جلد الذات: تعريفه، وأسبابه، وأضراره، وكيفية التخلص منه

نحن نخطط لتفاصيل حياتنا بطريقة دقيقة، ونسعى بكل ما أوتينا من قوة لتحويل التخطيط إلى واقع فعلي، وذلك وفقاً للإمكانات المتاحة، متفائلين بقدراتنا وواثقين بالله عز وجل وبكرمه اللَّامحدود، ولكن ليس بالضرورة أن نُوفَّق دائماً للوصول إلى ما نريد، الأمر الذي يصدمنا بداية ويشوش تفكيرنا ويقتص إيجابيَّتنا.



وتتنوَّع ردات أفعالنا فيما يخص الاستجابة لتلك الصدمة ما بين استجابات منطقية وواعية؛ بحيث تجلس مع ذاتك جلسة مصارحة، باحثاً عن السبب الأساس الذي أوصلك إلى ما أنت عليه، محلِّلاً أفكارك ومعتقداتك وما أسفر عنها من تصرفات وسلوكات، مدوناً ذلك في أجندتك، محاولاً الوصول إلى جذر المشكلة لاجتثاثه والبدء من جديد بطريقة جديدة مستفيداً من الدروس السابقة، أما النمط الثاني من الاستجابات؛ هي الاستجابات التدميرية؛ بحيث تجلس مع ذاتك جلسة تأنيبية، مستخدماً أقسى الأدوات لجلدها بمنتهى القسوة والصرامة، ولن يشفي نار غضبك إلَّا رؤيتها مكسورة وحزينة ومحطمة، ضارباً المزايا الحقيقية التي يملكها الإنسان وما يتمتع به من تكريم ربَّاني عرض الحائط.

ما الاستجابة التي تتبناها في الحالات التي لا تتوافق فيها مخططاتك مع الواقع؟ إن كنتَ من عشاق جلد الذات وتحطيمها والنيل من استقرارها وهنائها؛ فابقَ معنا في هذا المقال.

ما هو جلد الذات؟

هو محاسبة النفس بطريقة فيها إجحاف شديد، وقسوة كبيرة، والشخص القوي هو مَن يكون مسؤولاً عن نتائج أفعاله، ويراقب أفكاره وتصرفاته ويحللها مكتشفاً الخطأ الذي أدَّى إلى وجود أيَّة نتيجة سلبية. تتحول المسؤولية الرائعة التي يتمتع بها الشخص إلى شعور مرهق وقاتل إن تمادى الإنسان في محاسبة نفسه متجاهلاً كل الظروف المحيطة به مهما كانت قاسية، مُحمِّلاً ذاته المسؤولية التامة عن النتيجة، من دون وجود أية رحمة أو شفقة بها. إنَّه الوجه المضاد للتعاطف الإنساني.

لماذا نجلد ذواتنا؟

1. التربية:

يتبع معظم الآباء طريقة التربية المثالية، بحيث يرفضون رفضاً قاطعاً وقوع أطفالهم في الخطأ، فتجدهم دائمي النقد لهم، ودائمي التركيز على السلبيات مهما كانت صغيرة، الأمر الذي يصنع من الطفل شخصاً ساعياً إلى الكمال، غير متقبل للخطأ، ويكره ذاته في حال عدم وفائه بالمعايير الموضوعة بطريقة حرفية، ومن جهة أخرى، قد يكون بعض الأطفال حساسين للغاية في مرحلة الطفولة، ومن جراء عدم وعي الأهل للتعامل مع هذه الحساسية؛ قد تتمادى الحالة لديهم إلى مرحلة جلد الذات، فقد يجدون أنفسهم المسؤولين عن عصبية أمهم وقسوة أبيهم، تحديداً إن كان الأم والأب من ذوي الشخصيات النرجسية، الذين لا يوفرون جهداً لإضعاف الآخر وجعله يشعر بالذنب وعدم الكفاية.

إقرأ أيضاً: 5 أساليب تربوية خاطئة يُمارسها الأهل تجاه أطفالهم

2. الهروب من الفشل:

قد يلجأ بعضهم إلى جلد الذات للهروب من مواجهة أخطائهم، حيث لا يملكون الجرأة للجلوس مع ذواتهم والاعتراف بما اقترفوه من أخطاء بهدف تقويمها والرفع من سوية حياتهم؛ فيميلون إلى اتباع أسهل طريقة وهي جلد ذواتهم، وإهانتها ونعتها بأسوأ الصفات، لاعتقادهم الضمني أنَّ جلد الذات أسهل لهم من جلسة المصارحة مع الذات.

3. الحديث السلبي:

يُدمِن بعض الأشخاص الحديث السلبي مع أنفسهم، فتجدهم محترفين في تصويب أصابع الاتهام إلى ذواتهم مباشرة في حال تعرضهم لأي مشكلة من المشكلات، فيُسارعون إلى القول: "أنا غبي"، "حظي سيء جداً وسيبقى كذلك"، "أنا غير نافع في أي شيء"، حيث يعتمدون على استراتيجية جلد الذات في اللَّاوعي وكأنَّهم يسقطون ما اختبروه من تجارب قاسية في الماضي على حاضرهم ومستقبلهم، غير مقتنعين بقانون الحياة الأساسي "المحاولة والتكرار والاستفادة من التجارب للوصول إلى النتيجة المبتغاة"، وغير مؤمنين بفكرة "الخطأ موجود لكي نتعلم ونتطور من خلاله وليس لكي نجلد ذواتنا".

4. المعايير العالية:

يطمح كثيرٌ من الناس إلى الكمالية، رافضين الوقوع في الأخطاء تماماً، مقيدين ذواتهم بمعايير عالية جداً، متعاملين بصرامة شديدة مع ذواتهم في حال الانحراف عن تلك المعايير ولو قليلاً، فَهُم من أتباع سياسة "كل شيء"، أو "لا شيء"؛ أي أنَّهم لا يعترفون بوجود المنطقة الرمادية في الحياة، فالحياة بنظرهم إمَّا أسود أو أبيض، بحيث يطغى عليهم إحساس انعدام القيمة والنفع في حال وقوعهم بالخطأ.

ما الذي تخسره إن واظبتَ على جلد ذاتك؟

1. السخط المستمر:

ستخسر السعادة تماماً في حال واظبتَ على جلد ذاتك، فقد تفكر أنَّك قد تنتج أكثر في حال قمت بمحاسبة ذاتك بتلك الطريقة، وسيكون لديك دافع أكبر للعمل والسعي إن اعتمدتَ أسلوب التحقير وإهانة النفس، ولكن السؤال هنا: "هل تريد أن تصل إلى أهدافك وأنت تُحقِّر نفسك من الداخل، وتنعتها بأسوأ الألفاظ، هل هذا هو شكل الحياة الذي تتمناه؟ من جهة أخرى، أنت لن تحقق أهدافك بأسلوب جلد الذات، فقد ينفعك هذا السلوك في البداية، ولكنَّه سيؤذيك في النهاية وسيجعل منك شخصاً لا مبالياً وسلبياً، حيث يؤدي الضغط الكبير على الذات إلى نتائج كارثية.

سينخفض تقديرك لذاتك كثيراً في حال استمرارك في جلد الذات، وستشعر بعدم استحقاقك لأي شيء في الحياة، حيث يخلق الأسلوب السلبي في التعاطي مع الذات؛ ميلاً إلى إدمان وعي الضحية، بحيث يجد الإنسان ذاته أضعف من الآخرين، فيميل إلى الاعتذار بطريقة مبالغ فيها محمِّلاً ذاته مسؤولية كل شيء؛ في حال وجود مشكلة بينه وبين أي شخص.

2. الكآبة:

سيؤدي إدمانك على جلد الذات إلى الإصابة بالكآبة، حيث سيصل بك الحال إلى حالة من رفض الذات ومن ثمَّ رفض الحياة نتيجة استمرار شعورك بمشاعر سلبية قاتلة.

إقرأ أيضاً: 7 علامات تشير إلى أنّك قد تصاب بالاكتئاب قريباً

كيف أتخلص من جلد الذات؟

1. الوعي:

عليك أن تدرك الفرق ما بين محاسبة النفس وجلدها، فعلينا كلنا مراقبة أنفسنا، وتحليل تصرفاتها بهدف الاستفادة من الأخطاء ومنع تكرارها، ولكن عندما يتمادى الإنسان في محاسبة ذاته إلى درجة إلغاء الهدف الأساس من المحاسبة الذي يركِّز على الرفع من سوية حياة الإنسان وتطويرها، وعندما تختلط عليه الأمور، فلا يعود يفرق ما بين ذاته والخطأ الذي اقترفه، عادَّاً نفسه "الخطأ" بذاته، وليس الكائن المسيطر على الخطأ والمقَوِّم له؛ عندها نقول أنَّه يعاني من جلد الذات، ومن "التنافر الإدراكي"، فلم يَعد هذا الإنسان يدرك قيمة ذاته، وتشوَّش لديه الإدراك والمنطق، ويعاني المُصاب بجلد الذات كثيراً من المشاعر السلبية القاتلة، على عكس الذي يحترف فن محاسبة النفس ويشعر بمشاعر إيجابية، وبسعادة عارمة لحظة اكتشافه أخطاءه، لأنَّه يدرك تماماً أنَّ الأخطاء فرصة حقيقية له لكي ينمو ويتطور.

عندما يرتكب مريضُ جلد الذات خطأً ما فإنَّه يلقي اللوم على ذاته على الفور، ومن ثمَّ يبدأ بالتعدي على ذاته واتهامها بشتى أنواع التهم التي تقلل من شأنه وتحقره، ولكي يساعد نفسه؛ على المريض أن يكون واعياً لهذه الجزئية لحظة حدوثها، ومنع ذاته من الاسترسال في شريط الأفكار السلبية المتدفق، كأن يغير حالته الجسدية، أو يستمع إلى الموسيقى، أو يقرأ كتاباً ما، وتعطي فترة الاستراحة تلك؛ المجال لعقله لكي يعاود التفكير بطريقة أكثر إيجابية ومنطقية مبتعداً عن جلد الذات.

2. القليل من اللامبالاة:

أدخل قليلاً من اللامبالاة إلى حياتك وعن وعي بذلك، كأن تقول "نعم، لم أحضِّر للامتحان تحضيراً جيداً، ولكنَّني قد أنجح، وإن لم أنجح فإنَّني سأعيد الكرَّة"، وهذا لا يعني التقاعس عن العمل، ولكن يعني عدم تضخيم الأمور وتعقيدها؛ بل السعي إلى إضفاء نسبة قليلة من اللامبالاة إلى الحياة، لكي يشعر الإنسان بالراحة النفسية وبالتالي القدرة على العمل أكثر.

3. تقبُّل المنطقة الرمادية:

الحياة مزيج من الألوان المختلفة، فلا تعتقد بأحادية لونها، ولا تكن صارماً في معاييرك، فتنكسر في حال انحرفتَ عنها قليلاً؛ بل كن مرناً، وتقبَّل مستجدات ومتغيرات الحياة وكن مستعداً لها، واحتفِل بالمنطقة الرمادية فهي المنطقة التي تعيد فيها تنظيم حياتك، والتمعن في تصرفاتك، واكتشاف أخطائك، وتوليد الحلول الإبداعية لتلافيها والوصول إلى مبتغاك. أنت أكبر من مجرد خيارين في الحياة؛ أبيض أو أسود، أنتَ قوس قزح، تتكامل ألوانه لتخرج أجمل منظر في العالم.

4. استراتيجية "حصل خير":

لا يوجد قرار خاطئ على وجه الأرض؛ بل يوجد قرار يعلِّمنا ويجعلنا أفضل، لذلك وسِّع مفهومك للصح والخطأ، وتبنَّى سياسة "حصل خير" لأنَّها تعزز ثقتك بالله، وتُذكِّرك بأنَّ كل ما يحدث لك يحدث لخير بالتأكيد، ولا تخاف من الخطأ، فلقد خلقنا خطاؤون، ولا تخجل من إعادة المحاولة إلى حين الوصول إلى ما تريد، واعلم أنَّك مَن تطلق الحكم على الأشياء، فلن يكون الأمر كارثياً إلا إذا أطلقتَ عليه مصطلح "كارثي"، إذاً أنتَ مَن تخلق ردة فعلك تجاه أي أمر في الحياة، فكن إيجابياً وواعياً، لتكون حياتك إيجابية ومثمرة.

5. تقدير الذات:

لقد خُلقتَ مكرماً، عزيزاً، فلماذا إذاً تقسو على ذاتك؟ تعاطَف مع ذاتك، واحترِمها، وأعطِها حقَّها، فهي تستحق الأفضل والأرقى والأجمل. استطاع أعظم المؤثرين على مستوى العالم الوصول إلى أهدافهم من خلال التعاطف البنَّاء مع الذات. حاسب ذاتك ولكن بحب ورحمة، وإياك والقسوة؛ فلا ينتج عن القسوة إلَّا التحطيم والتدمير.

شاهد بالفيديو: كيف تبني تقدير الذات؟

الخلاصة:

كن واعياً ومتزناً، فلا جلد الذات ينفع، ولا اللامبالاة تنفع، لذلك راقِب أفعالك واسعَ إلى الأفضل دوماً، واعترِف بأخطائك، واحتفِل بألوان الحياة، وتأكَّد أنَّ ما من أمر يحدث لك إلَّا لخير، وثِق بالله وأحسِن الظن به، وسلِّم النتائج له.

المصادر: 1، 2، 3، 4




مقالات مرتبطة