تحرر من ضغط السعي إلى تحقيق النجاح واستمتع بكونك هاوياً لا أكثر

ما يعطي الحياة معناها هو المثابرة المستمرة لتحقيق الإنجازات. يقوم علماء النفس والفلاسفة وعلماء السلوك بإقناعنا بأن نسعى إلى تحقيق الإنجازات والرخاء والسعادة. يجب أن نتصرف بسرعة وببطء، وأن نفكر في تحقيق الكثير، كما نفكر في الأمور السهلة؛ وأن نكون هادئين ونغامر أحياناً، ونتناول الكثير من الطعام أو نتناول منه القليل، ونشعر دائماً بأنَّنا في سعي مستمر إلى تحقيق المزيد.



الهواية أم الاحتراف؟

بطبيعة الحال، نحن نريد جميعاً تحقيق المزيد لنحصل على حياة أفضل، ولكن بين الحين والآخر يشعر كل واحد منا بالتعب من السعي المستمر لتحقيق النجاح. ويتساءل عما إذا كان بمقدوره أن يستريح لبعض الوقت. في الواقع، هذا ممكن بشرط أن تعرف كيف تتقبل نفسك كمجرد هاوٍ لا محترف.

لقد اكتشفت الجانب الهاوي من شخصيتي، ومنذ ذلك الوقت لم ألتفت إلى الوراء أبداً. وقد حدث ذلك بينما كنت أستمع لتسجيل حديث لموسيقى الملحن الأمريكي "فيليب غلاس" (Philip Glass) الذي كان يعزفه زميله عازف البيانو الأمريكي "سيمون دينرشتاين" (Simone Dinnerstein)، وكان الأداء مُلهماً للغاية لدرجة أنَّني وجدت نفسي أنهض من على الأريكة وأبدأ بالعزف على البيانو في محاولة للعثور على العمق الشُعوريّ نفسه الذي أحسست به عندما كنت أستمع للموسيقى.

عندما بدأ "غلاس" تأليف دراساته العشرين، كان يهدف إلى تطوير أسلوبه في العزف على البيانو؛ إذ إنَّ الدراسات هي شكل من أشكال التأليف الموسيقي التي تمَّ تأليفها خصيصاً لاختبار مهارات الموسيقيين. كان "غلاس" في الواقع يؤلف هذه الدراسات خصيصاً كنوع من التعبير عن نفسه كهاوٍ في العزف على البيانو.

تربيتي الموسيقية كانت عبارة عن سعي مستمر عبر ساعات من التدريب الشاق، في كل صباح وخلال مرحلة الطفولة بأكملها، كنت أعزف النوت الموسيقية وأتدرب على الدراسات الموسيقية، وفي كل أسبوع كنت أعود إلى دروسي بفارغ الصبر منتظراً الثناء من معلمي أو بعض التوبيخ.

أنا لا أتذكَّر أنَّني كنت سعيدة أو راضية عن نفسي، وكل ما أتذكَّره هو أنَّني كنت أتساءل دوماً: "هل أنا ناجحة في العزف على البيانو أم فاشلة؟".

كنت قلقة من أنَّني مجرد هاوية؛ ما يعني أنَّني سأتوقف عن المثابرة لتنمية موهبتي. ليس للهاوي مكان في عالم الموسيقى، وهو سيبقى دوماً في موقع أدنى من باقي زملائه وسيشعر بالإهانة.

إقرأ أيضاً: كيف تجد شغفك وتعيش حياة رغيدة؟

أمثلة عن أشخاص مؤثرين:

لنتذكر مثلاً، مغنية الأوبرا الطموحة "فلورنس فوستر جنكينز" (Florence Foster Jenkins)، التي كان شغفها بالموسيقى يتجاوز بكثير موهبتها الغنائية وقدرات صوتها، وقد تم إنتاج فيلم عن حياتها أخذت فيه "ميريل ستريب" (Meryl Streep) دور "فلورنس" وكان الفيلم من إخراج "ستيفن فريرز" (Stephen Ftrears).

وقصة "فلورنس" في "نيويورك" (NewYork) معروفة، عندما حجزت قاعة كارنيجي وقدمت عرضاً تضمَّن مجموعة من أروع الألحان التي لا يجرؤ على أدائها سوى نخبة المغنيين؛ وكانت النتيجة سخرية المجتمع منها وتقييمات كارثية كانت هي تتوقعها سلفاً. لقد توفيت "فلورنس" بعد شهر من هذه الحادثة إثر مرض مفاجئ، لكنَّها توفيت بعد أن قامت بما كانت ترغب به مدفوعة بروح الفتاة الهاوية الموجودة في عمق شخصيتها.

ربما كانت طموحاتها تتجاوز موهبتها، لكنَّ مقاييس النجاح ليست هي الهدف، ويكفي أن نتذكَّر ابتسامة "ستريب" عندما مثَّلت دور "فلورنس" لنفهم الرسالة.

لقد شعرت "فلورنس" بمتعة شخصية أكبر بكثير من الألم، ومع ذلك، فإنَّ فكرة الهواة كظاهرة فنية واجتماعية هي فكرة معاصرة نوعاً ما. يجب مراجعة مفهوم المثابرة، بحيث يتم استبدال المثابرة بالوفاء والالتزام، ومحو مفاهيم النجاح والفشل. لم يثبت وجود كلمة "هواة" في معاجم اللغة الإنجليزية حتى القرن الثامن عشر، حتى لو كان التمييز بين من يُسمى المهتم والمحترف بمجال من المجالات موجوداً فيما سبق.

تشير مناقشة "أفلاطون" (Plato) للتعليم الموسيقي في الفصل الثالث من مؤلفه "جمهورية أفلاطون" (The Republic) إلى وجود هواة ومحترفين. وبالنسبة إلى "أرسطو" (Aristotle)، فإنَّه يجب نقل المهارة في الأداء إلى المرحلة التي تُمكِّن التلميذ من الاستمتاع بالموسيقى الجيدة، وليس أكثر من ذلك. وليت هذه الحكمة القديمة تم نقلها إلى "فلورنس جنكينز".

شاهد أيضاً: 12 نصيحة للنجاح يقدمها أكثر الأشخاص تأثيراً في العالم

نظرة المجتمع إلى الهواة:

كان للهواة دائماً مكانة جيدة في المجتمع، ففي موسيقى السوناتا التي ابتكرها "كارل فيليب إيمانويل باخ" (C P E Bach) في عام 1799، كان هذا العمل مكرساً لعشاق الموسيقى وذواقيها، وليس للمحترفين. وفي العصر الفيكتوري كان يُنظر إلى العزف على البيانو على أنَّه ممارسة خاصة بالنساء؛ أي إنَّه فن منزلي وقد يكون شيئاً يعزز فرص المرأة بالزواج. وعندما تمت الإشارة لأول مرة إلى مفهوم الهواة في اللغة الإنجليزية، كان ذلك في القاموس العالمي للفنون والعلوم والأدب في عام 1803، وتم تعريف كلمة الهواة على أنَّها مصطلح أجنبي يشير إلى تيار عابر من الناس يتضمن الأشخاص الذين يمتلكون فهماً وحباً لممارسة فنون النحت أو الهندسة المعمارية دون أي نية لديهم في اعتمادها كمهنة لكسب المال.

بعد أكثر من قرن من الزمان جادل الفيلسوف والمنظر الفرنسي "رولان بارت" (Rolan Part) بالقضية نفسها قائلاً: ينخرط الهواة بالرسم والموسيقى والرياضة والعلوم، من دون نية لإتقانها أو منافسة غيرهم؛ أي إنَّ الهاوي يمارس هوايته بغرض المتعة فقط". لكنَّ "بارت" قام بأكثر من مجرد تثمين الدعوة لممارسة الفن وغيره كهواية؛ بل جسد هذه الممارسة بنفسه، فنحن نعلم أنَّ "بارت" بصفته طالباً كان يمارس العزف يومياً لمساعدته في التعافي من مرض السل.

كما نعلم من خلال سيرته الذاتية أنَّه كان يمارس العزف على البيانو لمساعدته في تحسين ذاكرته. إذاً، إذا كان بمقدور المفاهيم التي طرحها "بارت" أن تجعلنا نقدَّر دور الهواة، فإنَّ ذلك يستدعي مراجعة عملية الممارسة للهواية بحيث نستبدل المثابرة بالوفاء والالتزام ونتخلص من مفاهيم الفشل والنجاح.

إقرأ أيضاً: لهذه الأسباب يتقن البعض مهارة التفاوض باحتراف!

الهواية والمعرفة:

تقوم ممارستنا لهواياتنا على معرفة قدراتنا وإدراك حدود ما نسعى إليه، وبمجرد التخلص من البحث عن تحقيق هدف ما في تطلعات الهواة، فإنَّنا سنكون قادرين على التركيز على سيكولوجية التجربة المُثلى التي عبَّر عنها عالم النفس "ميهالي تشيكسينتميهالي" (Mihaly Csikszentmihalyi) بنظرية التدفق والتي يربطها الصحفي "آرييل جور" (Ariel Gore) بالسعادة؛ إذ يقول:

"عندما نحقق توازناً بين التحدي المتمثل في نشاط ما ومهارتنا في أدائه، وعندما يكون إيقاع العمل نفسه متزامناً مع ما نشعر به، وعندما نشعر بأهمية ما نقوم به، فإنَّنا ننخرط بشكل كامل في المهمة، وهذه هي السعادة".

لقد أدركت أنَّ الوقت الذي أقضيه في العزف على البيانو، قد يكون هو أكثر اللحظات خصوصية بالنسبة إليَّ، وتزيد ممارسة هوايتي في العزف من إحساسي بأنَّني أكتفي بنفسي ويزداد شعوري بأنَّني أتحكم بالتجربة.

بعد ذلك، فإنَّ الإنجاز يجعلني أشعر أنَّني مفعمة بالحيوية وروح المشاركة، ويجعلني أتخلى عن المشاعر السلبية التي ينطوي عليها الانخراط في تجربة ذاتية؛ إذ إنَّني أشعر فجأة أنَّني لست وحيدة على الإطلاق؛ بل أنا بصحبة البيانو.

تستدعي ممارسة الهواية نوعاً من الشعور الحميمي، وشعوراً باليقظة التي تصبح جزءاً من روتيننا اليومي. بمجرد أن نقدِّر أنَّ ممارسة الهواية لا تهدف إلى تحقيق النجاح، فإنَّنا نتخلص من الغرور وندخل التجربة بالتزام كامل.

ويتحدث "تشيكسينتميهالي" عن هذه الحالة كتجربة تلقائية، ويقصد فيها أنَّ ممارسة الهواية هو الهدف بحد ذاته من الهواية، ومن ثمَّ فإنَّ الشخص الهاوي موجود بداخل كل شخص فينا، كما يذكِّرنا بذلك "أرسطو" بأنَّ الهواة الموسيقيين يحددون بنفسهم أهدافهم والأمور التي تحقق لهم المتعة.

ربما حان الوقت لمراجعة شعار "الممارسة تؤدي إلى الإتقان" الذي أعاد "مالكوم جلادويل" (Malcolm Gladwell) إحياؤه في السنوات الأخيرة من خلال كتابه "المتميزون: قصة النجاح" (The Outliers: The Story of Success)؛ إذ يقول "جلادويل" أنَّه في أي مجال تقريباً يمكن ضمان الخبرة من خلال 10000 ساعة من الممارسة.

الهواية والمعرفة

في الختام يقول "تشيكسينتميهالي":

أعتقد أنَّ الوقت حان لنقلب مفاهيم الممارسة رأساً على عقب ونجعلها أكثر تكيفاً مع مبادئ الهواية، ونبدأ بممارسة هواياتنا بنوع من الجرأة والعفوية والالتزام والحيوية.

هذا لا يعني أن نمارس هواياتنا كيفما اتفق ودون التزام، لكنَّه يعني بسهولة أن نمارس هواياتنا دون القلق حول النتائج التي نحققها؛ ويعني أن نجعل من الوقت الذي نخصصه لممارسة هوايتنا المفضلة، لحظة للتواصل مع ذواتنا الشاعرية.

بالطبع إنَّ تجربتي مع البيانو لا يمكن تعميمها، ربما تمارس أنت هواية أخرى قد تكون الرسم أو الطبخ أو نسج الصوف وغيرها، ولكن وبغض النظر عن الهواية التي تمارسها، فإنَّ الأمر يتعلق بتقدير الشعور الرائع وإعطاء هذه التجربة الجمالية حقها؛ وهذا يتطلب بعض الجرأة في الخروج عن المألوف وترك نفسك على سجيتها؛ إذ إنَّ هناك احتمالاً بأنَّ اليقظة والوعي اللذين تشعر بهما في أثناء ممارستك لهوايتك قد يضاعفان من حجم إنجازاتك مرات عدَّة.

ستزول المشاعر السلبية المرتبطة بمفاهيم النجاح والفشل وستحل المتعة محل الممارسة.

منذ أن أعدت ابتكار علاقتي مع البيانو وأطلقت العنان للهاوي الذي بداخلي، استطعت أن أصل إلى السلام والهدوء، ويمكنك أيضاً فعل هذا، فقط أطلق العنان للهاوي الذي بداخلك، ولا تقلق بشأن النجاح والفشل.

المصدر




مقالات مرتبطة