لا تُضِع نفسك بالانتظار: نوعان من الانتظار في حياتنا

لطالما ارتبطت أحداث حياتنا بانتظار وصول حافلة، أو الوقوف في الطابور، أو ترقية مترقبة، أو سفر متوقع، فالانتظار أمرٌ مشترك، لكن ما الذي ننتظره؟ إذنٌ؟ أم شعورٌ؟ أم علامة؟



ملاحظة: هذا المقال مأخوذٌ عن المدون "إيفان تارفر" (Evan Tarver)، يُحدِّثنا فيه عن تجربته في الانتقال من العمل التقليدي والتفرغ للعمل الحر، مع مناقشة تداعيات وأسوأ الاحتمالات والمخاوف المستقبلية.

انتظار حدوث أمرٍ ما يضيع وقتنا، وهذه حقيقة معروفة؛ فلا يهم إن كنت تنتظر صدور رخصة القيادة أو مغادرة عملك الحالي، فأنت بهذا تتبنَّى عقلية الانتظار، فإنَّ اشتغال عقلك بالانتظار، يعزله عن اللحظة الراهنة بحثاً عن مستقبلٍ مجهول، وقد يبدو الأمر مبالغاً فيه، لكنَّ مشكلة الانتظار موجودةٌ.

عقلية الانتظار إطارٌ عقليٌّ يخرِجنا من اللحظة الراهنة؛ إذ إنَّنا جميعاً نمتلك أفكاراً وأحلاماً بمستقبلٍ مثالي، ولأنَّ الواقع ليس مثالياً كالمستقبل الذي نتخيله، فنشعر أنَّنا في دوامة انتظارٍ مستمرة، نترقب أن يتجلى مستقبلنا المثالي أمام أعيننا، لكن هل سيتحقق ذلك؟ يبدو الأمر متناقضاً: ننتظر حصول التغيير، في حين أنَّ الانتظار بحد ذاته من دون أيِّ مبادرة عملية تطيل عملية التغيير.

تشمل عقلية الانتظار نوعين من الانتظار، وكلاهما يمنعنا من الوصول إلى مستقبلنا المثالي:

1. الانتظار مضيعة للوقت:

نختبر جميعنا هذا النوع من الانتظار باستمرار، وكل ما نفعله هو ترك الوقت يمرُّ بعبثية، ومع ذلك، إن أمعنت التفكير في سبب العجز وتضييع الوقت بانتظار حدوث أمرٍ ما، فلن تجد إجابةً شافية.

لنفترض أنَّك تود الحصول على رخصة القيادة، وتقف الآن منتظراً في طابورٍ طويلٍ لأيِّ سببٍ من الأسباب من دون استثمار الوقت في أيِّ شيءٍ يُذكَر؛ ستضيع الساعات بعبثية بانتظار دورك بامتعاض وملل شديدين.

لكن لماذا؟ أليس للوقت قيمة؟ عملياً، لا قيمة للوقت بحد ذاته، لكن تبرز قيمة الوقت من خلال الإنجازات التي نقوم بها في كل لحظة، فلِم لا نضاعف قيمة اللحظة الراهنة بالإنجازات؟

إنَّ تبنِّي عقلية الانتظار سيحوِّل أيَّة فترة انتظار إلى أمر ممل ثقيل، بدل أن تكون فترةً ممتعة، كما سيضيع الوقت وتقل قيمته مع كل دقيقةٍ من دون إنجاز؛ لذا بدلاً من تخفيض قيمة الوقت، لِم لا نستفيد من وقت الفراغ؟

يذكِّرنا المعلم والكاتب الألماني "إيكهارت توللي" (Eckhart Tolle): "إن أحسست أنَّ لحظاتك الراهنة مملة وثقيلة، فأنت أمام ثلاثة خيارات؛ أن تخرج من الوضع الحالي على الفور، أو تغيِّره، أو تتقبله بنفسٍ راضية"، وتدفعك أغلب حالات الانتظار إلى تقبُّل الملل.

لكن يمكنك تقبُّل الوضع باستثماره في الاستماع لمدونات وكتب صوتية، وقراءة الكتب الورقية، وممارسة القراءة الإلكترونية، وممارسة التأمل، كما يمكنك استخدام مخيلتك لرفع قيمة اللحظة الراهنة؛ فعملياً، لا قيمة للوقت إن لم تستثمره.

هل سمعت عن فكرة "الاعتلاج" أو "الإنتروبيا" (entropy) من قبل؟ يُستخدم مصطلح "الإنتروبيا" أو "الاعتلاج" لقياس عشوائية نظامٍ ما؛ إذ يشرح ترتيب كوننا أو فوضويته.

كلما صَغُر العالم، قلَّت العشوائية، ومن ثمَّ ازداد الترتيب والتنظيم الكوني، وفيزيائياً، كانت جزيئات الغبار متباعدة بالتساوي، ولم تحصل أيُّ خوارق خارج النظام الكوني - ما عدا نشأة الكون - ثم تلتها عدة تغييرات ابتداءً من سحب الجاذبية لجزيئات الغبار ببطء وثبات معاً؛ إذ أدى اصطدامها ببعضها إلى مزيد من الجزيئات، لتكبر وتشكل جزيئات أكبر من المادة، التي اصطدمت ببعضها لتنقسم وتشكل جزيئات أخرى، وهلمَّ جرَّاً.

مع توسع الكون، أصبح أكثر فوضوية واضطراباً، وقد أدت الاضطرابات المتزايدة إلى سلسلة من الاضطرابات والعشوائية في العالم حتى وصل الكون إلى شكله الأكثر اضطراباً الآن.

حسناً، ما علاقة نشأة الفوضى الكونية بقيمة الوقت؟ وفقاً لعلم الفيزياء الحديث فالوقت كالفضاء، يمضي من دون اتجاهٍ واضح؛ فلا فرق بين تراجع الوقت أو تقدمه، إلى الأمام أو الخلف، إن لم نثبت قيمته بالإنجازات.

يعرِّف علم الفيزياء العلاقة المشتركة بين الفضاء والوقت بخاصية الفوضوية أو العبثية العارمة، وهي ما يرسم اتجاهاً؛ بمعنى أنَّ حدوث الحدث "أ" سيؤدي إلى الحدث "ب" الذي سيؤدي إلى الحدث "ج"، وهذا "معنى السببية" التي تعطي اتجاهاً لنمو الأشياء مع مرور الوقت؛ وهذا يعني أنَّ مفهوم الوقت ثابت، بينما تنمو الأشياء بترتيب أو عبثية مع الوقت بشكل "سبب ونتيجة".

إن فكَّرت في الوقت بهذه الطريقة، فستدرك حجم الوقت المهدور في انتظار إتمام أمورٍ غير هامة، فأنت حرفياً كمن يحبس نفسه في فقاعة عائمة بلا هدف، إلا أنَّه اكتشف قدرته على التحكم باتجاهها كما يشاء؛ لذا، كن يقظاً لدورك الهام في إدارة وقتك وتعديل مساره بعيداً عن العبثية، لتحويل مسار حياتك تجاه الأفضل خلال فترات الانتظار.

لذلك، فإنِّ استثمار الـ 30 دقيقة انتظار للحصول على رخصة القيادة في قراءة كتاب أو التعرف إلى مَن حولك، سيؤثِّر إيجابياً في حياتك، وهذا ينقلنا إلى النوع الثاني من الانتظار.

شاهد بالفديو: كيف تتقن فن إدارة الوقت؟

2. الانتظار مبرر لضياع الحياة:

في حين يشكل الانتظار مضيعةً للوقت، فقد يكون مضيعةً للحياة أيضاً؛ إذ تدفع عقلية الانتظار الناس إلى إهمال اللحظة الراهنة، واستخدامها بوصفها ذريعة لتضييع عمرٍ بأكمله، فنسمع معظم الناس يرددون عباراتٍ مثل: "يوماً ما سأبدأ"، أو "بعد أن يحدث هذا".

وعندما يردد الناس هذه العبارات، فهم يتصرفون بناء على عقلية الانتظار بوصفها مبرراً لأعمالهم المؤجلة؛ إنَّهم يبررون حاجتهم إلى الراحة بالوقت الذي يسيطر عليه الخوف من الفشل عن طريق الانتظار، وإنَّهم يتجنبون الألم المحتمل عن طريق دفع رغباتهم إلى المستقبل.

لدينا جميعنا حياة مثالية نتخيل أن نعيشها يوماً ما، ويكثِر أغلب الناس التفكير في الأمر، لكن لا يتخذ أحدٌ إجراءاتٍ أو خطواتٍ جادة لتطبيق الخيال في الواقع، فنحن ننتظر في الجانب الآمن الذي حددناه مسبقاً سواء في العمل أم في الحياة عموماً، مع علمنا أنَّه أبعد ما يكون عن المثالية، ومع ذلك، فإنَّنا ننتظر ونبرر ونغذِّي رغباتنا الطموحة بوعودٍ مؤجَّلة حتى إشعار آخر.

ونذكر مقولة المعلم والكاتب الألماني "إيكهارت توللي" (Eckhart Tolle) عن الانتظار المبني على الخوف: "إنَّ كل تأجيلٍ أو انتظار يعقبه حدثٌ سلبي، يكمن من وراءه دروس وعِبر يجب تعلُّمها".

فارتباط فكرة الفوضى بالانتظار أحد أسوأ ما قد يحدث في حياة الناس، وكلما طال انتظارنا لتحقيق أهدافنا ورغباتنا العليا، اختفى تأثير الفوضى الإيجابية مع الوقت؛ وهذا يتسبب بمزيد من النجاحات، وفي الواقع، كلما طال انتظارنا، ترسخ تأثير الفوضى السلبية التي تزيد الفوضى الموجودة بأحداث سلبية.

لا تُحدَّد جودة "الإنتروبيا" بحد ذاتها، كما أنَّ الاضطراب والسببية ليسا عاملين جيدين أو سيئين، لكنَّ أفعالنا هي ما تتسبب في "الإنتروبيا" التي تنمو نمواً إيجابياً أو سلبياً؛ ولهذا نميل إلى اختيار التمهل والانتظار وعدم اتخاذ أيِّ إجراء، ونسمح لـ "الإنتروبيا" بالتحرك في الاتجاه السلبي؛ وهذا ما يبعدنا عن الحياة المثالية التي نريدها.

لذلك، نحن بحاجة إلى الإنجاز لنحرِّك أحداث حياتنا تحريكاً إيجابياً مؤثِّراً، فكلما مكثنا في عملنا المقيت أو في علاقة سامة، أفسحنا المجال للأحداث السلبية، ونحن نحتاج توقفاً صارماً عن تبرير سوء وضعنا الحالي لنعطي أنفسنا فرصةً لحياةٍ إيجابية، كما يقول الفيلسوف "ماركوس أوريليوس" (Marcus Aurelius): "تقبَّل الأحداث المصيرية في حياتك، واستثمرها في انتظار ما يلائم احتياجاتك.

نحن بحاجة إلى التوقف عن الانتظار، وقبول رغبتنا الطموحة في الأفضل، ومهما حدث بعد ذلك، فلن يكون سيئاً؛ على سبيل المثال:

من حياتي الشخصية، قبل أن أخوض قفزةً نوعية نحو تخصيص كل وقتي لريادة الأعمال، في البداية، حلَّلت معظم السيناريوهات المستقبلية السيئة؛ إن حافظت على مصروف بمقدار 5000 دولار في الشهر، فسينخفض دخلي إلى الصفر خلال 6 أشهر، بينما أحاول النهوض بأعمالي، وبهذا أخسر نحو 30000 دولار، فهل سأخسر ثلاثين ألفاً، وأترك عملي الآن؟ لا، من الأفضل أن أبقى مدة 6 أشهر أخرى، وأوفر مزيداً من المال، لقد أقنعت نفسي بهذا المبرر، للبقاء فترة أطول.

وبعد أن توقفت عن التبرير وخاطرت بترك عملي، أدركت أنَّ الأمر لم يكن بهذا السوء؛ إذ انخفض دخلي بالتأكيد، لكنَّه لم ينعدم، فقد رسمت في مخيلتي أسوأ الاحتمالات.

إقرأ أيضاً: كيف تكون صبوراً في عالم نفذ صبره؟

الخلاصة:

نستنتج من هذا أنَّ تبرير الانتظار، ما هو إلا قِصَرٌ في النظر، وبالنسبة إليَّ قد تبدو خسارة ثلاثين ألفاً أمراً عظيماً، لكنَّني بعد ثلاثين عاماً لن أنظر إلى الوراء متحسراً على تضييع ثلاثين ألفاً مقابل تحقيق أهدافٍ عظيمة، ولا شك أنَّنا سنتخطى الأمر كأن لم يكن، لكنَّنا سنذكر فرحتنا بعد العزم واتخاذ القرار، وشحذ عزيمتنا لإجراء قفزة نوعية، ومتابعة أهدافنا.

أسوأ خيار نتخذه في حياتنا هو الانتظار؛ لذا عند التفكير في المستقبل، علينا تجنُّب الركود أو الخوف من التحرك هروباً من الفشل؛ لأنَّها ستكون أسوأ الخيارات.

المصدر




مقالات مرتبطة