كيف نتعلم بفاعلية في عصر الإلهاء الرقمي؟

أضحى كل شيء متاحاً في هذا العصر، فقد ولَّت الأيام التي كنَّا نقيس فيها المسافات الجغرافية فيما بيننا بالكيلومترات، إذ تستطيع الآن التواصل مع مَن تريد بلمح البصر عن طريق الاتصال الهاتفي أو البريد الإلكتروني أو برامج التواصل الاجتماعي، وهذا ما يوصلنا إلى ما يُدعَى بـ "فوضى العالم الرقمي".



أحدث التطور في مجال التكنولوجيا نقلة نوعية في نواح عدة، فأصبحنا متاحين للجميع على مدار الساعة، وقادرين على مراجعة آخر مستجدات العمل لتلافي المشكلات حتى قبل حدوثها؛ لكن للأسف، يمكن أن يسبب تفعيل "الوضع النشط" والبقاء على اتصال على مدار الساعة استنزافاً محفوفاً بالخطر لطاقاتنا التي نريد تخصيصها لأمور هامة كالدراسة والتعلّم.

يحتاج تطوير الصناعات والقدرة على تبنِّي مهارات جديدة وتعلُّم تقانة جديدة مزيداً من الوقت في هذا العالم المتسارع، والذي يعدُّ أحد أهم الموارد التي نسعى دائماً إلى توفيرها والحفاظ عليها. تستنزف مشاغل حياتنا الخاصة وحياتنا العملية كل دقيقة ثمينة من يومنا، وتمتص طاقتنا حتى الرمق الأخير لنصل إلى نهاية اليوم منهكين؛ فأي ظروف هذه التي نطلب فيها التعلم؟ وما الذي يمكننا فعله إذاً للحد من تأثير عوامل التشتيت الرقمية وزيادة التركيز؟

سنستعرض فيما يأتي بعض النصائح الفعالة لمواكبة آخر المستجدات من ناحية التعليم والتواصل والإنتاجية، بعيداً عن فوضى العالم الرقمي.

1. اختر الوقت المناسب للتعلّم:

هذه هي نقطة البداية لأي شخص يريد الانخراط في برنامج دراسي، سواء كان ذلك دورة دراسية رسمية في الجامعة أم دورة تدريبية على الإنترنت لتعلم مهارة جديدة.

لقد قطعنا على أنفسنا عهداً بالقيام بأمر ما وأخلفناه مراراً؛ فما إن نصل إلى المنزل، حتى تضعف إرادتنا، ونصاب بالخمول، ويمسي جل ما نريده أخذ قسط من الراحة، ونقول أنَّنا سنؤجل ذلك إلى الغد؛ ونستمر في الدوران هكذا في الحلقة المفرغة نفسها.

ما يحدث في هذه الحالة هو أنَّ إرادتنا تخذلنا، فقد أظهرت الدراسات وجود حد لقوة الإرادة؛ فمع انقضاء اليوم وإضافة مهمات جديدة وتراكم الالتزامات على كاهلنا، تُستنزَف قوة إرادتنا حتى تكاد تنعدم نهائياً.

لتجنب الوقوع في هذا الأمر، استغل الفترة الصباحية للدراسة عندما تكون إرادتك وطاقتك مشحونة بالكامل؛ نظراً إلى سهولة مقاومة عوامل التشتيت في هذه الفترة. حتى لو كنت من الأشخاص الذين يفضلون العمل أو الدراسة مساء، إلَّا أنَّ دماغك لا يكون في أفضل حالاته إلَّا في ساعات الصباح الباكر، حيث تكون عندها في أعلى حالات الإبداع والتركيز، وتكون قوة إرادتك مشحونة بالكامل.

لا يعني هذا أنَّ عليك الاستيقاظ فجراً لتدرس؛ فإن رغبت في تحقيق أقصى استفادة من ساعة التعلم خاصتك، فادرس بعد فترة وجيزة من الاستيقاظ؛ فعلى سبيل المثال: إن استيقظت في الساعة الثامنة صباحاً، فحاول أن تبدأ دراستك بين الساعة الثامنة والنصف والتاسعة صباحاً؛ أمَّا إن كان عليك أن تكون في مكان عملك قبل الساعة التاسعة صباحاً، ففكر في استخدام وقت التنقل للدراسة، حيث يمكنك دائماً الاستماع إلى المدونات الصوتية (podcast)، والدورات التعليمية عبر الإنترنت والصفحات المحفوظة على هاتفك المحمول في أثناء ذهابك إلى العمل.

إقرأ أيضاً: 10 طرق فعالة لتتعلّم بشكل أسرع

2. فعِّل وضع "عدم الإزعاج":

عليك الحد من عوامل التشتيت الرقمي لتحقيق أكبر استفادة من وقت الدراسة؛ لذا أوقف جميع إشعارات برامج التواصل الاجتماعي في أثناء الدراسة، وجرب مثلاً أن تدرس لثلاثين دقيقة قبل أن تخلد إلى النوم؛ كما بإمكانك استخدام تطبيقات تساعدك على القراءة كتطبيق كيندل (Kindle).

إنَّه لمن الأفضل أن تخصص جهازاً لوحياً للدراسة فقط، بحيث تضع عليه مواد الدراسة والتطبيقات والأدوات اللازمة لها، وتتمكن بذلك من القراءة وتدوين الملاحظات والأفكار دون معوقات أو إلهاءات.

كما بإمكانك الاستماع إلى الكتب والبرامج الصوتية التعليمية على جهاز الآيباد وتدوين الملاحظات في الوقت نفسه؛ إذ لن تتعرَّض إلى الإزعاج مجدداً من خلال تطبيق هذه النصيحة المنطقية، وستصبح أكثر تركيزاً على ما تتعلمه ما دامت جميع الإشعارات متوقفة.

إقرأ أيضاً: كيف توقف إشعارات تطبيقات الدردشة على هاتفك لتحقق المزيد من التركيز

3. غيِّر عقلية الفومو (FOMO) لديك:

تنتشر في يومنا هذا ظاهرة مجتمعية تُدعَى (FOMO)، وهي اختصار يشير إلى الخوف من تفويت الأحداث الهامة، وهذا المصطلح مفصَّل كالتالي:

  • الخوف (Fear).
  • من (Of).
  • تفويت شيء (Missing Out).

فإن جمعناها في جملة واحدة، فتصبح كما يأتي: "Fear Of Missing Out"، وما يقابلها في اللغة العربية: "الخوف من تفويت شيء ما؛ والحاجة الملحة إلى البقاء متصلاً".

إنَّ متلازمة الفومو (FOMO) أحد الأسباب الرئيسة وراء الإلهاء الرقمي، فلا تسمح لها بتعطيلك عن الدراسة. جرب تتبع آخر الأخبار والتحقق من الرسائل والبريد الإلكتروني قبل البدء بالدراسة، واحصر جل تفكيرك بالدرس دون الانشغال بالرسائل الواردة؛ وستشعر بذلك براحة البال عندما تعرف أنَّ العالم الخارجي لم يتحول إلى خراب، وأنَّ كل شيء على خير ما يرام.

ألقِ نظرة خاطفة على بريدك الإلكتروني؛ فمع أنَّ هذا يتعارض مع العديد من الحجج التي تدعم التحقق من البريد الإلكتروني والرسائل في الصباح، إلَّا أنَّك ستكون بذلك في منأى عن الإلهاء الناجم عن قلقك حول آخر المستجدات لبقية اليوم.

أرح عقلك، وتعامل مع هذه الرسائل بسرعة قبل أن تبدأ الدراسة؛ إذ لا تستحق معظم الإشعارات أن تشغل بالك بها.

يقول باس لوهرمان (Bas Luhrmann): "إنَّ المتاعب الحقيقية التي تصادفك أمور ليست في الحسبان أبداً؛ بمعنى أنَّ المشكلات تعصف بك وأنت في أفضل حالاتك"؛ لذا عليك أن تتمتع بالسلام مع العالم قبل أن تباشر فترة الدراسة الفعلية، ولا تقلق بشأن الرسائل الواردة، وإلَّا ستُحرَم من هذا السلام.

4. أعلِم الآخرين أنَّك "غير متوفر":

لا تستغرب، فأنت لست مجبراً على إتاحة نفسك للجميع على مدار الساعة، بل يجب على من يرغب بالتواصل معك الانتظار ريثما تفرغ من عملك.

لا تخشَ التعرض إلى الانتقاد أو الشكوى؛ فلا ضير من إقصاء نفسك لبضع ساعات دون التواصل مع الآخرين. سيحترم الأشخاص وقتك عندما تخبرهم بما تفعله وتوضح لهم انشغالك، فقد اختُبِر هذا مع العملاء ورؤساء الشركات وأفراد الأسرة والأصدقاء، ولم يسبق لأحد أن اشتكى من عدم الرد على رسائله أو مكالماته باستمرار.

في حال تقدم أحدهم بشكوى من هذا النمط، ابتعد عنه، ولا تسمح له بالسيطرة على حياتك؛ فأنت في النهاية إنسان يحق لك امتلاك متنفس خاص لا تحبذ اقتراب أحد منه أيَّاً كان.

يندرج وقت الدراسة ضمن هذا "المتنفس الخاص"، فلا يجب أن تلهيك أي رسائل أو  اتصالات أو غيرها؛ فعلى سبيل المثال: تخيل أنَّك عند طبيب الأسنان ورنَّ هاتفك، ولنفترض أنَّه كان أحد العملاء، هل بمقدورك الرد بينما تحفر معدات الطبيب في أسنانك؟ طبعاً لا.

إقرأ أيضاً: فن القدرة على قول لا

5. حوِّل عبارة "من الأفضل أن أفعل كذا" إلى "يتوجَّب عليَّ أن أفعل":

نمتلك جميعنا قائمة بالمهمات "التي يجب علينا القيام بها"، كالتمرن أو خسارة الوزن أو ترتيب المنزل وغيرها؛ لكنَّنا في الحقيقة لا ننجز أيَّاً منها.

تتراكم الواجبات لدينا لأنَّنا لا نعدُّها من أولوياتنا، أو لأنَّنا نراها غير ملحة ولا يجب أداؤها على وجه السرعة؛ فندفع بها إلى أسفل قائمة الواجبات.

إن رغبت بالابتعاد عن مصادر الإلهاء حتى تتمكن من قضاء الوقت في التعلم، فيجب أن يصبح تعلمك "أمراً لا بد منه"، وأن تؤكد على نفسك أنَّك تريد الدراسة؛ وعندما تغير فلسفتك من "من الأفضل أن أفعل كذا" إلى "يتعين عليَّ فعل كذا"، تصبح المَهمَّة أولوية؛ ذلك لأنَّ "المهمات التي يتعين عليك القيام بها" غير قابلة للتفاوض أبداً، ولا يجب المساس بها.

يتطلب إنجاز المهمات التحضير لها مسبقاً، حتى إن لم تكن من أولوياتنا؛ لذا قبل أن تخلد إلى النوم، امنح نفسك بضع دقائق للتمحيص في تقويمك وقائمة مهماتك، وحدد مَهمَّة أو اثنتين للقيام بهما غداً.

نفذ ذلك مسبقاً كي تهيئ عقلك ونفسيتك لليوم التالي، وابدأ كل يوم وأنت تعرف بالضبط ما عليك فعله، بحيث تزيد من تركيزك على المهمات التي يتعين عليك القيام بها؛ ولا تنسَ أن تضع تعليمك على رأس قائمة مهماتك.

يمكنك أيضاً استخدام التقويم للأولويات وقائمة المهمات لغير الأولويات؛ ذلك لأنَّك تقلل من أعذارك بتخصيص وقت لأداء المهمات، حيث تُلزِم نفسك بها.

الخلاصة:

إليك الخطوات السابقة باختصار:

  1. خصص وقت الصباح للدراسة عندما يكون عقلك في أفضل حالاته كي تستطيع التركيز أكثر.
  2. أوقف تشغيل كل الإشعارات في أثناء الدراسة، ولا تقلق فلن يحدث أي ضير عند إغلاق هاتفك.
  3. أخبر الجميع بأنَّك غير متوفر في أثناء وقت الدراسة.
  4. وأخيراً: خصص وقتاً محدداً لمهماتك، وجهز قائمة مسبقة بها، وحوِّل الواجبات إلى أولويات لا بد من القيام بها.

اعمل بهذه النصائح لمواجهة صعوبات التركيز، وتجنَّب مصادر التشتيت الرقمية، وستحقق بذلك أقصى استفادة من وقتك وتندمج في تعلم ما يدفعك إلى المضي قدماً في هذا العالم الفوضوي.

 

المصدر




مقالات مرتبطة