ملاحظة: هذا المقال مأخوذ عن تجربة شخصية للكاتبة جيل سوتي (JILL SUTTIE) والتي تُحدِّثنا فيه عن تجربتها في إظهار التعاطف في مكان العمل.
ما زلت أتذكَّر الشعور الذي انتابني عندما توجب عليَّ إخبار مديرتي في العمل بأنَّني حامل؛ كانت للتو قد عينتني لأعمل في الشركة، وكنت واثقة أنَّ ذلك سيثير استياءها ويخيب أملها، وفكرت أنَّها - على الأرجح - ستطردني من عملي.
لكن عندما أَنبأتُها بخبر حملي وأعربتُ عن مخاوفي حيال أخذ إجازة، طمأنتني؛ إذ إنَّها لم تكن غاضبة، وأكدت على حقي في أخذ إجازة وعملت معي لجعل إجراءات النقل أكثر سلاسة.
جعلتني استجابتها المتعاطفة أشعر بأنَّها تكترث حقاً لأمري، وبعد مرور كل تلك السنوات ما زلت أفكر بأنَّها أفضل مديرة حظيت بها على الإطلاق.
هذا النوع من التفاعل هو ما تأمل عالمتا النفس التنظيمي مونيكا وورلاين (Monika Worline) وجاين داتون (Jane Dutton) أن تَحُثَّا على القيام به في كتابهما الجديد "إيقاظ التعاطف في العمل" (Awakening Compassion at Work)؛ يشير الكتاب إلى أنَّ المنظمات وشركات الأعمال تكون في أفضل حالاتها، عندما تبدي اهتماماً بالحاجات العاطفية للعاملين لديها وتُظهِر تعاطفها معهم.
لماذا نحتاج إلى التعاطف في العمل؟
بحسب استطلاع لآراء العمال، فإنَّ المعاناة منتشرة بشدة في بيئات العمل؛ حيث يشعر الموظفون غالباً بعدم الانتماء، ولا يؤمنون بتقدير مشرفيهم لمواهبهم ومهاراتهم، أو فهمهم الصعوبات التي تعترضهم كموظفين في أثناء أداء عملهم، أو اكتراثهم بمعاناتهم الشخصية.
إضافة إلى ذلك، تؤدي النكبات الشخصية - كفقدانِ الأحبة والطلاق والمشكلات الصحية - إلى اضطرابات عاطفية تمتد تداعياتها إلى مكان العمل من خلال تأثيرها على الأداء.
ولكن ما زال العديد من العاملين يشيرون إلى التزام مديريهم الصمت وعدم اكتراثهم لما يعانونه؛ ويعود السبب في ذلك ربَّما إلى اعتقادهم أنَّه يجب الفصل بين الحياة المهنية والحياة الشخصية، أو لخوفهم من أنَّ عرضهم للمساعدة قد يكون أمراً غير صائب.
إنَّ هذا النهج خاطئ تماماً، بحسب وورلاين وداتون، اللَّتَين تشيران إلى تزايد الأبحاث التي تؤكد أنَّ الاهتمام بمعاناة الموظفين في بيئة العمل لا يعوق عمل المنظمة؛ بل يساعدها على الازدهار والنمو؛ حيث إنَّ إبداء التعاطف مع معاناة الموظفين، يؤدي إلى تحسين أدائهم وتعزيز ولائهم، كما يخلق أجواءً آمنةً للتعلم والتعاون والابتكار، والتي تؤثر جميعها في النتائج النهائية.
وذلك نظراً لقدرة كل منها على تعزيز الإمكانات الجماعية، مثل الابتكار وجودة الخدمة والتعاون والقدرة على التكيف، إضافة إلى أهمية التعاطف في تحقيق ميزات تنافسية.
على سبيل المثال، قد يتمكن العاملون في قسم خدمة العملاء من التواصل تواصلاً أفضل مع العملاء، إذا شعروا بأنَّ هناك من يهتم لأمرهم، وإنَّ بيئة العمل التي يسودها التعاطف، من شأنها تحفيز الإبداع والابتكار؛ وذلك لأنَّ الناس يشعرون بأمان أكثر في مواجهة المخاطر والتعاون، لدى معرفتهم بأنَّ الآخرين يكترثون لأمرهم.
في دراسة موجودةٍ في الكتاب، أجرتها إيمي إدموندسون (Amy Edmondson) بروفيسورة في ريادة الأعمال في كلية الأعمال بجامعة هارفارد (Harvard Business School)، تبيَّن أنَّ المستشفيات التي تتمتع بمستويات عالية من السلامة النفسية، كان العاملون فيها أكثر ميلاً إلى الاعتراف بالأخطاء والتعاون على إيجاد حلول لها؛ إذ يلعب التعاطف دوراً مهماً في تحقيق السلامة النفسية؛ وذلك لأنَّ من شأنه تعزيز الثقة والقدرة على العطاء، الأمر الذي ينعكس أثره انعكاساً كبيراً على المنظمات.
شاهد بالفديو: كيف تستخدم التعاطف بفاعلية في العمل؟
أربعة جوانب للتعاطف:
يشير الكتاب إلى أربعة جوانب للتعاطف ينبغي على الموظفين إتقانها، إذا أرادوا الاستجابة لمعاناة الآخرين على نحو ملائم:
1. الملاحظة:
الانتباه إلى الإشارات التي تدل على أنَّ أحدهم يمر بأزمة، كلغة الجسد ونبرة الصوت أو أنماط العمل غير المعتادة، والاستفسار بلطف وبشكل خاص عما من المحتمل أن يحدث.
2. التفسير:
النظر إلى معاناة الناس على أنَّها حقيقية وقيمة، من شأن ذلك أن يكون صعباً في بعض الأحيان، لا سيما إذا كان لدينا تحيزات تلقائية لاواعية، كالاعتقاد بأنَّ الناس غالباً يستحقون سوء الحظ هذا، أو بكون مجموعات من الناس لا تستحق أن تنعم بحال جيدة، إلا أنَّه من الضروري اتخاذ إجراءات فعالة للتغلب على ذلك.
3. الإحساس:
إنَّه التعاطف مع الآخرين، لحسن الحظ نميل إلى إبداء التعاطف والاهتمام بمعاناة من نهتم لأمرهم؛ لذا فإنَّ تصرفات بسيطة من شأنها تحسين التواصل، كترك الباب مفتوحاً، أو البقاء بعد الاجتماعات، ووضع الهواتف المحمولة جانباً عند خوض حديث مع أحدهم، الأمر الذي يقود إلى بناء علاقات تشجع تشجيعاً طبيعياً تعاطفنا مع معاناة الآخرين.
4. التصرف:
يمكن القيام بفعل ينم عن التعاطف في أية ظروف وتوجيهه لتلبية احتياجات الشخص الذي يمر بمعاناة، كما يمكن أن يساعد توفير المرونة في العمل، والطمأنينة فيما يتعلق بالأمن الوظيفي، والإصغاء إلى معاناة الآخرين بتعاطف، والتعبير عن اهتمامك من خلال الطقوس والإشعارات، على إظهار تعاطفك.
تقترح المؤلفتان العديد من الطرائق الأخرى التي في إمكان المنظمة إيجاد المزيد من الفرص لإظهار التعاطف من خلالها، والتي تتضمن:
- إنشاء مجموعات صغيرة داخل المنظمات الكبيرة، مؤلفة من أشخاص يتولون إنجاز مهام مشتركة مما قد يساعد على بناء الصداقات فيما بينهم.
- عقد اجتماعات دورية تشجع الموظفين على مشاركة إنجازاتهم، وأخطائهم على حد سواء، لجعل بيئة العمل صالحة للتعلم.
- سرد القصص المتعلقة بمهمة المنظمة وإنجازاتها، والتركيز على تلك الإنسانية منها، والتأكيد على التزام المنظمة بعمل ما هو جيد لإلهام الموظفين.
- الاعتراف الرسمي بأهمية القيام بالأفعال التي تنم عن التعاطف، مما يعزز روح العطاء في المنظمة.
- أن يشارك القادة نقاط ضعفهم مع موظفيهم، مما يعزز الشعور بالثقة والأمان.
العقبات التي تعترض التعبير عن التعاطف في بيئة العمل:
تستوعب كل من وورلاين وداتون بأنَّ بعض الحدود التي تفرضها بيئة العمل، قد تقف عائقاً أمام إظهار التعاطف، أشياء كاقتراب مواعيد الانتهاء من العمل وتسليمه؛ والتي من شأنها زيادة الإحساس بالتوتر، والنزاعات بين الموظفين، والمشكلات المتعلقة بالمنافسة التي لا يمكن تجنبها، أو إنهاء خدمة بعض الموظفين لتقليص حجم الشركة؛ لذلك تقدم وورلاين وداتون حلولاً علمية يمكن اتباعها للتغلب على ذلك.
على سبيل المثال، تتباين بيئات العمل إلى حد كبير في كيفية تعاملها مع تقليص حجم العمالة لديها، وتقدِّم بعض الشركات الكثير من الإشعارات للموظفين وتعرض المساعدة فيما يتعلق بإجراءات إنهاء الخدمة، في حين يطلب بعضها الآخر من الموظفين جمع أشيائهم والرحيل ببساطة، إلا أنَّ الشركات في الفئة الثانية قد تُرفَع بحقها دعاوى قضائية؛ حيث تشير الأبحاث إلى أنَّه من الأفضل أخذ الحالة النفسية للموظفين بالحسبان؛ حيث إنَّ ذلك من شأنه تقليل معاناتهم، وتخفيض ميلهم إلى رفع دعاوى قضائية.
تَحُدُّ الأهداف التنظيمية التي تسعى إلى تحقيق النجاح مهما كان الثمن، أو تعطي الأولوية للتباهي من إمكانية التعبير عن التعاطف في مكان العمل، بدلاً من ذلك، يمكن أن يقود زرع الإحساس بالمعنى الذي يتضمن التخفيف من المعاناة، إلى تغيير بيئة العمل، ففي إحدى الدراسات التي أُجريَت على موظفي حراسة المستشفيات، تبين أنَّ الذين يعدُّون واجباتهم الوظيفية مساهمة في تحقيق المصلحة العامة، يجدون أنَّ عملهم أكثر متعة، ويميلون إلى أخذ إجازات أقل.
إنَّ القيم التي تؤكد على أهمية قيمة الإنسان والترابط البشري، من شأنها تعزيز التعاطف، وتتجلى هذه القيم في كلمات مثل الكرامة والاندماج والاحترام وفريق العمل والتعاون والشراكة والدعم والرعاية واللطف والإشراف والخدمة والعدالة والإنصاف.
تأمل وورلاين وداتون بأن يدرك العاملون والموظفون الذين قرؤوا الكتاب، المنافعَ الكثيرة للتشجيع على التعاطف وأخذ الخطوات الضرورية لفعل أمر حيال ذلك، ويُعَدُّ هذا في رأيهما بديهيَّاً جدَّاً.
لم يعد يكمن التحدي في إيجاد مبررٍ لكون التعاطف هاماً لبيئات العمل، بحسب وورلاين وداتون؛ بل يتمثل في خلق جو يحث على التعاطف في بيئات العمل.
كيف يمكن ألا ندعم التعبير عن تعاطفنا مع الآخرين، بعد معرفتنا المنافع المترتبة على ذلك؟
أضف تعليقاً