فلسفة التربية: تعريفها وأهدافها واتجاهاتها

تقوم العلوم بشكل عام - والعلوم الإنسانية بشكل خاص - على مد الفعل التربوي بما يحتاج إليه من وسائل منهجية وأدوات عمل هامة لإكماله، بينما تستمد فلسفة التربية أسسها من غاية وجود التربية؛ وهي الإنسان وعلاقته بالمجتمع؛ إذ تعمل فلسفة التربية على استيعاب التربية في مضمونها الكلي، وتفسيرها عن طريق مفاهيم عامة تتيح لنا اختيار السياسات التربوية.



تتضمن فلسفة التربية القدرة على تطبيق التفكير الفلسفي في ميادين التربية؛ إذ تصبح الفلسفة كما قال جون ديوي: "النظرة العامة للتربية"، وفي مقالنا هذا سنتعرَّف إلى فلسفة التربية بشكل أوسع وإلى أهدافها واتجاهاتها.

ما هي الفلسفة؟

الفلسفة بصورة عامة هي طريقة التفكير في كل الموجودات ومعرفة الأشياء؛ وذلك اعتماداً على التركيب والتحليل المنطقي والنقد والسؤال والتأمُّل؛ إذ يقول ياسبيرز: "الأسئلة في الفلسفة أكثر أهمية من الأجوبة، وكل جواب يصبح بدوره سؤالاً جديداً"؛ إذ يُعرَف الفيلسوف بأنَّه من يبدأ بسؤال وينتهي باستفهام، ومن خلال سؤاله يقترح أجوبة وحلولاً ويحاول تبريرها وتفسيرها، وينقد غيرها ويشرحها ويفسرها ببراهين وحلول أخرى.

ما هي التربية؟

تُعرَف التربية كما قال ريبول بأنَّها: "العملية التي تسمح للكائن البشري بتنمية قدراته الجسمانية والعقلية، وكذلك عواطفه الاجتماعية والجمالية والأخلاقية بهدف تحقيق مهمته كإنسان".

أي هي تقوية الجسم وملئه بما يحتاج إليه من طعام وشراب ليصبح قوياً قادراً على مقارعة الحياة، وهي الرعاية التي تُعطى للإنسان في أثناء المراحل الأولى من حياته وتستمر حتى يشتد ساعده، وتشمل الأسس الأخلاقية والجسمانية؛ الأمر الذي يُكسِب الشخص القواعد والسلوك الصحيح الذي ربَّتهُ عليه أسرته ومجتمعه، كما تشمل التربية النمو الثقافي والمعرفي الذي يحتاج إليه الفرد ليصبحَ ذا شأن مستقبلاً.

ما هي فلسفة التربية؟

فلسفة التربية هي وسيلة لتطبيق الفكر الفلسفي على عمليَّة التربية؛ إذ تصبح فلسفة التربية عبارة عن نشاط منتظم للفكر، يعتمد على الفلسفة في تقوية العملية التربوية وتنظيمها وتنسيقها ويوضِّح الأهداف القائمة عليها والساعية إلى تحقيقها.

تُعَدُّ فلسفة التربية جزءاً خاصاً من الفلسفة، بينما التربية هي التطبيق العملي لأبعاد الفلسفة النظرية، وتتشارك الفلسفة مع التربية بعلاقة وطيدة؛ إذ إنَّ التربية بلا فلسفة هي نشاط بلا هدف، والفلسفة بلا تربية عبارة عن بزخ فكري بلا قيمة.

تُعَدُّ فلسفة التربية عملية بسيطة خالية من التعقيدات وتعمل على حل المشكلات والخلافات المجتمعيَّة، فعندما يتم تنشئة الأجيال على الفلسفة الصحيحة والضوابط التربوية ويعمل المجتمع على إبراز قيمه الفلسفية التربوية وفرضها على أفراده، يصبح المجتمع خالياً من الصراعات، وينشأ جيل يعرف كيفية احترام الثقافات والقوانين المختلفة بين المجتمعات.

بالإضافة إلى ذلك تؤدي فلسفة التربية إلى جعل أفراد المجتمع قادرين على تحديد مشكلاتهم، والتفكير في حلول وإصلاحات، والعمل على معالجتها اعتماداً على ما علَّمتهم إياه الفلسفة من طرائق حل المشكلات والتفكير البنَّاء والنقد والبحث عن حلول منطقية، ليبقى مجتمعهم ضمن المجتمعات المتطوِّرة التي تواكب التقدُّم ويبتعدوا عن الرجعيَّة ويحدُّوا من الجهل الذي يُضعِف المجتمعات ويؤدي إلى دمارها.

أهمية فلسفة التربية:

لفلسفة التربية الأهمية الآتية:

  1. تعمل فلسفة التربية على إيضاح ماهيَّة النشاطات التربوية، وتنظيمها؛ إذ تصبح نشاطات واضحة تحقق الأهداف المرجوَّة منها بدلاً من كونها نشاطات عشوائية.
  2. تسعى فلسفة التربية إلى إدراك العلاقة بين العمل التربوي ومجالات الحياة المرتبطة به.
  3. تساهم فلسفة التربية في تحديد السياسة التربوية والعمل على بناء نظم التعليم وأدوات التدريس ومحتويات المناهج وأساليب التربية والتعليم ومبادئها وأهدافها، والنظام الإداري التابع إليها.
  4. تعمل فلسفة التربية على تعزيز إمكانية طرح الأسئلة ذات التوجُّهات التربوية والقدرة على إعدادها، وإنشاء وسائل فكرية جديدة تعزز نمو المجال التربوي، وتُلغي التناقضات الحاصلة في الجوانب العملية والتطبيقية فيه.
  5. تساعد فلسفة التربية المدرسين على فهم البرامج التعليمية، بالإضافة إلى الأسس المُتعلِّقة بالتربية والقدرة على طرح آرائهم ومناقشتها والنقد البنَّاء.
  6. توفِّق فلسفة التربية بين الأشخاص والبيئة المحيطة؛ الأمر الذي يقوي قدرتهم على فهم الظروف المحيطة بهم والعمل على تغييرها إلى ما يناسبهم.

شاهد: قواعد هامة في تربية الطفل الوحيد

أهداف فلسفة التربية:

تهدف فلسفة التربية إلى خدمة المصلحة العامة عن طريق تطوير الفرد والمجتمع، ويُوضَّح ذلك فيما يأتي:

  1. تهدف فلسفة التربية إلى نشر التفاهم والعمل الأخلاقي.
  2. تعزيز احترام الذات وتقوية الفكر الديموقراطي والتصالح مع النفس وتحقيق الحرية وذاتية الحكم.
  3. تسعى فلسفة التربية إلى إنشاء مواطنين صالحين يسمُون بمجتمعاتهم.
  4. إنشاء مؤسسات تربوية تقوي قدرات أفرادها على الاستكشاف والبحث والاستطلاع الذي يُكسبهم الرغبة والحافز على السؤال والاستفسار عن كل شيء.
  5. إغناء الوعي السياسي وتطوير مبادئ العمل الجاد.
  6. تهدف فلسفة التربية إلى جعل أفراد المجتمع مواكبين لكل ما هو حديث؛ إذ يجارون التقدُّم التكنولوجي وتزيدهم رغبة في التطوُّر وتحقيق الإنجازات تجاه مجتمعهم.
  7. تحارب فلسفة التربية العقليات الرجعية وسياسات التشدُّد والانغلاق، وتسعى جاهدة إلى جعل المجتمع منفتحاً على غيره ومواكباً للتطوُّر الحضاري المستمر والمتزايد.
  8. تشجِّع النقد البنَّاء والسؤال والشك والقدرة على تحليل المواقف والمشكلات والعمل على إيجاد حلول لها.
  9. تكوين مناخ متوازن يجمع بين حقوق المواطنين وواجباتهم وبين مجتمعهم فيما يعود بالفائدة العامة عليهم وعلى مجتمعهم.
  10. تهدف إلى نشر الإيجابية والتعاون والتكاتف الاجتماعي بين الأفراد فيما يخدم ويساعد المجتمع والمصلحة العامة.

اتجاهات فلسفة التربية:

لفلسفة التربية ثلاثة اتجاهات صنَّفها الفلاسفة، وكل اتجاه يهتم بدراسة فلسفة التربية بطريقة معينة، كما يأتي:

  1. الاتجاه الطبيعي: هو اتجاه في الفلسفة التربوية ينحدر عن الفلسفة الإسلامية وبالأخص عن فلسفة ابن سينا وابن طفيل، ولكنَّه يُنسَب إلى الفيلسوف جان جاك روسو الذي عمل على الأخذ بتعاليمهم ودراستهم للفلسفة لإيضاح الاتجاه الطبيعي وإغنائه، ويتلخَّص الاتجاه الطبيعي في أنَّ الإنسان يُولَد ولديه مهارات فكرية وجسدية معينة، ويجب على المجتمع احترامها والعمل على تطويرها ومساندة الطفل وعدم ردعه وتثبيط قدراته ومحاولة التأثير السلبي فيه، كذلك يُعَدُّ التفاعل الذي يحدث بين الطفل والطبيعة المحيطة به في سنوات حياته الأولى من أهم العوامل التي تساعد على تطوير القدرات العقلية والحسية والجسدية الخاصة به.
  2. الاتجاه البراغماتي: هو اتِّجاه في الفلسفة التربوية أسَّسه الفيلسوف جون ديوي بمشاركة بعض من الفلاسفة الآخرين، ويعمل على تعليم الإنسان كيف يفكِّر ويحلل؛ الأمر الذي يساعده على الانخراط في المجتمع ومجاراة تغييراته وتطوراته، وهنا يأتي دور المؤسسات التعليمية التي تعمل على تقوية المهارات والخبرات الفكرية والعملية من خلال دعم المواهب والمتابعة الصحية وتنمية القدرات العقلية والجسدية والاجتماعية، وتعليم المهارات المهنية والمساعدة في النشاطات الاجتماعية وغيرها؛ وذلك لمساعدتهم على الاندماج بالمجتمعات والانفتاح عليها ومتابعة التغييرات والتأقلُم معها والعيش بسعادة قدر الإمكان.
  3. الاتجاه التكويني: هو اتجاه في الفلسفة التربوية شارك في وضع دعائمه وأسسه المفكر جان بياجيه، وقد عمل على دراسة البناء الفكري المتسلسل الذي ينمو مع نمو الإنسان عبر الزمن؛ إذ درس بياجيه التفكير وطبيعة المنطق والمعرفة عند الأطفال، وتبيَّن أنَّ الذكاء ينمو مع نمو الطفل ويعتمد على طريقة التنشئة التي نشأ عليها الطفل في كل مرحلة من مراحل نموه، وفي كل مرحلة عمرية كان يلاحظ أنَّ الطفل يُظهِر فكراً وبناءً ذهنياً معيَّناً.

هذا ما جعله يدرك أنَّ الذكاء لا يُولَد مع الطفل أو يرثه بالجينات، ولا يتأثر في المحيط الخارجي والمؤثرات الاجتماعية، ولكنَّه يتطور كلما تجاوز مرحلة نمو معيَّنة ويُصقَل نتيجة الدعم والتربية الصحيحة ومشاركة الطفل بالنشاطات والتفاعل مع المجتمع المحيط به.

إقرأ أيضاً: ما هو الفرق بين التربية المشتركة والتربية المنفصلة؟

وظائف فلسفة التربية في النظام التربوي:

فلسفة التربية لها وظائف في النظام التربوي، وتتمثل بما يأتي:

  1. الوظيفة المعيارية: وهي الوظيفة التي تعتمد على التوعية والتوجيه وتعزيز القيَم والمعايير اللازمة لبناء المجتمعات المتماسكة والمثالية؛ إذ توفِّر فلسفة التربية هذه القيم والمعايير وتعليم الأفراد كيفية الاهتمام بالحقائق العلمية والاجتماعية لتعزيز الثقافة واستمرار التطوُّر.
  2. وظيفة النظرية إلى الممارسة: تُعَدُّ كافة الأسئلة والتحليلات والأفكار والاستنتاجات والمفاهيم المتداولة والمُنشأة لفلسفة التربية عبارة عن نظريات يجب إثباتها، ولا يمكن إثباتها إلَّا بإخضاعها إلى التجربة والتطبيق، عن طريق إدخالها في الممارسات التربوية؛ إذ تُوفِّر الفلسفة الأسس العامة لممارسة وتطبيق النظريات.
  3. وظيفة المضاربة: تتضارب فلسفة التربية ووظيفة التربية من حيث الأسس؛ إذ إنَّ كلَّاً من التربية وفلسفتها تحاولان فهم قضية التعليم والتربية والعوامل المؤثرة فيهما، وأيضاً تحاولان وضع صياغة وصفيَّة لهذه القضية بشكل متضارب ومتكامل في نفس الوقت؛ إذ أضافَت فلسفة التربية إلى التربية والتعليم العديد من الوسائل والأدوات المفيدة التي أغنَت عملية التعليم وزادت من إنتاجيتها وتطوُّرها.
  4. الوظيفة التكاملية: تُعَدُّ فلسفة التربية كالعقيدة الروحية لعملية التعليم؛ إذ إنَّ لهذه الفلسفة وظيفة مكملة للتعليم كالروح للجسد، فكما لا حياة للجسد بلا روحه، هنا لا معنى للتعليم بلا فلسفته.
  5. الوظيفة النقدية: تعمل فلسفة التربية على إخضاع الآراء والبيانات العلمية والطرائق التدريسية إلى التحليل والاستطلاع والنقد البنَّاء القائم على التحليل العقلاني؛ إذ تُخضِع هذه الفلسفة المعلومات المتوافرة إلى المناقشة والتساؤلات والنقد، وتعمل على وضع الفرضيات المنطقية التي تتيح كشف المشكلات واقتراح حلول لها والبحث عن نقاط الضعف في مجال التدريس والتعليم.
إقرأ أيضاً: ما هي أساليب التربية الحديثة لبناء جيل مثقف؟

في الختام:

لقد تعرَّفنا في هذا المقال إلى مفهوم الفلسفة ومفهوم التربية منفصلين، وبعدها تحدَّثنا عن فلسفة التربية وأهميتها وأهدافها، وبيَّنا اتجاهاتها ووظائفها في المجال التربوي، على أمل تحقيقه للفائدة المرجوَّة منه.

المصادر:

  • 1،2،3،4،5
  • فلسفة التربية، سهام المحمدي



مقالات مرتبطة