قبل أن تُحدِث فارقاً، عليك بناء العلاقات أولاً

تعود ثقافة أيِّ فريق إلى جهود وأفعال وسلوكات شخص واحد هو "المدير"، وذلك بغضِّ النظر عن الاستراتيجية والتعويضات والامتيازات وساعات العمل المرنة؛ إذ يتعلق كلُّ شيء في حياتنا بالتواصل، بدءاً من: بناء علاقات صحية وممتعة، ومسيرة مهنية مجزية، وحياة مدفوعة بالهدف، وفريق مزدهر وسعيد يتخطى كلَّ المقاييس، وأجرأ على القول؛ إلى تحقيق السلام العالمي والمساواة.



ملاحظة: هذا المقال مأخوذ عن المؤلف "كيث روزن" (Keith Rosen)، والذي يحدثنا فيه عن تجربته في بناء العلاقات مع الآخرين وإحداث فارق في حياتهم.

كنت أجلس في مطعم الفندق لأتناول الإفطار، ولأجهز نفسي ليوم حافل بالاجتماعات المتتالية؛ وبينما كنت أعمل على هاتفي، جاءت نادلة وقدمت نفسها: "مرحباً، أنا مايا، وسأكون في خدمتك هذا الصباح. هل أحضر لكِ شيئاً تشربه؟".

لقد سمعنا جميعاً هذا السؤال كثيراً عند تناول الطعام في مطعم ما؛ لكن لسبب ما، كانت الطريقة التي تحدثت بها النادلة مختلفة جداً؛ ممَّا دفعني لأقول لها: "لنبدأ ببعض القهوة وعصير البرتقال"، فردَّت بحماسة: "عظيم! سأحضر لك ذلك على الفور، وأعود لأخذ طلبك"؛ فقلت في سري: "هذا هو الأمر إذاً".

لقد كانت تبتسم، وهذه صفقة كبيرة لا تعوض: "نادلة مبتسمة!". ربَّما تعتقد أنَّه "يُفترَض أن تبتسم النادلات للزبائن؛ فلا يبدو هذا كأمر جدير بالملاحظة بهذا القدر".

هذا أمر اعتيادي عادة، لكنَّ هذه الابتسامة كانت مختلفة؛ فهي لم تكن مثل تلك الابتسامات المزيفة التي يصطنعها النُّدلُ عند التحدث مع الزبائن، بل كانت ابتسامة حقيقية حقاً، وأستطيع قول ذلك لأنَّها كانت نابعة من القلب.

كانت هذه المرأة سعيدة حقاً؛ وأوصلت رسالتها بأحسن صورة، وقد جذبتني فعلاً؛ لكنَّني اضطررت إلى العودة إلى رسائل البريد الإلكتروني والرسائل النصية خاصتي بأسرع وقت ممكن، حتَّى قبل وصول القهوة.

عادت مايا بعد بضع دقائق مع مشروباتي وأخذت طلبي، وقد فكرت حينها: "لقد أنهيت رسالة، ويجب عليَّ تفقد 20 رسالة أخرى قبل الذهاب"؛ وبينما أنا منهمك في العمل على هاتفي وقد بدأت كتابة رد على رسالة أخرى، قَدِم شخص آخر إلى طاولتي وبدأ التحدث إلي.

سمعت صوتاً ودوداً يقول: "صباح الخير"؛ لم تكن النادلة هذه المرة، حيث توقفت امرأة في منتصف العمر عمداً عند طاولتي بدلاً من الاستمرار في السير، وقد بادلتها  ابتسامتها وحييتها. كنت أرغب في العودة إلى تفقد رسائلي؛ لكن لم يكن هذا جزءاً من جدول أعمالها على ما يبدو؛ لذا لم تسمح لي بذلك، وقالت: "أعجبتني نظارتك".

أجبتها بسرعة: "شكراً لكِ"، وحاولت بذل قصارى جهدي كي أكون مهذباً بينما أحاول إخبارها أنَّني مشغول بعض الشيء، وغارق في المهام الصباحية التي لا تنتهي؛ وقد قلت في سري: "ألا ترى هذه المرأة أنَّني أعمل؟".

شعرت بالانزعاج قليلاً من اختلال نظامي اليومي، لكنَّني تحديت هذا الشعور للحظة؛ ففي عالم نحتاج فيه إلى التشكيك في دوافع الناس، لابدَّ أن أتساءل: هل هذا الشخص صادق حقاً؟ لذا منحتها فرصة، وبدأت أشاركها أكثر في المحادثة؛ فبدأت تتصرف براحة تامة، واتكأت على الطاولة بجانبي، وقد بدا لي بوضوح، أنَّها مهتمة بإجراء محادثة معي.

1. "قبل أن تسعى إلى الخدمة، يجب أن تسعى إلى الفهم":

بادرتها الحديث قائلاً: "إذاً، هل تعملين هنا؟"، فأجابت: "نعم".

كنت ما زلت مقتنعاً أنَّ بإمكاني قطع هذه المحادثة، حتى قدمت نفسها رسمياً وشرعت في الحديث عن أطفالها؛ إذ يسحرني الحديث عن الأطفال، فأتذكر على الفور أهم ثلاث أولويات في حياتي (أطفالي الثلاثة)؛ فلا يسعني إلَّا أن أكون مهتماً بالحديث.

قالت: "بالمناسبة، أنا تريسي؛ وأنا أدير هذا المطعم. من أين أنت؟".

وضعت هاتفي جانباً، مستسلماً لإصرار تريسي ورغبتها في إجراء هذا الحوار؛ وأجبت: "نيويورك"؛ فردت تريسي مطولاً: "يا له من مكان رائع يستحق الزيارة. لدي فتاتان، تذهب أصغرهن إلى الجامعة في الشرق، وهي في سنتها الثانية في جامعة كورنيل، وقد سنحت لنا الفرصة للذهاب إلى مانهاتن عندما زرناها في الجامعة. وابنتي الكبرى على وشك التخرج من جامعة كاليفورنيا، وقد بدأت بالفعل البحث عن عمل"، وتابعت بنبرة صوت مختلفة: "من الصعب جداً العثور على وظيفة تحب القيام بها، وتمكِّنك من تحقيق معيشة جيدة في الوقت نفسه".

لم أستطع الشعور بالقلق من خلال نبرة صوتها فحسب، بل استطعت أن أراه في عينيها أيضاً؛ فقد أظهرت القلق وغريزة الحماية التي يمكن للأم فقط إظهارها عند المحبة والقلق والاهتمام بأطفالها بعمق دون قيد أو شرط.

في هذه المرحلة، أعدت هاتفي إلى جيبي، وهممت بتناول فنجان القهوة؛ بينما واصلت تريسي حديثها عن بناتها. لقد دمجتني تريسي في محادثة معها، لكنَّ ذلك كان أكثر من مجرد تبادل ودي للحديث والمجاملات؛ فقد أنشأت تريسي رابطاً قوياً فيما بيننا.

"إذا أردت تجربة إحساس أكبر بالهدف والشغف والسعادة والشعور بأنَّك تُحدِث تأثيراً؛ توقف عن التركيز على نفسك، وركِّز فقط على الآخرين".

شاركتني تريسي حديثها للحد الذي سمح لإحباطها بالظهور، وتابعت: "لا يمكنني أن أفهم؛ حيث تريد هذه الشركات توظيف شخص يتمتع بتعليم وخبرة ممتازين، دون شغل بعض المناصب الأولية أو العثور على تدريب داخلي رائع؛ فمن أين سيكتسب الشخص الخبرة إذا لم يتمكَّن من الحصول على فرصة للتعلم في الوظيفة وإثبات ما يمكنه القيام به؟ يقول جميعهم أنَّ ابنتي تمتلك كلَّ ما يلزم للوظيفة، باستثناء الخبرة".

نظرت في عيني تريسي وقلت لها: "تريسي، أنا أفهم تماماً كيف تشعرين؛ ومع ذلك، أريدك أن تعرفي أنَّ ابنتيك ستكونان على ما يرام، ولن تنجحا فحسب، بل سوف تزدهر أعمالهما في المستقبل؛ فأنا على يقين من ذلك".

لقد عزز تعليقي هذا شعور تريسي بالطمأنينة والثقة التي لطالما وضعتها في ابنتيها؛ فقالت لي: "شكراً لك كيث، ولكن كيف تعرف أنَّهما ستكونان على ما يرام؟ كيف يمكنك قول ذلك بمثل هذا اليقين؟".

ابتسمت لتريسي وسألتها سؤالاً أعرف إجابته مسبقاً: "تريسي، هل ابنتاك مثلك؟".

فكرت للحظة وابتسمت، ثمَّ أجابت: "نعم، تشبهاني كثيراً؛ إذ يقول زوجي أنَّهما تحصلان على دافعهما وحماسهما المتقد منِّي كربة أسرة".

فقلت لها: "تريسي، ابنتاك محظوظتان للغاية لأنَّ لديهما أمَّاً مثلك؛ وإذا قدمتا نفسيهما بالطريقة نفسها التي تقومين بها، وأظهرتا شخصياتهما الطبيعية والحقيقية؛ سيلاحظ الناس القيمة والشغف والمواهب التي يمكنهما تقديمها إلى أيِّ منصب تتقدمان إليه"؛ فردت تريسي: "يا إلهي! أنت لطيف للغاية لقول ذلك. شكراً جزيلاً لك".

"احرص على عدم تخطي المعجزات اليومية التي تبدو غير هامة في الغالب؛ إذ تجعل مشاركة ذاتك الأصيلة، وجعل الآخرين يشعرون بالتقدير، والإصغاء وفهم الآخرين؛ هذا التواصل الإنساني الرائع أعظم هدية يمكنك تقديمها للآخرين".

كانت استجابة تريسي صادقة، وأستطيع أن أقول أنَّها استمعت حقاً إلى ما قلته واستوعبَته، بدلاً من سماع رأيي بسطحية ورفضه.

تابعت أنا وتريسي نقاشنا لبضع دقائق أخرى حتى استدعتها المضيفة للتعامل مع مشكلة مع زبون آخر؛ وعندها عدت إلى تناول قهوتي التي بردت خلال الوقت الذي كنت أتحدث فيه مع تريسي؛ ولكنَّ الأمر استحق كلَّ هذا العناء، فقد أحدثتُ فارقاً في حياة شخص ما في ذلك الصباح.

عندما ابتعدت تريسي، نظرت في أرجاء المطعم، وقد بدأت -بعد أن خرجتُ من دائرة تفكيري المغلقة، أو بالأحرى من هاتفي- ملاحظة مزيد ممَّا يحدث حولي، أكثر ممَّا فعلت عندما دخلت المطعم في ذلك الصباح.

أمعنت نظرة فاحصة في كلِّ شخص يعمل في هذا المطعم، وأدركت أنَّ تريسي ومايا لم تكونان وحدهما من تبتسمان، بل كان كلُّ من يعمل هناك يبتسم؛ فقد كانت المضيفة عند المدخل الأمامي تبتسم رغم عدم وجود ضيوف لتحييهم في الوقت الحالي.

كان الجميع يبتسمون بينما يأخذون طلباً، أو يقدمون وجبة، أو يتعاملون مع زبون صعب المراس، أو يعودون إلى المطبخ حيث لا يمكن لأحد رؤيتهم (إلَّا إذا كنت مثلي، وكنت تنظر إليهم عن قصد).

"كلُّ شيء له صلة بالموضوع، وكلُّ محادثة تجريها لها أهمية كبيرة؛ فعلى الرغم من أنَّ بعضها قد يبدو تافهاً بالنسبة إليك، إلَّا أنَّ كلَّاً منها يحمل تأثيراً عميقاً يتضاعف بمرور الوقت".

إقرأ أيضاً: الاتصال المؤكد: استيعاب وفهم الآخرين

2. إحداث تأثير:

كيف تتطابق تجربتي مع قدرتك على أن تصبح قائداً ومدرباً رائعاً؟ فكر في تجربة المطعم مع تريسي في بادئ الأمر.

لقد كانت هي المديرة والقدوة التي حددت سير الأمور كما هي عليه، وكانت هي المسؤولة عن تطوير بيئة العمل داخل المطعم، والذي كان نتيجة ثانوية للثقافة التي عززتها بين أعضاء فريقها؛ وهذا بدوره ما خلق ذلك الانطباع الإيجابي لدى كلِّ زبون بعد تناول الطعام في مطعم تريسي.

قبل أن تفترض أنَّك لا تستطيع إحداث فارق في العالم من حولك، وقبل أن تقتنع بعدم امتلاكك قوة الشخصية أو الثقة للتأثير في الآخرين والمساهمة في حياتهم، وقبل أن تعتقد أنَّك لا تزال بحاجة إلى إثبات نفسك أو قيمتك؛ فكر في تريسي، فهي مديرة تُحدِث فارقاً في حياة موظفيها والأشخاص الذين تلتقي بهم كلَّ يوم.

لا تمتلك تريسي هذا التأثير في الآخرين بسبب خبرتها أو تدريبها المسبق؛ بل بسبب كونها تفعل شيئاً لا يقوم به الناس الآخرون -والمديرون الآخرون بشكل أكثر تحديداً- فهم ليسوا حريصين أو مستعدين لبناء رابط صادق وحقيقي مع الناس؛ ولهذا السبب، أيقنت أنَّ ابنتَي تريسي ستكونان بخير.

"يعود الفضل في البيئة والتناغم والثقافة داخل الشركة إلى جهود وأفعال وسلوك شخص واحد، وهو: المدير".

إقرأ أيضاً: 12 فكرة تساعد المدير على تحسين أداءه

3. ترك إرثك:

جعلتني التجربة التي مررت بها مع مديرة المطعم هذه، أفكِّر في المديرين الآخرين الذين أعرفهم؛ وقد كان من المثير للاهتمام أنَّ الشيء الوحيد الذي نادراً ما كنت أسمعه من فِرقهم هو مدى حبهم لمديريهم السابقين.

فكر في حياتك المهنية والمسار الذي سلكته وأوصلك إلى ما أنت عليه اليوم، وفي المديرين الذين تعاملت معهم في المناصب المختلفة التي شغلتها؛ ثمَّ اسأل نفسك الأسئلة الآتية:

  1. هل مديرك هو أول شخص تذهب إليه للحصول على التدريب والتوجيه المهني والمشورة على الصعيدين الشخصي والمهني؟
  2. كم عدد المديرين الذين ألهموك وشجعوك على أن تكون أفضل نسخة من نفسك حتى تتمكَّن من تحقيق أقصى إمكاناتك؟
  3. كم عدد المديرين الذين تواصلت معهم على مستوى شخصي عميق، بعيداً عمَّا يجب القيام به للحفاظ على أرقام مبيعاتك وتحقيق أهداف عملك؟
  4. هل تقوم العلاقة التي تربطك بمديرك على الولاء والثقة والشفافية والدعم غير المشروط، والاحترام المتبادل؟
  5. كم عدد المديرين الذين غيروا حياتك ومهنتك للأفضل بشكل لا يُنسَى حقاً؟
  6. كم عدد المديرين السابقين الذين ما زلت على علاقة طيبة معهم؟

يؤدي إنشاء أرضية مشتركة ومشاركة الخبرات الشخصية مع الآخرين إلى تعزيز تواصل أعمق، ممَّا يسمح للناس بالشعور على النحو التالي: "نحن متماثلون؛ فهو  يصغي إلي ويفهمني حقاً، وأنا أشعر بالتقدير والقيمة؛ لذا أنا أثق به".

تخيل ما قد يتحقق لو أنشأت مثل هذا التواصل مع كلِّ شخص في العمل، وفي المنزل؟

قبل أن تتمكن من إحداث فارق، عليك إنشاء رابط؛ فالطريقة الأكثر فعالية للتواصل وإلهام الآخرين لتحقيق أكثر ممَّا يعتقدون، هي مشاركة حياتك وإنسانيتك مع الآخرين، وحتى نقاط ضعفك.

خذ ذلك في عين الاعتبار، فقد حددت اختياراتك بالأمس حياتك وإرثك اليوم، وستحدد الخيارات التي تتخذها اليوم الحياة والإرث الذي تريده غداً.

عليك أن تتذكر دوماً أنَّ الأمر متروك لك لتحدد أيَّ حياة وأيَّ إرث سوف تتركه للمستقبل.

"إذا كنت تريد أن تحدث فارقاً، فيجب عليك أن تحدث تأثيراً إيجابياً يشعر به فريقك ويلمسه فعلياً؛ لذا ابدأ إيلاء الاهتمام الكافي لتدريب موظفيك والتواصل معهم".

 

المصدر




مقالات مرتبطة