارسة "اليوغا" (Yoga)، والحصول على إجازة، وتقنيات الحفاظ على العافية، والتأمل، الأشخاص على الشعور بأنَّهم أكثر صحة وتحسناً، ولكن عندما يتعلق الأمر بتجنب الاحتراق الوظيفي، فإنَّ الإيحاء بأنَّ هذه الأدوات هي العلاج أمر خطير".

يناقش كتابها أيضاً إمكان معالجة الاحتراق الوظيفي بشكل أفضل إذا تعرفنا إلى علاماته، وفهمنا أسبابه، واتخذنا الخطوات لمكافحته من جذوره، ولن يكون في إمكاننا تحسين وضع العمل، وجعله منتجاً وممتعاً إلا من خلال القيام بذلك، كما كان مقدراً له أن يكون.

ما هي الأمور التي ينبغي للمؤسسات القيام بها؟

يمكن أن يساعد فهم أسباب الاحتراق الوظيفي المؤسسات على مواءمة سياساتها بشكل أفضل مع احتياجات القوى العاملة لديها، ولكن في الكثير من الأحيان، يحاول أرباب العمل تقديم حلول بسيطة دون تغيير أي شيء جوهري.

على سبيل المثال: يمكن أن يؤدي منح الموظفين امتيازات في موقع العمل مثل الوجبات المجانية وغرف التمرين، إلى نتائج عكسية، كما تقول "موس"؛ حيث سيبقى الموظفون لفترة طويلة في العمل، ويفتقدون خلالها متعة وفائدة أن يكونوا مع عائلاتهم وأصدقائهم.

لا يقدِّم توفير الوقت الطويل وغير المحدود للإجازة أيَّة فائدة إذا شعر الموظفون أنَّهم غير قادرين على استثماره بشكل جيد، أو الأسوأ من ذلك، هو العودة إلى الأعمال المتراكمة الضخمة بعد تلك الإجازة، ويمكن أن يصبح بناء الفريق القسري، أو حفلات الأعياد التي تهدف إلى بناء روابط اجتماعية في العمل ضغطاً إضافياً أيضاً إذا كانت تستهلك الوقت الشخصي للموظف.

تفشل بعض محاولات أرباب العمل في منع الاحتراق الوظيفي؛ وذلك لأنَّها تكون مجرد تغطية لمشكلة أكبر، أو لأنَّ الموظفين يعتقدون أنَّ رؤساءهم لا يهتمون برفاهية العمال بقدر اهتمامهم بالإنتاجية، ولمواجهة ذلك، يجب على القادة التنظيميين الاستماع لموظفيهم وفهم وضعهم قبل تنفيذ البرامج المصممة للمساعدة، كما تقول الصحفية "موس".

إقرأ أيضاً: علامات تدل على الإصابة بمتلازمة الاحتراق النفسي المهني

ما هي أسباب الاحتراق الوظيفي، وكيف نستطيع حلَّها أو إصلاحها؟

تبحث الصحفية "موس" في كتابها بحثاً عميقاً ودقيقاً لتوضيح ما هو جوهر وأساس الاحتراق الوظيفي؛ حيث كتبت قائلة: "الاحتراق الوظيفي هو مجموعة معقدة من الممارسات والسياسات السيئة في مكان العمل، والموروثات المؤسسية البالية، والمناصب والشخصيات المعرضة لخطر أكبر، والنظام والقضايا المجتمعية التي لم تتغير، والتي عانيتُ منها أنا لفترة طويلة جداً".

يجب أن تكون هناك مقومات أساسية لكي يزدهر الموظفون في العمل، وهذا ما تسميه "موس" بـ "البيئة النظيفة الجيدة" (good hygiene)، ويشمل هذا دفع ما يستحقه الموظفون في الوقت المحدد، والتأكد من أنَّهم آمنون بدنياً وذهنياً، وتوفير الأدوات والموارد التي يحتاجونها للقيام بعملهم.

تقول "موس" علاوة على ذلك، هناك ستة أسباب رئيسة تؤدي إلى الاحتراق الوظيفي للناس، كل واحد منها لديه حل محتمل في مكان العمل:

1. عبء العمل:

يُعَدَّ الإفراط في العمل السبب الرئيس للاحتراق الوظيفي، فالعمل لساعات طويلة جداً هو المسؤول عن وفاة الملايين من الموظفين كل عام؛ على الأرجح لأنَّ الإفراط في العمل يجعل الموظفين يعانون من فقدان الوزن، وآلام الجسم، والإرهاق، وارتفاع مستويات الكورتيزول، وفقدان القدرة على النوم، وأكثر من ذلك.

بيد أنَّ تشجيع الموظفين على رفض الإفراط في العمل كما تقول "موس" قد يأتي بنتائج عكسية، فقد يدركون أنَّ العمل بقدرٍ قليل يمكن أن يُفسَّر بعدم إظهار المبادرة وعدم إحراز التقدم في العمل، وقد يُعاقَب الموظف على ذلك بشكل رسمي أو غير رسمي.

ولكن بدلاً من ذلك، يحتاج أرباب العمل إلى تقديم المساعدة على تحديد الأهداف ذات الأولوية المنخفضة لموظفيهم؛ وذلك حتى لا يندفع الموظفون بشدة لتحقيق أهداف ليست عاجلة، ومطابقة نقاط قوة الموظفين مع واجباتهم الوظيفية، وتقديم المزيد من الدعم عندما تتغير الاحتياجات فجأة، وأن يكون لديهم خطوط تواصل مفتوحة وآمنة؛ حيث يُشجَّع تقديم التغذية الراجعة ويمكنهم حتى الاعتراف بالأخطاء.

كما تقترح "موس" أشياء مثل تنفيذ أسبوع عمل من أربعة أيام، وتشجيع استراحات المشي المتكررة، وإلغاء "غداءات العمل" للمساعدة على تقليل أعباء العمل.

إقرأ أيضاً: 6 نصائح لتوفير الوقت وتنظيم عبء العمل

2. الافتقار الملحوظ إلى السيطرة:

تُبيِّن الدراسات أنَّ الاستقلالية في العمل هامة للسلامة العامة، وأنَّ خضوع الموظفين لإدارة تفصيلية أمر غير محفز بالنسبة إليهم، ومع ذلك، فإنَّ العديد من أرباب العمل يفضلون مراقبة كل تحركات موظفيهم، أو التحكم بجدول عملهم، أو معاقبتهم على الأخطاء.

ولكن بدلاً من ذلك، كما تقول "موس"، من الهام مساعدة الموظفين على الشعور بالاستقلالية من خلال التراجع إلى الوراء والعمل بصفتك كوتشاً، وبالتأكيد، من المفيد أن توظِّف أشخاصاً يتمتعون بالمهارات المناسبة في الدرجة الأولى، لكن يمكنك أيضاً زيادة الاستقلالية من خلال دعوة الموظفين لطرح الأسئلة والتعبير عن احتياجاتهم، والسماح للأشخاص بتحديد جداولهم الزمنية وأهدافهم، وتشجيع الموظفين على إيجاد المعنى والهدف من وظائفهم.

3. الافتقار إلى المكافأة والتقدير:

يُعَدُّ دفع الراتب المُستحَق للموظف طريقة هامة لمكافأته على عمله، وكذلك التواصل مع الموظفين وإبلاغهم بأهمية جهودهم المبذولة؛ حيث تقول "موس": "عندما لا نُقدِّر بعضنا بعضاً، بصفتنا أقراناً وقادة على حد سواء، نفقد إحساسنا بقيمة رسالة المنظمة ونتوقف عن الشعور بالرضا عن أنفسنا".

بالطبع، يجب أن تكون المكافآت والتقدير حقيقة وليست مزيفة أو مخادعة، وفي حين أنَّه من الهام التعبير عن التقدير للعمل الجيد، إلا أنَّه من الهام أيضاً تجنُّب تحريض الموظفين على بعضهم بعضاً أو تقدير أشخاص معينين فقط؛ لذا تحذِّر "موس" أرباب العمل من تنفيذ برامج التعرف إلى الموظفين التي تميز جزءاً من الفريق على الآخر.

حيث تغرس هذه الأمور الغيرة أو الغضب إذا شعر الموظفون بالإهمال أو اعتقدوا أنَّ الجوائز يتلقاها أشخاصٌ لا يستحقونها؛ لذا تقترح "موس" تعبير القيادة العليا والموظفين عن امتنانهم تجاه بعضهم ليس فقط لتحقيق أهداف العمل، ولكن لإظهار التعاطف والاهتمام بالزملاء أيضاً.

4. العلاقات الضعيفة أو السيئة:

يُعَدُّ الشعور بالانتماء أمراً ضرورياً للصحة الذهنية والسلامة، وهذا صحيح في العمل بقدر ما هو صحيح في الحياة، فعندما يشعر الموظفون بأنَّهم جزء من المجتمع، فمن المرجح أن يزدهروا، فكما وجد استطلاع أجرته "مؤسسة غالوب" (Gallup poll)، فإنَّ وجود روابط اجتماعية في العمل أمر هام.

حيث كتب مُعِدُّو الاستطلاع: "يُظهر الموظفون الذين لديهم أصدقاء مقربين في العمل مستويات أعلى بكثير من إدارة التوتر الصحي، على الرغم من أنَّهم يعانون من مستويات التوتر نفسها".

وبطبيعة الحال، فإنَّ العكس هو الصحيح أيضاً، فالعلاقات السيئة في العمل يمكن أن تؤدي إلى الاحتراق الوظيفي، لهذا السبب تقترح "موس" أن يولي أرباب العمل اهتماماً للاحتياجات الاجتماعية ويمنحوا الموظفين مساحات يمكنهم فيها التواصل مع زملائهم في موضوعات غير متعلقة بالعمل، كما أنَّ تشجيع العمل التطوعي وبناء ثقافات أكثر شمولاً تكون أقل تنافسية وأكثر تعاوناً هما أمران مفيدان أيضاً.

5. انعدام الإنصاف في العمل:

تقول "موس": "تشمل المعاملة غير العادلة التحيز، والمحسوبية، وسوء المعاملة من قِبل زميل العمل أو المشرف، والتعويض غير العادل و/ أو سياسات الشركات"، فعندما يُعامَل الموظفون ظلماً، فمن المرجح أن يصلوا إلى مرحلة الاحتراق الوظيفي ويحتاجوا بذلك إلى إجازات مَرَضية أكثر.

وتقترح أنَّ المنظمات بحاجة إلى آليات لتقديم الشكاوى، والاستجابة لكل شكوى، والعمل على الفور لحل المشكلات، وعلى العكس من ذلك، فلا بد أن يتفاقم الاستياء وينمو، وبالإضافة إلى ذلك، يجب القضاء على المعاملة غير العادلة بسبب التحيز العنصري أو القائم على الجنس؛ وذلك لأنَّ التمييز يعزز فرصة الاحتراق الوظيفي تعزيزاً كبيراً.

6. عدم تطابق القيم:

كتبَت "موس": "إنَّ توظيف شخص لا تتوافق قيمه وأهدافه مع قيم وأهداف ثقافة المؤسسة، فقد يؤدي إلى انخفاض الرضا الوظيفي ويؤثر سلباً في الصحة الذهنية"، فمن المحتمل أن يكون الموظف الذي لا يشارك في مهمة المؤسسة غير سعيد وغير منتج أيضاً.

يمكن تجنُّب عدم تطابق القيم من خلال عملية التوظيف، ولكن يمكن أن يصاب الموظفون أيضاً بخيبة أمل إذا لم تدافع المؤسسة عن قيمها الخاصة؛ مما يؤدي إلى الإضراب، فالمؤسسات التي تهتم بالقيم اهتماماً واضحاً وتسعى جاهدة إلى تحقيق رسالتها من المرجح أن تضم موظفين راضين عنها وعن عملهم.

شاهد بالفديو: ارشادات لتجنب التوتر الناجم عن العمل

ما هو دور الأفراد في الاحتراق الوظيفي؟

في حين يمكن للمنظمات أن تفعل الكثير لمنع الاحتراق الوظيفي من خلال وضع سياسات نوعية ومراعاة سياسات مكان العمل وتحسين ثقافة مكان العمل، فإنَّ للموظفين دوراً يقومون به أيضاً؛ حيث إنَّ فهم السبب وراء ما يجعلك تعاني من الاحتراق الوظيفي ومحاولة تخفيفه أمرٌ هامٌ من شأنه أن يحافظ على سعادتك وراحتك في العمل.

فقد كتبت "موس" أنَّ بعض الموظفين الذين لديهم سمات شخصية معينة أو مسارات وظيفية قد يعانون من الاحتراق الوظيفي بسهولة أكبر، على سبيل المثال: أولئك الذين لديهم مستويات أعلى من العصابية؛ أي القلق المفرط، والأخلاق خاصةً إذا أدَّت إلى المثالية، فهي مشكلة محتملة، والانطواء في مكتب اجتماعي للغاية قد يكونون عرضة وخاصةً للاحتراق الوظيفي.

كما أنَّ العاملين في مجال الرعاية الصحية والمعلمين لديهم مستويات أعلى من الاحتراق الوظيفي مقارنة بالمهن الأخرى، كما تقول "موس"؛ وذلك بسبب طبيعة عملهم وأنواع الشخصيات التي تنجذب إلى تلك الوظائف، وقد زادت ضغوطاتهم المحتملة منذ بداية الجائحة؛ حيث سارع المعلِّمون للانتقال إلى التدريس عن بُعد، وشهد المهنيون الصحيون معاناة متزايدة ووفيات جراء جائحة كوفيد-19 (COVID-19).

توصي "موس" لمساعدة الموظفين على القيام بما في وسعهم للحد من الاحتراق الوظيفي، برفض الأشياء غير الضرورية للقيام بالعمل، دون خوف من تفويت الفرص أو خيبة أمل الآخرين، وتقترح أيضاً القيام بالمزيد من الأعمال التي تجيدها والتخفيف من الأعمال التي تستنزفك، ربما تخطِّي اجتماع على منصة "زووم" (Zoom) مع أشخاص عدة والتحدث إلى شخص تحتاج إلى التحدث معه بدلاً من ذلك، وتؤكد أهمية وجود أصدقاء – في العمل وخارجه – حيث يمكن الاعتماد عليهم عندما تكون الأوقات صعبة.

تقول "موس": "نحن بحاجة إلى ملاحظة الأدوار التي نؤديها واللحظات الثمينة بالنسبة إلينا، وبحاجة أيضاً إلى أن يعتني بنا الآخرون وأن يحمونا من الأسوأ".

إنَّ تغيير الثقافات المؤسساتية لتكون مدفوعة بالأهداف، والتعامل اللطيف، ومكافأة الموظفين لا بد أن يساعد على منع الاحتراق الوظيفي، ويمكن لقادة المؤسسات التأكد من أنَّهم يدعمون رفاهية الموظفين ولا يعوقونها؛ وذلك من خلال إيقاف الإفراط في العمل، والتواصل مع القيم المؤسساتية، وتعزيز الروابط الاجتماعية، وأن تكون أكثر عدلاً، وأكثر تقديراً، وأقل سيطرة.

كتبت "موس": "على الرغم من أنَّ الموظفين هم المسؤولون في النهاية عن سعادتهم، فإنَّ مسؤوليتنا هي توفير الظروف التي تدعم سعادتهم ولا تنتقص منها".

المصدر




مقالات مرتبطة