حرر نفسك من خلال تطوير عقلية النمو تجاه القلق

تخيَّل شخصاً يجلس لإنجاز واجباته في الرياضيات، ولكنَّه يواجه صعوبة في حل السؤال الأول ولا يتذكر ما إذا كان أخذ هذا النوع من المعادلات في الفصل الدراسي أم لا، فلا يعرف من أين يجب عليه أن يبدأ، ومن ثم يمسك هاتفه ليتفقد حسابه على منصة "إنستغرام" (Instagram)، وسرعان ما انتقل إلى تصفح "يوتيوب" (YouTube)، يليه "تيك توك" (TikTok)؛ لتمر ساعة دون إنجاز أي شيء من واجبه، فهل هذه علامة على أنَّه طالب كسول؟ ربما يعاني من اضطراب نقص الانتباه مع فرط النشاط (ADHD)؟ أم أنَّ هناك أمراً آخر يحدث؟



اعتقد الباحثون لبعض الوقت أنَّ موقفك تجاه مهاراتك وقدراتك الخاصة سوف يؤثر في كيفية تعاملك مع هذا النوع من الحالات، وقد أظهر البحث الذي أجرته عالمة النفس "كارول ديوك" (Carol Dweck) أنَّ أولئك الذين لديهم عقلية النمو - الذين يعتقدون أنَّ الذكاء مرن وأنَّ المهارات قابلة للتطوير - سوف يستجيبون بشكل أفضل في المواقف الصعبة، وفي المقابل أصحاب العقليات الثابتة الذين يعتقدون أنَّ الذكاء والقدرات غير قابلة للتطوير، هم أكثر عرضة للاستسلام بسرعة في المواقف الصعبة.

لقد أُولي اهتمام أقل بالمواقف التي يبديها الناس تجاه عواطفهم، ولكنَّني أنا وزملائي اكتشفنا وجود اختلاف في معتقدات الأفراد بخصوص تبدل أو ثبات مشاعرهم، وهذا من ثم يُحدِث فارقاً كبيراً في كيفية استجابتهم إلى تلك المشاعر.

إقرأ أيضاً: أساليب تطوير الذات: 14 طريقة لتطوير مهاراتك الشخصية

الاهتمام بعقلية النمو:

نحن مهتمون بشكل خاص بعقلية النمو والعقلية الثابتة التي يملكها الأفراد حول القلق، ولقد وجدنا أنَّ الأفراد الذين لديهم عقلية ثابتة تجاه القلق يميلون إلى رؤيته كجزء أساسي من تكوينهم وغير قادرين على التحكم به؛ في حين يرى أولئك الذين لديهم عقلية النمو القلق أنَّه حالة مؤقتة - حتى وإن كانت غير سارة - لكن يمكن التعامل معها، والأهم من ذلك أنَّ تجربة القلق الحاد ليست حكراً على أولئك الذين لديهم عقليات ثابتة؛ فيمكن أن تصيب درجات متفاوتة من القلق الأفرادَ ذوي العقلية الثابتة أو عقلية النمو على حد سواء.

أظهرت أبحاثنا أنَّ أولئك الذين يؤمنون بإمكانية التخلص من القلق - إمَّا من تلقاء نفسه أو من خلال استعمال مهارات التكيف - هم الأوفر حظاً للاستجابة والتكيف في المواقف الصعبة، مقارنة مع أولئك الذين يعتقدون أنَّ القلق حالة ثابتة، على سبيل المثال، أولئك الذين يعتقدون أنَّ القلق قابل للزوال هم أقل عرضة إلى استعمال استراتيجيات التكيف السلبية، مثل تعاطي المخدرات أو إيذاء النفس أو التجنب العاطفي عند مواجهتهم لمواقف الحياة الصعبة، وبدلاً من ذلك من المرجح أن يتعاملوا مع المشاعر غير المريحة ويتحدوا أفكارهم السلبية من أجل الشعور بتحسن.

لقد وجدتُ أيضاً من خلال عملي السريري والاطلاع على بعض الأبحاث أنَّ الأفراد الذين يتمتعون بعقلية النمو، تكون فاعلية العلاج لديهم في مواجهة القلق أكثر جدوى من أولئك ذوي العقليات الثابتة، ومع أخذ ردود الأفعال الناجمة عن القلق في الحسبان، يمكننا دراسة ما قد يحدث عند وقوع الأشخاص في مأزق ما، مثل ما حدث مع الشخص في مثالنا السابق، وأدعو هذه اللحظات بلحظات الجهل؛ إذ عند قيامك بأمر جديد مثل تعلم برامج مختلفة في العمل أو تجميع الأثاث يدوياً، فعندها تُدرك أنَّك لا تعرف كيف تنجز أمراً ما بسهولة، وأنَّه يجب عليك تعلُّم شيء جديد.

هذه هي الحالات مثالية لدراسة عملية القلق؛ إذ تسبب مثل هذه المواقف للجميع مشاعر سلبية، ولكن يختلف الأفراد في كيفية الاستجابة إلى تلك المشاعر.

شاهد بالفيديو: 8 خطوات لاكتساب عقلية النمو في الأعمال.

الاهتمام بلحظات الجهل:

في الواقع ينبع اهتمامي بلحظات الجهل من تجربتي الخاصة مع الكتابة، وبصفتي اختصاصياً نفسياً سريرياً؛ فإنَّني أكتب الكثير من المقالات البحثية والملاحظات السريرية ووصولاً إلى آراء الأقران بعمل الباحثين الآخرين، وغالباً ما أجد صعوبة في اختيار الكلمات والعبارات الملائمة لإيصال المعنى في أثناء الكتابة، ففي هذه اللحظات أشعر بقلق شديد وبرغبة قوية في تفقد هاتفي وحساباتي على مواقع التواصل الاجتماعي لتشتيت انتباهي بطريقة ما.

يُعَدُّ التجنب أحد أسوأ الأشياء التي يمكنك أن تقوم بها؛ وذلك لأنَّه يُبقيكَ قلقاً لفترة طويلة. عندما يحدث هذا وعلى الرغم من صعوبة المحاولة، إلَّا أنَّني أحاول دائماً أن أتبنى عقلية النمو؛ إذ أُذكِّر نفسي بأنَّه من الطبيعي تماماً أن أشعر بالقلق والإحباط والخيبة عند مواجهتي للفشل أو عند مواجهة أمر أكثر صعوبة مما كان متوقعاً، وهذا ما نفعله مع تلك المشاعر التي ستملي علينا ما إذا كنا سنواجه الصعاب وننجز مهامنا بنجاح.

أحاول دائماً - بصفتي اختصاصياً نفسياً سريرياً - أن أساعد عملائي على الصمود في مثل هذه اللحظات، وأحاول أنا أيضاً القيام بالمثل، ويوجد الكثير من الناس الذين يشعرون بالقلق في لحظات من الجهل وينتهي بهم المطاف في تجنب مسؤولياتهم تماماً، وهذا ينطبق على أي شخص يعاني من القلق بصفة عامة؛ إذ إنَّهم يميلون إلى تجنُّب المواقف التي تجعلهم قلقين؛ وهذا يؤثر سلباً في قدرتهم في عيش حياة طبيعية.

التجنب أمر يسهل فهمه، والقلق أمرٌ غير سار، كما أنَّه يتوافق مع ما يسمى بمبدأ "المجهود الأقل"، الذي ينطبق على جميع الكائنات الحية؛ إذ عندما نُعطَى حرية الاختيار، فسنختار الطريق الأقل وعورة، ولكنَّ التجنب هو أحد أسوأ الأشياء التي يمكنك القيام بها؛ وذلك لأنَّه يبقيك قلقاً لفترة طويلة.

إقرأ أيضاً: مرض القلق النفسي: أسبابه، أنواعه، أعراضه، علاجه

العلاج بالتعرض:

"العلاج بالتعرض" هو أحد أشهر الطرائق لعلاج القلق وأكثرها استعمالاً؛ إذ يُطلَب من الفرد محاولة استحضار المواقف والذكريات التي تسبب له القلق والخوف، والعلاج بالتعرُّض يركز في مبدأين: أولاً، قد لا يكون الموقف الذي يتم تجنبه بهذه الخطورة التي يتصورها الشخص، أما المبدأ الثاني فهو أنَّ مشاعر القلق والخوف ليست خطيرة كما يعتقد الشخص، بفضل وجود استراتيجيات التكيف يمكن أن تساعد على التعامل مع هذه المشاعر.

ويمكن تطبيق هذا المبدأ نفسه خلال لحظات الجهل، والتعرُّض إلى مثل هذه المواقف على الرغم من أنَّ الشعور بالقلق يمكن أن يمثل فرصةً لمواجهة مثل هذه المشاعر غير المريحة، وإدراك أنَّها لن تستمر إلى الأبد، والاستمرار في العمل على هذه المشكلة سوف يعلمك أيضاً أنَّه يمكنك التعامل مع الشعور بالقلق، على الرغم من شعورك بعدم الراحة في أثناء ذلك.

يمكن أن تساعدك المثابرة أيضاً على تجاهل الأفكار غير المفيدة التي قد تراودك حول قدراتك ومخاوفك من أن تسوء الأمور أكثر، على سبيل المثال، ربما قد تكون تعلمت في مرحلة ما أنَّ المحاولة الجاهدة ومواجهة صعوبات التعامل مع الأمور الجيدة يعني أنَّك غبي، أو تلقيت رسالة مفادها أنَّه يجب أن تنجح من المحاولة الأولى عند تجربتك لشيءٍ جديد، أو أنَّه يجب عليك تجنب الأخطاء مهما كلف ذلك، فقد تعتقد أنَّ عدم معرفتك لأمر ما سيؤدي إلى انتهاء علاقاتك الاجتماعية أو أنَّك لا تستحق أن يُحبك الآخرون؛ كل هذه الأفكار يمكن أن تقودك إلى الاعتقاد - بشكل غير دقيق - بأنَّ عدم معرفة شيء ما أمر خطير، وهذا ما يجعلك تشعر بالقلق.

لحظة من الجهل:

في المرة القادمة التي تواجه لحظة من الجهل، كن فضولياً حول مشاعرك واطرح بعض الأسئلة مثل: "لمَ أشعر بهذا؟" و"بمَ أواسي نفسي؟" يمكن أن يؤثر التعاطف مع الذات تأثيراً عميقاً في تحسين حالتك أيضاً. تذكَّر بأنَّك لست على خطأ ولست غبياً إن لم تتمكن من فهم الأشياء على الفور، ومن ثم قسِّم المهمة إلى خطوات أو أجزاء.

بالنسبة إلى حالي مع الكتابة، وجدت أنَّه من المفيد أن أضبط منبهاً وأن أقسم العمل إلى أجزاء وخاصةً إذا شعرت بأنَّ هذا القلق سيثير قلقي أكثر، فعلى سبيل المثال، كتبتُ هذا المقال في فترات تراوحت مدة كل منها بين 15-30 دقيقة.

أرى لحظات الجهل كعالم مصغر من القلق عموماً؛ إذ إنَّ العواقب المترتبة على وجود عقلية ثابتة تجاه القلق في اللحظات العابرة قد تكون مدمرة، وسيؤدي بك التجنب إلى تفويت الكثير من الأحداث في حياتك وسيحد من قدراتك على التطور والتعلم، ولكن من خلال المثابرة في أداء عملك سترى تدريجياً أنَّك قادر على فعل أكثر مما كنت تعتقد، وأنَّ أفكارك السلبية ليست صحيحة، كما أنَّ أفضل طريقة للحد من القلق هي مواجهة الشيء الذي كنت تتجنبه.

في الختام:

فكلَّما زاد تركيزك وإصرارك وعزيمتك في أداء المهمة في أثناء مراودة تلك المشاعر السلبية لك، تعلمت أنَّ هذه المشاعر لن تدوم إلى الأبد؛ بل ستزول بمفردها، وستبدأ بتغيير قناعاتك عنها، وكما نقول في العلاج بالتعرُّض: تعلُّم كيفية مواجهة القلق هو مهارة تتطلب الممارسة، تماماً مثل تعلم أيَّة مهارة جديدة.

المصدر




مقالات مرتبطة