كيف تشارك في العمل بسعادة؟

تُعَدُّ مشاركة الموظفين في مكان العمل أمراً جيداً، لكنَّ شعورهم بالسعادة هو أفضل ما يربطهم بالمكان، وقيل لنا منذ زمنٍ طويل إنَّ مشاركة الموظفين هي مفتاح حتمي لنجاح الأعمال، لكنَّ المفتاح الصحيح هو شعور الموظفين بالشغف تجاه وظائفهم، وإنَّه مستوى التزامهم تجاه المنظمة، والجهد النابع من الذات الذي يكرسونه لعملهم.



ملاحظة: هذا المقال هو حوار بين "روجر ديان دانكن" (Rodger Dean Duncan) كاتب أمريكي ومستشار أعمال، وبين الكاتب "إيريك كاربنسكي" (Eric Karpinski) حول كتابه "اعمل بسعادة" (Put Happiness to Work) والذي يُحدِّثنا فيه عن أهمية سعادة الموظف لتفعيل مشاركته ضمن العمل.

إذاً فالأمر كله يتعلق بالانتماء النفسي أو ما نسميه بالملكية النفسية في علم النفس، فالملكية هي الشعور بأنَّ شيئاً ما هو ملكك، وتختلف الملكية النفسية عن الملكية القانونية، فقد يشعر المرء أنَّ غرفة العمل المكتبية هي ملكه وليس ملكاً لشخص آخر (أي الملكية النفسية)، لكنَّ الملكية القانونية للمكان بأكمله تُمنَح في الواقع إلى المنظمة.

الملكية النفسية ليست مجرد "شعور جيد" نحو الأشياء والأماكن؛ إذ ترتبط المستويات العالية من مشاركة الموظفين وسلامتهم في مكان العمل ارتباطاً وثيقاً بالإنتاجية وولاء العملاء والزيادة الربحية وانخفاض معدل دوران العمالة والعديد من المقاييس الأخرى لنتائج أو مخرجات الأعمال.

جمعَت مؤسسة "غالوب" (The Gallup) بيانات مشاركة الموظفين لأكثر من ثمانين عاماً في 160 دولة، ويتراوح متوسط مستوى مشاركة عملاء مجموعة "غالوب" (The Gallup) في الولايات المتحدة حول 35% وهذا يعني أنَّ حوالي ثلثي الموظفين الذين شملهم الاستطلاع لا يشاركون بفاعلية كاملة في عملهم، وفي الولايات المتحدة وحدها، كلَّف الموظفون غير المتفاعلين الاقتصاد الأمريكي ما يقدَّر بنحو (400) مليار دولار سنوياً بسبب الإنتاجية المنخفضة.

ولكن، ماذا لو تبيَّن أنَّ اتباع مقياس "مشاركة الموظفين في العمل" هو طريقة خاطئة لقياس الإنتاجية؟ وماذا لو تأثرَت إنتاجية الموظفين بعوامل أخرى في مكان العمل؟ هذه هي الأسئلة التي طرحها "رودجر دين دنكان" (Rodger Dean Duncan) وأجاب عنها "إريك كاربينسكي" (Eric Karpinski) مؤلف كتاب "اعمل بسعادة" "Put Happiness to Work".

"إريك كاربينسكي" (Eric Karpinski) هو عالم يركز على الإنجاز في مكان العمل، فوظَّف نظريات علم النفس الإيجابي لشركاتٍ عدَّة منها "إنتل" (Intel) و"آي بي إم" (IBM) و"تي موبايل" (T-Mobile) إلى "كايزر" (kaiser permanente) و"ديلويت" (Deloitte) و"إيلي ليلي" (Eli Lilly)؛ حيث يقدِّم كتابه رؤيةً قوية لبيئة العمل المثالية، وهي مجموعات مترابطة بعمق من الأشخاص المتفانين والمفعمين بالنشاط الذين يجدون معنىً فيما يقومون به ويدعمون بعضهم بعضاً لتحقيق أهداف صعبة.

شاهد بالفديو: أسرار الإبداع والنجاح في العمل والحياة

يقول "دنكان": أكثر من 70% من المديرين التنفيذيين يقولون إنَّ مشاركة الموظفين هامة للأداء التنظيمي في العمل، ومع ذلك فإنَّ أكثر من ثلث العمال في بحثٍ دائم روتينياً عن عروض عمل أفضل، فلماذا حصلَت هذه الفجوة؟

يقول "كاربينسكي": إنَّ الروابط بين المشاركة الفعالة في العمل وزيادة الإنتاجية والأرباح متينة للغاية؛ لذا فإنَّ أرباب الأعمال مهتمون بالطبع بزيادة المشاركة، ولكن حتى مع استثمار مليارات الدولارات على طول العقد الماضي، فلم نتحرك قيد أنملة؛ إذ ظلَّت نتائج بيانات مشاركة مجموعة "غالوب" (The Gallup) في الولايات المتحدة ثابتة بعناد بنسبة 30% لمدة 20 عاماً.

المشكلة هي أنَّ أرباب الأعمال يفكرون ويتحدثون عن المشاركة بشكلٍ خاطئٍ تماماً، وهي التركيز الحصري على الفائدة المادية للمنظمة العائدة من زيادة الإنتاجية والأرباح، أو على النتائج التي يريدون رؤيتها من موظفيهم كالولاء والالتزام بالعمل والاستعداد لتحمُّل أعباء إضافية من أجل المنظمة.

وتختلف وجهة نظر الموظف؛ إذ يبدو الأمر كتحمُّل أعباءٍ إضافيةٍ والعمل بجدٍ أكبر دون أيَّة فوائد أو محفزات مالية، أو حتى تحسينات في بيئة العمل، والنتيجة هي إعادة البحث عن فرص عمل أخرى.

يقول "دنكان": تستشهد في كتابك باستطلاع شمل 2000 موظف في جميع أنحاء أمريكا الشمالية تمَّ سؤالهم: أي مما يلي ستختاره لاستثمار وقتك وطاقتك فيه، سعادتك في العمل أم مشاركاتك الفعالة فيه؟ فاختار أكثر من 80% السعادة، لنناقش الأمر بشكلٍ آخر، ولنفترض وجود هذا الرقم الهائل من المجيبين في أماكن أخرى، والذين فضلوا التركيز على الانخراط في العمل بدلاً من الشعور بالسعادة فيه، ما الثمن الذي سيدفعونه جرَّاء اختيارهم البقاء في مكان لا يشعرون فيه بالسعادة؟

يقول "كاربينسكي": لا يستيقظ معظم الناس صباحاً وجلَّ اهتمامهم في أن يكونوا أكثر ارتباطاً في عملهم اليوم، ولكنَّ ما يشغل بال أكثرنا صباحاً هو كمية المشاعر الإيجابية التي نشعر بها، والتي أختصرها باسم "السعادة".

إنَّ الأخبار العظيمة والتي لا يتم تداولها هي عند مشاركة الناس الفعالة ضمن أعمالهم، فإنَّهم يشعرون بجميع أنواع هذه "المشاعر الإيجابية المنشِّطة" كالإلهام أو الحماسة أو الفخر أو الشعور بالانتماء أو السلامة أو إضافة المعنى لما يقومون به، والتركيز على المشاعر المصاحبة للمشاركة في العمل التي تُعَدُّ الدافع الجوهري للموظفين، فزيادة سعادة الموظف تقابلها إنتاجية أفضل والوصول إلى أهداف الفريق الهامة، وبذلك يحقق الجميع غاياتهم.

إقرأ أيضاً: 10 عادات يمارسها أكثر الأشخاص إحساساً بالحماسة

يقول "دنكان": هل لدينا منظور واضح لشكل المشاركة الفعالة المطلوبة في مكان العمل؟ أو عن شكل السعادة التي تسببها المشاركة الفعالة؟

يقول "كاربينسكي": في معظم الأحيان، تبدو المشاعر الإيجابية في العمل متشابهة، وإذا لا يتوفر تصوُّر واضح ومحدد عن ماهيَّتها، فتتداخل جميع أنواع السعادة تداخلاً كبيراً وتتوحد مع المشاركة.

من الهام جداً حصر وتحديد المشاعر الإيجابية التي تدفع إلى المشاركة والتي قد تدفع الموظفين إلى الخمول وعدم المشاركة، كما تشتهر العديد من شركات التكنولوجيا بامتيازاتها الكبيرة مثل تقديم وجبات الطعام المجانية ووجود آلات القهوة الفاخرة في الممرات وحجرات القيلولة وطاولات البلياردو، كما توفر بعض الشركات معالجي تدليك، وكل هذه الميزات تساعد على تعزيز وجود مشاعر إيجابية معيَّنة، مثل القناعة والسرور والراحة، في حين أنَّ هذه المشاعر التي يفرزها الجهاز العصبي السيمبثاوي تُعَدُّ من ضمن مشاعر الراحة؛ إذ تُشعِرُك بالسعادة لكنَّها لا تحفزك على العمل، فهي لا توفر الطاقة والنشاط اللذين يدفعانك إلى المشاركة.

لذا في محاولة أيَّة منظمة تطوير واستثمار سعادة موظفيها، فمن الأفضل استثمار الوقت والجهد في استراتيجيات مدروسة في تأثيرها في زيادة السعادة والمشاركة معاً مثل التقدير والتواصل الاجتماعي، ومساعدة الناس على اكتشاف واستخدام نقاط قوَّتهم النشطة لإيجاد معنىً لما يقومون به.

يقول "دنكان": ذكرتَ في كتابك أنَّ السعادة تخلق سلسلةً من الحلقات الحميدة، ماذا يعني ذلك؟

يقول "كاربينسكي": "الحلقة الحميدة" هي الحالات التي يؤدي فيها بذل القليل من الجهد إلى التغيير؛ مما ينجم عنه المزيد من التغيير بسهولة وتلقائية، على سبيل المثال: السعادة تمنحك شعوراً جيداً؛ مما يخلق الرغبة والدافع للقيام بنشاط ما، وتكرار هذا النشاط سيزيد من سعادتك، ومن ثمَّ فسوف تتحفز لإعادة هذا النشاط مرة أخرى، وهذا مثال مصغر على الحلقة الحميدة للفرد.

لحسن الحظ تنجح هذه الحلقات الحميدة بين عدد قليل من الأفراد، وهذا معناه أنَّك لا تحتاج إلى مشاركة فريقك بأكمله لرؤية الفوائد؛ لذا ابدأ بالأعضاء الأكثر حماسةً لأفكار السعادة هذه، الذين قد أسميهم "المتعاونون أو المتآمرون" معك، فعندما تظهر بوادر النجاح، ستتمكن من تحفيز الفريق بأكمله؛ ذلك لأنَّ السعادة والمشاعر الإيجابية مُعدية وسوف تدفع باقي أعضاء الفريق إلى الفضول حول الحماسة والطاقة المنتشرة؛ مما سيؤدي إلى تحفيزهم أيضاً.

يقول "دنكان": ما تأثير الموقف أو الامتنان في زيادة السعادة في مكان العمل؟

يضيف "كاربينسكي": الاعتراف بجميل صنيع الموظفين، وتقديرهم، هو واحد من أبسط الطرائق وأرخصها وأكثرها فاعليةً لزيادة السعادة والمشاركة في مكان العمل، ولكن في حين يتفق معظم القادة على أنَّ التقدير هام؛ إلا أنَّهم لا يقدِّمون ما يكفي من التغذية الراجعة أو التعقيبات الإيجابية الفعالة؛ حيث أظهرَت دراسةٌ حديثة شملَت 800 منظمة أنَّ 80% من كبار القادة يعتقدون أنَّ موظفيهم يحصلون على التقدير مرةً واحدة في الشهر على الأقل، ولكنَّ 22% فقط من العاملين الأفراد أبلغوا عن حصول أقرانهم على التقدير بهذا القدر.

ليكون وجودك فعالاً، فعليك ملاحظة التفاصيل الدقيقة وتقديرها.

ابدأ بممارسة تمرين بسيط للتعود على تقدير وتثمين ما حولك، بقضاء دقيقتين يومياً في كتابة عن ثلاثة أشخاص تقدِّرهم وما تقدِّره فيهم على وجه التحديد، فهذا التمرين سيساعدك على إيجاد عناصر جيدة لتقديرها في اعترافك لمن حولك بجميل صنيعهم في المرات القادمة.

كما يعيد هذا التمرين برمجة عقلك لملاحظة ما غفل عنه من تفاصيل بسيطة في الكثير من الأحيان، ومن الضروري أن تحتوي التفاصيل على خصوصية للشخص؛ وذلك لأنَّ البشر كائنات حساسة للمصداقية بطبيعتها، فالتعبيرات الفارغة عديمة الإحساس مثل: "شكراً" و"عملٌ موفق" دون مدح تفاصيل خاصة بالشخص، لن تساعد أيَّ شخصٍ ليشعر بالتقدير، ويمكن في الواقع أن تأتي بنتائج عكسية، من خلال الإشارة إلى أنَّك لم تعطِ اهتماماً كافياً لمعرفة كيف ساهم هذا الشخص بالتحديد.

جرِّب أن تبدأ اجتماعاتك الخاصة بالسؤال عن: "أفضل عمل قام به أحد أعضاء فريقك هذا الأسبوع؟" وذلك لنشر ثقافة الامتنان والتقدير في شركتك وبين موظفيك وزملائك، وهذا سيزيد من وعيك حول الأشياء التي تستحق الامتنان حولك، كما ستساعد زملاءك على التعرُّف إلى الأشياء الجيدة لديهم ولدى أقرانهم أيضاً، فالاعتراف بجميل صنيعهم وتقدير أدائهم المهني يؤدي إلى "حلقة حميدة وإيجابية" من الدعم المشترك.

 وجدَت الأبحاث التي أجراها "شون أشور" (Shawn Achor) بالتعاون مع منصة "لينكد إن" (LinkedIn): أنَّه عندما أُثني على عدد من الموظفين لأكثر من أربع مرات خلال تقييم ربع سنوي يحفز عندهم عملية الثناء على غيرهم من أقرانهم الموظفين، وبمجرد تأسيس ثقافة الامتنان، تصبح وظيفتك كقائد أسهل؛ حيث يقدِّر أعضاء الفِرق بعضهم بعضاً ويشجعون بعضهم على المشاركة والسعادة.

إقرأ أيضاً: كيف يعزز التعبير عن الامتنان المشاعر الإيجابية؟

يقول "دنكان": ما هي أهم لَبِنات بناء الاتصال الشخصي الفعال في مكان العمل؟

يجيب "كاربينسكي": إنَّ التواصل الاجتماعي مع الآخرين هو العامل الأكثر أهميةً لسعادتنا؛ كما يُعَدُّ محركاً كبيراً لنجاحنا ومشاركتنا ضمن بيئة العمل، ولكنَّ التباعد الاجتماعي الناجم عن جائحة فايروس كورونا ضرب كلَّ نظريات الاتصال بين زملاء العمل عرض الحائط؛ حيث يُعَدُّ تعزيز الاتصال الاجتماعي أحد أكبر وأسهل الأهداف التي يمكن بلوغها في طريقنا لإعادة بناء بيئة عمل طبيعية جديدة في معظم أماكن العمل.

تكون البداية في بناء فرص للاتصالات عالية الجودة، كالمشاركة ضمن تجارب قصيرة تشعر فيها بأنَّك متصل ومنسجم مع شخص آخر؛ حيث يشعر كلا الطرفين بأنَّ جهودهم مقدَّرة، كما يشعرون أنَّهم مسموعون ويحصلون على طاقة من التفاعل، ولتحسين هذه الفرص، تحتاج إلى أن تعطي انتباهك الكامل لعملية التواصل، فانظر إلى عينيِّ المتكلم وضع الهاتف جانباً وكن فضولياً واطرح المزيد من الأسئلة وكرِّر ما يقوله.

ضمان السلامة النفسية هو لَبِنَة هامة أخرى لتوطيد التواصل والمشاركة الفعالة في العمل، فأيُّ جهود لخلق اتصالات عالية الجودة ستأتي بنتائج عكسية إذا كان فريقك يشعر بأنَّه سيتم إذلاله أو رفضه أو معاقبته على التحدث أو مشاركة الأفكار أو طلب المساعدة.

وأخيراً، فإنَّ التعرُّف إلى حياة زملاء الفريق خارج العمل هو المفتاح لبناء الثقة والتواصل الاجتماعي؛ لذا ابدأ الاجتماعات بسؤال للاطمئنان السريع على حالهم يطلب من الأشخاص تسمية بعض نقاط قوَّتهم خارج نطاق العمل أو الحديث عن الوظيفة الأولى، أو المكان المفضل، أو أفضل نصيحة تلقوها، ومزج هذه الأوقات المرحة عن طريق افتتاح اجتماعات الفريق مع عرض للصور؛ حيث يشارك شخص واحد 10 صور من حياته غير العملية - العائلة والحيوانات الأليفة والاهتمامات والهوايات والمجتمعات - مع استغراق 10 - 20 ثانية فقط للحديث عن كل صورة، مع عدم وجود وقت للقصص الكاملة، ويساعد هذا التمرين الناس على التعرف بسرعة إلى بعضهم بعضاً وزراعة بذور محادثات أخرى بعد الاجتماع.

المصدر




مقالات مرتبطة