لا تخف بعد الآن من ثقافة الإلغاء

يقول "مايكل كورليوني" (Michael Corleone): " فقط، عندما حسبت نفسي خارج المنظومة، تم إعادة إشراكي في الأمر".



لماذا قد يقتبس أحدهم سطراً من فيلم "الأب الروحي" (Godfather) الجزء الثالث؟ إذ على الرغم من أنَّه يُعَدُّ من أسوأ أفلام تلك السلسلة الرائعة، لكنَّ الاقتباس يرتبط لسببٍ ما بعبارة "ثقافة الإلغاء"، وكانت ظاهرة "ثقافة الإلغاء" هي الأبرز على مدى السنوات القليلة الماضية؛ إذ يبدو أنَّ جميع الشخصيات العامة التي نفضِّلها أصبحت في طي النسيان، حتى إنَّ اسم الظاهرة قد أُضيف إلى قائمة "الكلمات التي نشاهدها" في معجم "ميريام ويبستر".

ولكن، ماذا يعني بالضبط أن "يُلغى شخصٌ ما؟"، وكيف يناسب ذلك "مايكل كورليوني"؟

حسب موقع "ديكشنري. كوم" (Dictionary.com): "تشير ثقافة الإلغاء إلى الممارسة الشعبية لسحب الدعم، أو الإلغاء، أو الإبلاغ عن الشخصيات العامة والشركات، بعد أن فعلَت أو قالت شيئاً لا يُعَدُّ مهيناً أو غير مقبول، وغالباً ما يتم تداول هذه التصريحات غير المقبولة على وسائل التواصل الاجتماعي بشكلٍ مخزٍ ويضُرُّ بالمجموعة الداعمة".

تقول الأستاذة "ميريديث كلارك" (Meredith Clark) في قسم الدراسات الإعلامية في جامعة فرجينيا لصحيفة "نيويورك تايمز" (The New York Times) في عام 2018: "ثقافة الإلغاء هي تعبيرٌ عن الإرادة؛ إذ يمكن التفكير في الأمر على أنَّه انهيار المرء ومن ثمَّ استعادة سلطته".

وأضافت البروفيسورة "ليزا ناكامورا" (Lisa Nakamura): "إنَّ ثقافة الإلغاء أشبه ما تكون بمقاطعة ثقافية؛ إذ إنَّه إجماعٌ من الداعمين على عدم تعظيم الشخصية العامة، كما يشبِّه الناس الأمر باقتصاد الاهتمام، فعندما يُحرَم شخص ما من الاهتمام من قِبل جهة (كشركة داعمة)، فقد تمَّ حرمانه من مصدر رزقه".

تاريخ موجز عن "ثقافة الإلغاء":

لم يُعرَف أصل المصطلح بدقة، وكما يلاحظ معجم "ميريام ويبستر": "فقد ترسخت هذه الفكرة في السنوات الأخيرة بسبب المحادثات التي أثارتها "مي تو" (MeToo) وغيرها من الحركات، التي تطالب بمساءلة أدق لكبار الشخصيات العامة، وقد نُسِب هذا المصطلح إلى مستخدمي تويتر من أصحاب البشرة السوداء، الذي يتجمع غالبية مستخدميه ضمن مجموعات من السود، كما يمكن لأيِّ فرد الانضمام إلى هذه المجموعات؛ حيث تمَّ استخدامه كهاشتاج".

وذكرَت "أجا رومانو" (Aja Romano) في مقالٍ بحثي نُشِر عام 2018 لموقع "فوكس" (Vox): "نشأت ثقافة الإلغاء داخل ثقافة السود، وظهرت ضمن حركات التمكين للسود، فهي قديمة وتعود إلى مقاطعة الحقوق المدنية التي أحدثها السود في الخمسينيات والستينيات، كما تأثرت ثقافة الإلغاء بانتقاد الشخصيات العامة عبر الإنترنت في أوائل 2010 باستخدام مدونات مثل، "يور فيف إذ بروبلماتيك" (Your Fave is Problematic)".

تختلف الآراء حول حداثة أو قِدم المصطلح، ولكن بغضِّ النظر، يُعَدُّ مفهوم ثقافة الإلغاء جديداً نسبياً، ومع استمرار حصول الشخصيات العامة على إلغاء الدعم، أو الإبلاغ من الشركات الداعمة حتى الوقت الراهن، فقد أصبحت فكرة إلغاء شخصٍ ما موضوعاً مثيراً للجدل، وقد ظهر هذا المفهوم بعد الانتخابات الرئاسية لعام 2020 والأحداث التي وقعت في 6 يناير/كانون الثاني 2021.

وبعد هذين الحدثين، ازداد خطر هذا المفهوم ازدياداً هائلاً، وقال السياسيون إنَّ هذا أخطر شيء يحدث في البلاد اليوم، وقد طرحت العديد من المنشورات تساؤلات عما إذا كانت ثقافة الإلغاء قد أثرت بشكل عميق في المجتمع، وأعلنت أيضاً أنَّها أصبحت عبثية بشكل مزعج.

تناقش العديد من مقالات الرأي هذا الموضوع، كما أصدر مغني الراب الأمريكي "آيس كيوب" (Ice Cube) مؤخراً أغنية تهاجم ثقافة الإلغاء، حتى إنَّ جرَّاحي الأعصاب قد تدخلوا للحديث في هذا الشأن، وهنا يرتبط فيلم الأب الروحي بثقافة الإلغاء في الواقع؛ إذ اقتصرت ثقافة الإلغاء قبل أحداث عام 2020 على النخبة، أمَّا الآن، فالموضوع بات يمسُّ كل فردٍ منَّا.

وبغضِّ النظر عن وجهات النظر المختلفة، هناك طريقة واحدة لمنع الإلغاء، وهي تجنب ثقافة الإلغاء في المقام الأول عن طريق القيام بالآتي:

1. الإيمان بأنَّ ثقافة الإلغاء ليست حقيقية، ولكنَّ الكلمات لها عواقب:

ضع جانباً الغلو والمبالغة التي تشاهدها في شاشات التلفزيون من تعظيم للشخصيات التي حصدت جوائز الأوسكار، فلا يمكن إلغاء وجود شخصٍ ما حرفياً، إذاً عليك أن تعرف أنَّ لكل كلمة عواقب، ولا بُدَّ من رد فعل عنيف على أيِّ قولٍ أو فعل قد يسبب إشكالية لأحد الأطراف، وقد يعني ذلك مقاطعة النشاط التجاري، أو إزالته من "تويتر" (Twitter)، أو مجرد دفع الناس لينشروا أشياء مسيئة على الإنترنت حوله، وستكون هناك تداعيات بالطبع، لكن لن يتم إلغاء معظم الناس في الواقع، والحياة ستستمر، على سبيل المثال:

  • عاد "لويس سي كي" (Louis C.K) للقيام بالتمثيل الارتجالي.
  • أصدرَ "كيفن هارت" (Kevin Hart) العديد من العروض الارتجالية الخاصة، والعديد من الأفلام ما زالت في مرحلة ما بعد الإنتاج.
  • أخرجَ "وودي ألن" (Woody Allen) فيلماً بالتعاون مع طاقم ممثلين من فيلم "يوم ممطر في نيويورك" (A Rainy Day in New York) لعام 2019.
  • واصلَ "كاني ويست" (Kanye West) تسجيل الموسيقى.
  • لا تزال كتب "جي كي رولينغ" (K. Rowling) تُنشَر إلى الآن.
  • تُقدِّم "باري ويس" (Bari Weiss) رسالتها الإخبارية الخاصة.
  • ما زالت "إلين دي غنرس" (Ellen De Generes) تستضيف برنامجها الحواري الشهير.
  • يستمر "جوش هاولي" (Josh Hawley) في عضويته في مجلس الشيوخ الأميركي، ولم يتم حظره على تويتر، وكثيراً ما يُستضاف على "فوكس نيوز" (Fox News).
  • يشغل "مايك ليندل" (Mike Lindell) منصب المدير التنفيذي لشركة "مايبايلو" (MyPillow)، ويُستضاف باستمرار على "نيوز ماكس" (News max).

يمكن التفكير في بعض الأمثلة عن ثقافة الإلغاء، بعد حادثة البيت الأبيض الأمريكي (US (Capitol incident والمحاكمة التي تلتها؛ إذ إنَّك ستجد العديد من الناس الذين شهدوا بعض النكسات والمضايقات، ولكنَّهم لم يُلغوا من الوجود، وبالنسبة إلى القسم الأكبر، لا تزال لديهم مهنة ومنصة من نوع ما للتعبير عن آرائهم.

إقرأ أيضاً: 4 طرق بسيطة لتغيير آراء الناس

ماذا عن الشخص العادي؟

غالباً ما يرتكب الأشخاص العاديون (محدودو التأثير والنفوذ) الكثير من الأخطاء المقصودة وغير المقصودة، والتي يتم تجاهلها إلى حدٍّ ما؛ إذ إنَّه لن يُعاقب لمجرد ارتكابه مخالفة للمرة الأولى، على سبيل المثال: ربما أدلى أحدهم بتعليق مهين عن طريق الخطأ في أثناء التحدث إلى زميل في العمل، وسيتم إبلاغه في المرة الأولى بعدم مناسبة القول ليتعلم فيستقيم سلوكه مع التجربة، ولكن في حال واصل استخدام هذه الكلمة المسيئة، فهذا يدل على عدم اهتمامه وعندها سيُعاقب.

كما يمكن معاقبة الشخص في حال أنَّه خالف القانون بشكلٍ واضح، وإن كنتَ تمارس عملاً غير قانوني مثل تقديم تهديدات أو ادعاءات كاذبة، فلا تتعجب عندما تصبح في مأزق مع ممثلي القانون أو صاحب العمل، والعملاء، وغير ذلك، وعلى الرغم من أنَّ معظم هذه الحالات هي الحالات القصوى المبالغ فيها، فلن يحصل معظمنا على "إلغاء"، وبصراحة، إذا حدث ذلك فسيكون غالباً لسببٍ وجيه يستحق عقوبة الإلغاء.

2. التفكير ملياً قبل الحديث:

من أبرز القصص المنتشرة مؤخراً في هذا السياق، هي قصة "مورغان والين" وشقيقته؛ حيث تعرَّض "والين" لهجوم حاد من وسائل الإعلام، وجمهور المتابعين عبر وسائل التواصل الاجتماعي، وذلك بسبب بعض الكلمات العنصرية التي قالها من خلال مقطع قصير، والتي لم يقصد بها الإهانة على حد قوله؛ ممَّا اضطرَّ أخته إلى الدفاع عنه، وكسب التعاطف والاعتذار من جمهور المتابعين.

نتعلم من هذه القصة عدم رمي الكلمات جزافاً دون تفكير، ومحاولة تبرير وتدارك الخطأ حال وقوعه، وينطبق الأمر على أيِّ موضوع عنصري أو معادٍ للسامية أو كارهٍ للإسلام، وفي هذه الحالة لا يمكن إلقاء اللوم على الآخرين؛ إذ يتعلق الأمر بالمحاسبة الذاتية ومعرفة ما يُسيء إلى الآخرين والابتعاد عنه، وفي حال تعمُّد الإساءة فعليك تحمُّل عواقب أفعالك.

 ما لم تكن علامة أعمالك التجارية علامة محرِّضة للعنصرية ومستفزة، فما عليك سوى النأي بنفسك عن مواطن الجدل، وكما قال المؤلف الأمريكي للتنمية الذاتية "نابوليون هيل" (Napoleon Hill): "فكِّر مرتين قبل أن تتحدث؛ ذلك لأنَّ تأثير كلماتك سيزرع بذور النجاح أو الفشل في ذهن شخصٍ آخر"، وينطبق الأمر نفسه على وسائل التواصل الاجتماعي.

كقاعدة عامة، لا تشارك محتوى فيه عبارات نابية أو ثرثرة أو نشاطات غير قانونية، وابتعِد بالتأكيد عن وسائل التواصل الاجتماعي إذا كنتَ فاقداً الوعي ولا تعي ما تنشر، وأمرٌ إضافي، يجب الحذر بشأن التفكير في القضايا الاجتماعية أو السياسية كثيراً؛ ذلك لأنَّها تدفعك إلى الإدلاء بدلوك فيها؛ لذا كن يقظاً لحسِّك الفكاهي عندما تُعلِّق على مسألة عامة، باختصار، فكِّر دائماً قبل مشاركتك.

3. عدم مشاركة محتوى حساس:

يجب أخذ الحيطة والحذر عند النشر، وذلك بسبب عدم اختفاء المنشورات على الإنترنت بشكلٍ كامل، فلنفترض أنَّه تم التغريد بتغريدة عن أمور شخصية، ثم الشعور بالندم، فيمكن حذف التغريدة ببساطة؛ حيث يُعَدُّ التراجع عن منشور وحذفه عملاً كافياً لدى الكثيرين لمحو الماضي، لكنَّ ذلك يعتمد على سرعة التصرف؛ إذ إنَّ ترك التغريدة مدة أطول سيعطي الآخرين المزيد من الوقت لمعرفة ما تمت مشاركته والرد عليه، وحتى لو تم التصرف بسرعة، فيجب تذكُّر أنَّه يمكن الاحتفاظ بالمنشورات عبر لقطات الشاشة للنشاطات السابقة، أو تصيُّد محتوى معيَّن مأخوذ من المحادثات السابقة، ويمكن تلافي الوقوع في هذا الموقف المحرج، بعدم مشاركة أيِّ خصوصيات أو آراء من شأنها أن تعود وتطاردك.

شاهد بالفيديو: 7 طرق لنشر محتواك الإلكتروني

4. قراءة تفاصيل شروط الاستخدام الدقيقة:

يجب قراءة جميع التفاصيل الدقيقة وبنود سياسة الاستخدام؛ ذلك لأنَّك قد لا توافق على بعض شروط الموقع وسياسات الخصوصية، وإذا انتهكتَ هذه الشروط فقد تتلقَّى تعليقاً مؤقتاً لحسابك أو حظراً جزئياً أو دائماً، ولكن لحسن الحظ يمكنك قراءة سياسة الموقع وشروط الاستخدام ومعرفة كل شيء قبل الضغط على زر الموافقة.

5. تقليل وقت الشاشة:

أسهل طريقة للحماية من "ثقافة الإلغاء" هي بتقليل وقت الشاشة، فليس المطلوب هو إلغاء مواقع التواصل الاجتماعي كلياً، فهي مفيدة في بناء وتوسيع انتشار العلامة التجارية والحفاظ على التواصل مع الآخرين، ولكن لا يوجد سبب لقضاء 145 دقيقة يومياً في استخدام وسائل التواصل الاجتماعي، إلا إذا كانت وظيفتك.

من الواضح أنَّه كلما قلَّ قضاء الوقت على وسائل التواصل الاجتماعي، قلَّت الفرص المتاحة للوقوع في مشكلة، فبدلاً من الاشتغال بالمشاركة كل لحظة، والإدلاء بالرأي حول كل موضوع، يمكن الاشتغال بفعل نشاطٍ آخر، كالتنزه دون الهاتف، وممارسة هواية، والقراءة والكتابة، وتعزيز العلاقات الاجتماعية في العالم الحقيقي.

إذا شكَّل وجود تطبيقات التواصل الاجتماعي إغراءً كبيراً لتصفحها، فيمكن حذف التطبيقات من الهاتف أو على الأقل يمكن إزالتها من الشاشة الرئيسة، كما يمكن استخدام الأدوات التي تمنع استخدام التطبيقات في أوقات معيَّنة، أو العودة إلى استخدام الهاتف القديم دون إنترنت، وفكرة أخرى قد تساعد على تقليل الوقت أمام الشاشة، تقوم على إنشاء مناطق خالية من التكنولوجيا؛ حيث يمكن تحديد بعض الغرف في المنزل ليبقى الهاتف خارجاً، مثل مكتب العمل وغرفة النوم وطاولة غرفة الطعام، فيبقى الهاتف بعيداً عن المستخدم في غرفة أخرى.

ولكن، ماذا عن "فومو" (FOMO) (الخوف من تفويت حدث هام)؟ يمكنك الاستفادة القصوى من تجميع الأحداث الهامة لوقت معيِّن، وبهذا يمكنك الحد من استخدام وسائل التواصل الاجتماعي ليصبح مرتين أو ثلاث مرات في اليوم، كما يمكن استخدام تطبيقات لإدارة وسائل التواصل الاجتماعي، والتي تسمح بجدولة تصفح ومراقبة القنوات الاجتماعية، وبالنسبة إلى أرباب الأعمال، يمكن لبعض روبوتات الرد الآلي التعامل مع استفسارات خدمة العملاء.

إقرأ أيضاً: 6 حلول بسيطة للتخلص من إدمان مواقع التواصل الاجتماعي

ماذا لو حاول الآخرون إلغاءك؟

في الحقيقة لكل فعل رد فعل؛ لذا لن تتم معاقبتك أو مقاطعتك أو فض العقود معك دون سبب، وإذا حصل هذا فمن المحتمل وجود سوء فهم، أو ربما لأنَّك تستحق ذلك؛ إذ إنَّك حين تقوم بتعليق عنصري في الأماكن العامة أو على وسائل التواصل الاجتماعي، يجب ألا تستغرب من دفع ثمن ذلك، ولكن، عند حدوث لَبسٍ ما فيمكن الاستماع للطرف الآخر؛ إذ تُعَدُّ فرصة جيدة لإظهار تعاطف أكبر مع الآخرين، والنضج من خلال تلك التجارب على المستوى الشخصي.

على الجانب الآخر، يمكن أن يتعدَّى عليك زبونٌ غاضب، أو يُلحق بك الأذى موظف حكومي سابق، وهنا يجب النظر إلى الأمر بحيادية، فإذا كانوا على حق فيجب استخدام التغذية الراجعة السلبية لتحديد نقاط الضعف أو بناء الثقة وغيرها، ومن الأفضل في بعض الحالات تجاهل هؤلاء الأفراد والمضي قدماً، أما إذا ساء الأمر للغاية، فيمكن الإبلاغ عنهم أو اتخاذ إجراءات قانونية ضدهم، وكقائد فريق، عليك التحقق من سياسة وسائل التواصل الاجتماعي، وتذكير فريقك بآداب السلوك عبر الإنترنت لتجنب الإبلاغ أو الإلغاء.

في الختام:

يجب أن تعلم أنَّه لا حاجة إلى الشعور بالأرق وقضاء الليالي بالتفكير في ثقافة الإلغاء، فاستخدِم الحس السليم فحسب، ولا تتلفظ بكلمات بذيئة أو كريهة، وربما من الأفضل الحد من استخدام وسائل التواصل الاجتماعي.

المصدر




مقالات مرتبطة