كم تحتكُّ مع أشخاصٍ فاقدي الثقة بكلِّ شيء، أشخاصٍ يُخضِعون كلَّ تفصيلٍ من تفاصيل الحياة إلى الكثير من التدقيق والتَّمحيص؟ وعندما تستهجن تصرُّفاتهم وشكَّهم المبالغ فيه، يبدؤون بصوغ سلسلةٍ من الحجج؛ كأن يقولوا: "نحن أشخاصٌ واقعيُّون، ولدينا قدرةٌ على تحليل الأمور بطريقةٍ عميقة، وعلى كشف الثغرات بمهارةٍ عالية، بحيث لا يستطيع أحدٌ أن يخدعنا، حتَّى أقرب الأشخاص لنا. أمَّا أنتَ؛ فليس لديك هذه المقدرة التحليلية، وتكتفي بالانتباه إلى المعطيات الظاهرة والمُصرَّح عنها، ولا تغوص إلى الكواليس".
لتسأل نفسك بعدها: "أيُّ كواليسٍ عليَّ اكتشافها، إن كان الأمر يتعلَّق بعائلتي، الذين هم أقرب الأشخاص إلي؟".
لتبدأ بعدها بإدراك أنَّ هؤلاء النماذج من البشر ليسوا طبيعيين، ويحتاجون إلى المساعدة والدعم والاحتواء.
لكن ما هو الشك؟ ما مصادره؟ وكيف أتعامل مع الشخص الشكاك؟ هذا ما سنتعرَّف عليه من خلال هذا المقال.
1. ما هو الشك؟
الشك: حالةٌ من عدم القدرة على حسم الرأي، والتي يعيشها الإنسان فيما يخصُّ معلومةً معيَّنةً، لكونها صحيحةً أم خاطئة. فإذا مالَ إلى ناحية كونها صحيحة، يُسمَّى حينها ظنَّاً؛ أمّا إن بقيَ الإنسان في حالةٍ مُعلَّقة ما بين الصح والخطأ، يُسمَّى عندها شكَّاً.
يوجد نوعان من الشك: الشك الإيجابي والآخر السلبي:
- الشكّ الإيجابي: يتمثَّل بالشك في المعلومات، وليس الأشخاص؛ كأن يشكّ شخصٌ ما في معلومات رجل دينٍ ما، فيعود إلى المصادر الحقيقية (كتاب الله وسنة رسوله)، ويبحث عن المعلومة، ويتأكَّد منها.
- الشك السلبي: فهو الشك في الأشخاص وليس المعلومات، ويؤدِّي هذا النوع من الشك إلى نتائج كارثية. لكنَّه صفةٌ مكتسبةٌ وليست فطريَّة، وبالتالي يمكن التعامل معه، والتخلُّص منه.
يقوم الإنسان الذي يوجِّه شكَّه تجاه الآخر، بفعل أمرٍ مُحرَّم دينياً، وهو إطلاق الأحكام؛ فيكمن دور الإنسان الحقيقي في أن يتعامل مع الآخر بنيَّةٍ حسنة، ويتقبَّل، ويحترم اختلافه؛ لا أن يحكم عليه، ويحاول تقييمه.
2. في أيّ نوعٍ من الاضطرابات النَّفسية يكمن الشك؟
يدخل الشك في ثلاث أنواعٍ من الاضطرابات النفسية، وهي:
2. 1. اضطراب الشخصية الوسواسية القهرية:
يكون الشخص المصاب باضطراب الشخصية الوسواسية مُنظَّماً جداً، فيصلُح أن يكون مديراً ناجحاً -على سبيل المثال- حيث أنَّ الشك لديه إيجابيٌّ جداً، فيكون لديه وسواس التيقن أو الكمالية.
يجعل وسواس التيقن الشخص يعيد الأمر أكثر من مرة، حتَّى يتيقَّن أنَّه نُفِّذ بدقةٍ تامة؛ أو أن يقوم بفعله ببطءٍ شديد، للتأكُّد من القيام به بمهارةٍ عالية. أمَّا من لديه وسواس الكمالية، فيكون عاشقاً للنظام، ويرغب في رؤية كلِّ شيءٍ في مكانه المخصَّص له بالضبط.
يُخلَق من هؤلاء الأشخاص مبدعون ومميَّزون، في حال وُظِّفَت خصائصهم بالشكل الصحيح.
2. 2. اضطراب الوسواس القهري:
من جهةٍ أخرى، في حال تطوُّر الحالة لدى الشخص، فسيُصاب باضطراب الوسواس القهري، وهنا تتحوَّل الفكرة من مجرد فكرةٍ عابرةٍ إلى فكرةٍ تستقِّر في الدماغ، وتشغل حيِّزاً من التفكير، مُسيطِرةً على عقل الإنسان، ومؤثِّرةً في الأفكار الأخرى، ومُعطِّلةً الشخص.
يعاني مريض الوسواس القهري من أمرٍ غايةٍ في الصعوبة، وهو إدراكه التامُّ لأنَّ الفكرة المسيطرة عليه تافهةٌ، وبسيطةٌ، وصغيرة؛ لكنَّه غير قادرٍ على السيطرة عليها، ولا يستطيع إيقاف عقله عن التفكير فيها.
2. 3. اضطراب الشخصية الاضطهادية:
أمَّا الأشخاص المزعجون بشدَّة، أولئك المُصابون باضطراب الشخصية الاضطهاديَّة، فهم أشخاصٌ في حالة شكٍّ دائمٍ، وإحساسٍ بأنَّهم مضطهدون، وأنَّ الآخرين يتآمرون عليهم. وهم أكثر الأنماط استهلاكاً للنفس البشرية.
على سبيل المثال: كأن يكون هناك زوجٌ ضعيف الثقة بنفسه، ويجد زوجته إنسانةً متزنةً، وقوية الشخصية، وحكيمةً في قراراتها، وتنال إعجاب زملائها في العمل (ذكوراً وإناثاً)؛ عندها سيبدأ هذا الزوج بالتحقيق المستميت معها عن كلِّ شاردةٍ وواردةٍ في حياتها، ويخلق مشكلاتٍ من لا شيء، ويتَّهمها بأنَّها مقصِّرةٌ بحقِّه، وأنَّه مظلومٌ معها ومضطهد، وقد يتخيَّل فكرةً سلبيةً -كفكرة أنَّها تخونه- ويرسم لها السيناريوهات، ويصدِّقها تماماً، ويتعامل على أساسها. فالإنسان الشكاك يُفسِّر كلَّ المعلومات الواصلة إليه، بطريقةٍ تؤكِّد شكَّه.
3. مصادر الشك:
3. 1. التربية الخاطئة:
تعدُّ التربية أكثر أمرٍ يؤثِّر في الطفل، والسبب الأساسي في اكتسابه لأيِّ صفة، فالطفل الذي نشأ في جوٍّ عائليٍّ مهزوز الثقة، كأن تكون الأمُّ دائمة التدقيق والشك في الأب، وتتجسَّس على هاتفه المحمول مثلاً؛ أو أن يكون الأب دائم الشك في ولده، ويطلب منه دائماً أن يُقسم يميناً لكي يصدِّق كلامه؛ سيعاني من اضطراباتٍ نفسيَّةٍ خطيرة، من بينها الشك.
3. 2. ضعف الثقة بالنفس:
إنَّ الإنسان الذي يشكُّ في الآخرين، هو إنسانٌ فاقد الثقة بنفسه وبالآخرين وبكلِّ شيء، فتجده دوماً في حالة بحثٍ وسؤال:
- "هل يحبُّني الآخرون؟".
- "هل يكذب عليَّ الآخرون؟".
- "هل يتمنَّى الآخرون الخير لي؟".
فهو يُقوِّم نفسه من خلال الآخرين. أمَّا الإنسان الواثق من نفسه، فلا يهمُّه كلام الآخرين ولا تقويماتهم، فإن كانت إيجابية، كان شيئاً جميلاً بالنسبة إليه؛ أمَّا إن كانت سلبية، فلن يهتمَّ ولن يؤثِّر الأمر عليه بتاتاً.
3. 3. حالة التعلُّق الزائد وليس الحب:
القاعدة التي لا تقبل النقاش: أنَّ الحبَّ والشكَّ لا يجتمعان. فلا نستطيع أن نطلق على الحالات العاطفية المشوبة بالشك، مصطلح حب؛ وإنّما مصطلح تعلُّق.
يُشحَن الشخص من الطرف الآخر، طاقةً وحناناً وحبَّاً، وذلك في حالة التعلُّق؛ لكن دون حصول الطرف الآخر على شيء، وبالتالي يصبح الآخر مُتعباً، وغير سعيدٍ أو مستمتع.
تستخدم الكثير من الزوجات أسلوب الإلحاح والضغط والتحقيق، ظنَّاً منها أنَّه أسلوبٌ أنثوي، في حين أنَّ الأنوثة ثقةٌ وقوَّة، فالإلحاح على معرفة أدقِّ التفاصيل في حياة الرجل، وعدم احترام مساحته الخاصة، وعدم إعطائه الثقة؛ يجعله ينجذب إلى أنثى أخرى تكون قادرةً على الاحتواء أكثر. ممَّا يجعل زوجته تنهار وتشعر بالعجز، علماً أنَّها من أوصلت الأمر إلى هنا، ولِتستخدم بعد اكتشافها انجذاب زوجها إلى امرأةٍ أخرى، موجاتٍ عاليةً أكثر من الضغط والشك، عوضاً عن معالجتها للسبَّب الأساسي الذي أدَّى إلى تصرُّف زوجها بهذه الطريقة.
3. 4. خللٌ في السمات الشخصية:
إنَّ "الذكور" و"الإناث" مجرَّد جنس، أمَّا "الرجال"و"النساء" فهم سماتٌ شخصية. تدلُّ صفة الرجال على "القيادة"، في حين تدلُّ صفة النساء على "الانقياد". إنَّ الشك لا يتعلَّق بجنس الشخص، فليس هناك دراسةٌ تُبيِّن إن كان الشك عند الذكور أكثر أم عند الإناث؛ لكنَّ الإنسان الذي يتعامل بصفة "نساء" طوال حياته، هو الذي يكون أكثر قابليةً للشك، سواء أكان ذكراً أم أنثى.
3. 5. الخوف:
يأتي شكُّ الشخص بالآخرين إمَّا من خوفه، أو من رفضه لشيءٍ معيَّن. فالإنسان الذي يخاف من الخيانة يشكُّ في الآخر؛ لكي يحمي نفسه من التعرُّض إليها، دون وعيٍ منه أنَّه بذلك يجذب الخيانة إليه. فالأشياء التي نخافها بشدَّة، ستحدث لنا حُكماً، نتيجة تركيزنا عليها.
3. 6. عدم الفهم الصحيح للعلاقة الزوجية:
يتعامل الكثير من الأزواج وكأنَّه الوصيُّ على الطرف الآخر، فينسى هدفه في الحياة ورسالته، ويكرِّس حياته لمراقبة زوجته، والتحقيق معها، والحكم عليها، وتقويمها؛ مُتَّخذاً بذلك دوراً ليس دوره، فهذا الدور لله وحده، فهو مَن يملك حق المحاسبة، وحق مراقبة الأشخاص، وإطلاق الأحكام عليهم.
تُبنَى العلاقة الزوجية السليمة على الاحترام والتقدير ومعرفة كلِّ طرفٍ لحقوقه وواجباته، أمَّا الأشياء الأخرى فهي خاصَّةٌ بين الشخص وربِّ العالمين.
4. علاج الشك:
4. 1. لا تُبرِّر للشكَّاك:
كلَّما تجاوبتَ مع الشخص الشكاك، وقمتَ بطمأنته؛ زاد شكُّه واستجوابه لكَ، وستصبح أسيرَ هذه الحالة التبريرية طوال الوقت. لذلك، اكسر حالة التبريرات، كأن تقول لزوجتك: "إنِّي صادق معك قولاً وفعلاً، لكن إن كنت تصرِّين على الشك بي، فهذا شيءٌ يعود إليكِ. أنا لستُ مسؤولاً عن شكوكك، ولن أبرِّر لكِ شيئاً، فمن يحقُّ له محاسبتي هو الله وحده، واجبكِ عليَّ أن أصونك وأحترمك وأُقدِّرك، عدا ذلك فليس من واجبي".
4. 2. انسف مخاوفك:
كما علمنا أنَّ الشك هو ترجمةٌ لمخاوفك، لذلك عليكَ التعامل مع مخاوفك بأسلوبٍ مختلفٍ، كأن تتعايش معها وتتقبَّلها؛ لا أن تُضخِّمها وتكبِتها، وتفقد السيطرة عليها.
اسأل نفسك: "ما هو أسوأ سيناريو يمكن أن يحصل؟"، واستشعر كأنَّه قد حصل، واختبر تأقلمك، وتكيُّفك معه. بذلك تكون قد تعلَّمتَ إدارة مخاوفك.
4. 3. ابقَ هادئاً:
يلجأ الإنسان الذي يتعرَّض إلى ضغطٍ وتوترٍ كبيرين إلى الشكوك كمتنفَّس له، وذلك لمساعدته على التعامل مع هذه الضغوطات. بالتالي عليكَ أن تبقى هادئاً، إيجابياً، ومتَّزناً.
4. 4. الوعي لعلاقةٍ زوجيةٍ سليمة:
على الزوج أن يعي أنَّ العلاقة الزوجية السليمة، علاقة حبٍّ واحترامٍ وتقدير، وليست علاقة مراقبةٍ وتحقيقٍ وإطلاق أحكامٍ على الطرف الآخر.
وبالمقابل، تستطيعين التعامل مع زوجكِ بحكمةٍ ووعيٍّ ونضج، ففي حال كان لديكِ شكوكٌ تجاهه، فإيَّاكِ أن تحرقي أعصابك وأيامك في انتظار الدليل الملموس. وعوضاً عن ذلك، اطلبي من ربك مساعدتك في إظهار الدليل، واستمري في حياتك بطريقةٍ عادية، وتجاهلي شكوكك. وبعد ذلك، في حال لم يظهر الدليل، ابقِ إيجابية، وأغدقي زوجك احتواءً وثقةً، واحترمي مساحته الخاصة.
وفي حال ظهر الدليل، وتبيَّن لكِ أنَّه يخونك، فعليكِ حينها أن تتأكِّدي أنَّه لا يهينكِ شخصياً، وأنَّ خيانته هي خيانة لربِّه ولمبادئه وقيمه، فلا تنجرِّي لإطلاق الأحكام عليه، وتتعبي ذاتك وروحك، وتأكِّدي أنَّك أمام خيارين: إمَّا أن تتقبَّلي ذنبه، وذلك لأنَّه نادمٌ ومتألِّمٌ، ولأنَّنا كلُّنا معرضون لأن نذنب؛ أو أن تنسحبي من حياته بمنتهى الهدوء، وتبدئي حياتك من جديدٍ بمنتهى القوة.
4. 5. اللجوء إلى اختصاصي صحةٍ نفسيَّة:
يحاول الكثير من الأزواج معالجة الشك بينهم، لكنَّهم يفشلون. يُفضَّل في هذه الحالة، وقبل اتخاذ قرار الانفصال؛ اللجوء إلى اختصاصي صحةٍ نفسية، لمساعدتهم على تجاوز الثغرات التي تحول دون استقرارهم.
الخلاصة:
إن كنتَ نشأت في بيئةٍ مُعزِّزةٍ للشك، عندها عليكَ الاعتماد على دوافعكَ، فاعمل بجدٍّ على جوانبكَ المضيئة ونقاط قوَّتكَ، وتأكَّد أنَّ باستطاعتك استنباط أجمل الدروس من المعاناة والقسوة.
أنتَ تجذب ما تفكِّر فيه، فإن كنتَ تتعامل مع الآخرين بحسن ظنٍّ ونيَّةٍ حسنة، فستجذب إلى حياتك أشخاصاً سليمي النيَّة ومُقدِّرين لكَ؛ أمَّا إن كنتَ تتعامل بسوء ظنٍّ وشكوك، فستجذب إلى حياتك كلَّ ما تشك فيه، وتخاف منه.
وتأكَّد دوماً أنَّ الحبَّ الحقيقيَّ ثقةٌ واحتواء، وليس شكَّاً وقيوداً.
أضف تعليقاً