كيف تكون متواضعاً دون أن تنتقص من قيمة نفسك؟

نحن غالباً ما نتلقى أنواعاً كثيرة من النصائح المتضاربة المتعلقة بصفة التواضع، مثل: "كن متواضعاً، ولكن كن واثقاً"، و"كن متواضعاً، ولكن لا تحطَّ من قدر نفسك"، و"لا تكن حازماً جداً، ولكن لا تكن متساهلاً جداً أيضاً"؛ وهذا ما يتسبب بإرباك أشخاص كُثر حينما يتعلق الأمر بالتحلي بالتواضع.



لعلَّكَ قد تقضي حياتك كاملة وأنت تخشى من أن تبدو مغروراً كلما شعرت بالفخر بنفسك أو ظننت أنَّك متواضع بينما كل ما تكون قد فعلته هو أنَّك قسوت على نفسك، ونحن ندرك كلما سمعنا خطاباً في حفلٍ لتسليم الجوائز أو قرأنا كتاباً يتحدث عن القيادة أنَّ التواضع صفة مرغوبة في كل قائد، لكن كيف تحقق ذلك دون أن تنتقص من قيمة نفسك؟ وما الذي يعنيه التواضع حتى؟ وكيف يمكننا أن نكون واثقين بأنفسنا، ومتمكنين ومتواضعين في الوقت نفسه؟

ما هو التواضع؟

يتعلق جزء كبير من الالتباس بمعنى التواضع بأنَّنا لا نفهم ما يعنيه حقاً؛ وعلى أي حال، يمكن إرجاع جذور كلمة "التواضع" إلى الهنود الأوروبيين البدائيين (Proto-Indo-Europeans)، والتي تأتي بمعنى "من الأرض"؛ فهو اعتراف بأنَّنا مكونون من المعادن والمواد الكيميائية نفسها التي تتكون منها الأرض؛ هذا لأنَّنا جزءٌ من حلقة أكبر من أحداث حياتنا اليومية وطموحاتنا وإنجازاتنا. إنَّه الاعتراف بأنَّنا مهما حققنا أو بنينا، فنحن جميعاً سنعود إلى الأرض يوماً ما كما سيفعل أي شخص عاش أو سيعيش عليها.

كل جنرال ورئيس ومدير تنفيذي وفنان في تاريخ العالم هو مزيج من الأشياء نفسها التي يتكون منها أي واحد منا؛ حيث لديهم الصراعات البشرية نفسها، وليسوا أفضل أو أسوأ ممَّا نحن عليه، كما لسنا أسوأ أو أفضل من أي شخص آخر.

هذا شيء كان الإمبراطور الروماني ماركوس أوريليوس (Marcus Aurelius) مدركاً له فعلياً، حيث أعلن قائلاً في يومياته التي أُطلِق عليها اسم "تأملات" (Meditations): "فلتجعلك فكرة ومعرفة أنَّ الموت أمرٌ محتم تتسم بالتواضع".

يمكن القول أنَّ أوريليوس كان أقوى شخص في العالم في ذلك الوقت، وقد عرف أهمية التواضع لأنَّه تذكَّر أنَّه كان "من الأرض"، وأنَّه ببساطة مجرد إنسان؛ فلم يترك لنفسه مجالاً ليصاب بالهوس بسبب قوته.

هل هو تواضع أم تدنٍّ في تقدير الذات؟

نحن نعيش في عالم يحاول تقييمنا باستمرار، وإقناعنا بأنَّ حياتنا ستكون أكثر جدارة إذا كسبنا مزيداً من المال أو كتبنا ذاك الكتاب أو أسسنا ذلك العمل أو تزوجنا وأنجبنا، أو أي شيء آخر.

الحق يُقال، إنَّنا نشعر بالحياة تدعونا إلى القيام بكل تلك الأشياء؛ لكنَّ الحقيقة القاسية هي أنَّه مهما كان ما ننتجه أو نحققه كبيراً في الحياة، فنحن سنعود يوماً إلى الأرض نفسها التي خُلِقنا منها.

يتمحور التواضع حول القبول التام بإنسانيتنا التي ينبثق منها قبول مهاراتنا، وقدراتنا جنباً إلى جنب مع قبول أخطائنا والتحديات التي تواجهنا؛ في حين أنَّ تدني احترام الذات هو النظر المغلوط إلى أنفسنا على أنَّنا أقل قيمة، وتجاهل أهميتنا وإسهاماتنا؛ بينما يكون الغرور هو النظر المغلوط إلى أنفسنا على أنَّنا أكثر قيمة وتضخيم إنجازاتنا، وذلك لنتظاهر أنَّ لنا قيمة أكبر من قيمة البشر الآخرين.

يعني هذا أنَّ كُلَّاً من تدني احترام الذات والغرور حالة رفضٍ لتقبُّل أنفسنا؛ سواء كان الأمر متعلقاً بنقاط قوتنا أم أخطائنا أم حاجتنا إلى الدعم؛ لكنَّ التواضع هو معرفتنا أنَّ لدينا الآن كل القيمة التي سنحصل عليها، ولن يتسبب شيء مما نفعله كبشر في كسب أو خسارة هذه القيمة؛ حيث يُنفَّذ كل شيء ننشئه أو نحققه بتعاونِ ودعم جميع من حولنا، سواء كان دعماً مرئياً أم غير مرئي.

ما من إنسانٍ يُنجِز أيَّ شيءٍ بمفرده، فنحن نتلقى دعم الآخرين، وندعم آخرين أيضاً؛ ويبدأ هذا من الطرقات التي نقود عليها سياراتنا متوجهين إلى المنتورز ومُشجعينا، وصولاً إلى قدرتنا على البث عبر الإنترنت من منازلنا.

التواضع هو رؤية وقبول كل ذلك دون الحط من شأن أيٍّ منها؛ ذلك لأنَّ الحطَّ من قدر إنجازاتنا أو تجاهل نقاط قوتنا لا يجعلنا متواضعين، بل يجعل احترامنا لذواتنا منخفضاً دون وجه حق، ويجعلنا ننظر إلى أنفسنا على أنَّنا أقلُّ قيمة من غيرنا.

إقرأ أيضاً: صفات يجب أن تتوفر في شخصيتك لتكون محبوباً من الجميع

نقيض التواضع:

النقيض الحقيقي للتواضع ليس الثقة بالنفس، بل الغطرسة؛ والتي كانت تعني عند اليونانيين القدماء "الكبرياء المُفرط تجاه الآلهة أو في مواجهتها"؛ فمثل إيكاروس (Icarus) الذي حلَّق قريباً جداً من الشمس، كذلك يشعر الناس الذين لديهم غطرسة بأنَّهم بطريقةٍ أو بأخرى أعلى أو أكثر قيمة من هؤلاء الذين هم "من الأرض"، وغالباً ما يؤدي هذا الوهم إلى دمارهم.

لكنَّ الغطرسة لم تختفِ خلال الـ 2000 سنة الماضية، حيث توجد حالات لا حصر لها من الناس الذين يشعرون أنَّه "لا يمكن المساس بهم"، أو أنَّهم أكثر قيمة من الآخرين؛ من آباء لا يرحمون ورؤساء تنفيذيين استغلاليين ومراهقين متهورين ومشاهير متغرطسين.

نحن جميعاً قد وقعنا ضحية للغطرسة في مرحلة ما؛ كالتفاخر بإنجازاتنا أو الشعور بأنَّنا نهتم أكثر بشيء سبق وأن حققناه، أو الشعور بأنَّنا لا نُقهَر أو أنَّنا على دراية بكل شيء أو أن نطلق أحكاماً على الآخرين الذين لا يتطابقون ومعاييرنا التي فرضناها على أنفسنا.

لكنَّ الغطرسة لا تتعلق بالثقة على الإطلاق، فنحن لسنا بحاجة إلى التباهي بإنجازاتنا أو التظاهر بأنَّنا قمنا بكل شيء لوحدنا دون أن نتلقى أي دعم إذا كنا نشعر حقاً بالثقة تجاه هويتنا؛ حيث تُنشئ الثقة الحقيقية التواضع لأنَّ قيمتنا الذاتية تكون داخلية.

تتعلق الغطرسة بالخزي:

إذا كان التواضع يتعلق بالقبول الحقيقي لأنفسنا ككل، فالغطرسة ترفض قبول الأجزاء التي لا نحبها؛ ومن المفارقات أنَّ الغطرسة غالباً ما ترتبط بمستويات عالية من الشعور بالخزي والشك في الذات لأنَّنا نشعر أنَّنا لسنا جديرين أو جيدين بما فيه الكفاية؛ لذلك نشعر بالحاجة إلى التنفيس عن المشاعر الدفينة والمغالاة في تضخيم إنجازاتنا.

تُظهِر الأبحاث في الواقع أنَّ الأشخاص الذين يُفرطِون بالتفاخر والغطرسة هم أكثر ميلاً إلى الشعور بالخزي، وتنبع قيمتهم الذاتية من إنجازاتهم بدلاً من كونها تنبع من الإحساس الجوهري بالقيمة؛ مما يعني أنَّ تقدير الذات عند المتغطرس مشروط دائماً، وإذا فشل في أي شيءٍ- كفقدان وظيفة أو علاقة- فسيتلاشى المصدر الخارجي للقيمة ويعود الشعور بالخزي.

من ناحية أخرى، يدور التواضع في فلَكِ القيمة الذاتية الداخلية غير المشروطة؛ ذلك لأنَّ القيمة الذاتية موجودة ومستمرة بغضِّ النظر عن تقلبات الظروف الخارجية في حياة ذلك الشخص؛ فلا شيء مما يبنيه الإنسان أو يحققه أو يخسره قد يزيد أو يُنقص من تقدير الذات، ولا يحتاج الشخص إلى التباهي بخصوصه.

شاهد بالفديو: كيف تبني تقدير الذات؟

كيف يمكن لك أن تكون متواضعاً دون أن تحط من شأن نفسك؟

كن واقعياً وصادقاً؛ ذلك لأنَّ التواضع ببساطة هو القدرة على الوصول إلى أعماق أنفسنا واستيعاب إحساسنا بتقدير الذات.

تذكَّر أنَّ المواد التي تتشكل منها هي نفسها عند أي إنسان آخر؛ فأنت لست أسوأ من الأغنياء والأقوياء، ولا أفضل من المحرومين أو المرضى؛ إلَّا أنَّه وفي الوقت نفسه لا يوجد أحد يشبهك تماماً بنقاط قوتك ومواهبك وقدراتك وحساسيتك ومخاوفك وانعدام حسك بالأمان؛ فأنت تسهم فيمنح هذا العالم شيئاً فريداً لا يستطيع أي شخص آخر منحه.

يوجد التواضع حيث تُطبَّق مُفارقة القيمة المتساوية على كل شخصٍ آخر وعلى تفرده الكامل، إذ يبحث التواضع عن نقاط قوتك وقابلية الخطأ لديك، وعن أن تكون صادقاً مع نفسك.

إقرأ أيضاً: آيات قرآنية وأحاديث نبوية في ذم الكبر وفضل التواضع

جرِّب القيام بهذا التمرين:

جرِّب هذا التمرين إذا كنت تحاول أن تكون متواضعاً دون أن تنتقص من قيمة نفسك:

  1. اجلب قلماً وورقة أو افتح مستنداً جديداً على جهاز كمبيوترك.
  2. اكتب 10 أمور مدهشة عن نفسك؛ قد تكون هذه الأمور أي شيء من ابتسامتك اللطيفة إلى نكتة مضحكة قلتها منذ عامين أو قدرتك على رعاية أطفالك أو حتى إنجاز حديث لك.
  3. والآن، اكتب الموارد التي ساعدتك على تحقيق هذه الأمور العشرة المذهلة؛ ويمكن أن يكون الأمر بسيطاً مثل "لقد ورثت حس دعابتي من أمي" أو "لقد حصلت على هذه الترقية بدعمٍ من زملائي في العمل".
  4. اكتب 10 أمور غير مثالية وإنسانية عن نفسك؛ قد تتضمن أموراً من الماضي وأنت تعمل عليها منذ ذاك الحين، مثل "اعتدت أن أهتم حقاً بما يعتقده الناس"، أو أن يتعلق الموضوع بأمرٍ لا زلت تعمل عليه مثل "أحياناً أكون مُطوقاً جداً في عملي".
  5. وأخيراً، تخيَّل عدداً قليلاً من الأشخاص الذين تحترمهم وتعجب بهم حقاً، وتوقف برهة وتساءل عمَّا إذا كان أيٌّ منهم قد واجه الأشياء غير المثالية التي تعانيها أنت. والاحتمالات المُتاحة ستكون أنَّه لن يكون من الصعوبة بمكان تخيُّل أنَّ الأشخاص الذين يعجبونك جداً لديهم بعض المزايا البشرية.

هذا كل شيء، ويمكنك القيام بهذا التمرين في أي وقت تشعر فيه أنَّك تنتقص من قيمة نفسك لكونك إنساناً أو في أي وقت تنسى فيه هذه الإنسانية.

التواضع يعني أن تكون إنساناً:

ليس التواضع هو الكلمة الوحيدة التي تُشتَق من جذر "من الأرض" فكذلك تفعل كلمة إنسان؛ كون التواضع يعني ببساطة أن تكون إنساناً، وينطوي هذا على الاعتراف بجميع تحدياتنا وعيوبنا ونواقصنا إلى جانب قوتِنا ومهاراتنا وقدراتنا وإنجازاتنا.

يشمل التواضع كامل التجربة الإنسانية؛ ويعني هذا أن تكون واثقاً وفخوراً إلى جانب كونك تشعر بعدم الأمان وعدم اليقين، ممَّا يعني أنَّ لدينا دائماً مزيدٌ من الأشياء لكي نتعلم عنها ومزيد من النمو الذي علينا أن ننجزه، وأنَّنا لا نتمتع أبداً بخبرة كبيرة في حياة أي شخص آخر كما يفعل هو؛ ولهذا يمكننا الوثوق بتجاربه حتى لو كانت تبدو مختلفة عن تجاربنا.

إذا كنا متواضعين، فنحن واقعيون، ونحاول ألَّا نبالغ في تضخيم أنفسنا لنبدو أكثر قيمة أو أهمية؛ ذلك لأنَّنا نعلم أنَّنا نستحق بالفعل أن نكون كذلك بغض النظر عمَّا نبنيه أو نحققه.

لا يتعارض التواضع مع احترام الذات، فهما في الفريق نفسه؛ وعندما نتمكَّن حقاً من قبول أنفسنا بالكامل بأخطائنا و تحدياتنا، ستكون هذه علامة على تقدير الذات العالي لأنَّنا لا نخاف ولا نخجل من أي جزء من أنفسنا.

يمكننا قبول خبراتنا وحدودنا والمكان الذي تلقينا منه الدعم دون أن نخاف أو نهرب منها، وهذا هو التواضع: أن تعرف كيف تكون متواضعاً دون أن تنتقص من قيمة نفسك.

 

المصدر




مقالات مرتبطة