القوة المُذهلة للمثابرة

يمكن تعريف المثابرة على أنَّها الاستمرار في بذل الجهد لتحقيق شيء ما، على الرغم من الصعوبات والإخفاقات أو معارضة الآخرين، ويمكن القول إنَّها الصمود في وجه الظروف. المثابرة ليست شيئاً تعلَّمناه في الواقع. وأحياناً نشك بأنَّنا نمتلكها، ومن ثَمَّ لا يمكن أن يُطلَب منَّا الاستمرار في المحاولة وبذل الجهد.



ملاحظة: هذا المقال مأخوذٌ عن الطبيبة "تاتيانا دينينج" (Tatiana Denning)، والذي تُحدِّثنا فيه عن تجربتها في المثابرة وكيف تمكَّنت من تحقيق أهدافها من خلال المثابرة والعزيمة.

بالنسبة إليَّ كان الوقت الذي تطلب مني كثيراً من المثابرة، هو عندما كنت أخضع لدورة تدريبية طبية قبل الدراسة في كلية الطب. علمتُ أنَّ التدريب سيكون صعباً، لكن لم أعلم مقدار صعوبته، وما بين التدريب والدراسة في الكلية والإقامة في المستشفى، عانيتُ من مصاعب عدة كنت سأعدُّ تجاوزها أمراً مستحيلاً فيما سبق.

تطلَّب التدريب التضحية بالوقت المخصص للأسرة، والسهر في الليل، وأحياناً قضاء أيام دون نوم. لقد تطلَّب الأمر التعلُّم والتعامل مع عدد هائل من المعلومات، مع دماغ محروم من النوم، والعمل في أثناء المرض، وأحياناً التعرض للصراخ والإهانات من قِبل المقيمين والتهديد من قِبل المرضى.

كان التدريب في مدينة "فيلادلفيا" (Philadelphia) يعني التعامل مع إصابات ناتجة عن جرائم القتل والسرقة والجرعات الزائدة من المخدرات، إضافة إلى حوادث إطلاق النار والمرضى العنيفين؛ وهذا ما كان يدفع برجال الأمن للتدخل مرات عدة، ومرافقتنا إلى سياراتنا عند انتهاء مناوباتنا.

في معظم الأيام وخلال فترة التدريب، كنت مشغولة جداً لدرجة أنَّني لم أستطع أخذ استراحة، ولو لمدة دقيقتين، أو حتى تناول الطعام أو شرب الماء، بالإضافة إلى طلبات مستمرة لتدريب أحدهم أو القيام بشيء ما أو الانتباه لشيء ما، كان عليَّ أن أتعلَّم بسرعة كيفية إعطاء حقنة أو تشجيع المريض حتى يتحسن، وفي الليل كان عليَّ أن أتعلم مع متدرِّب آخر خائف وقلق يحاول إدارة طابق مليء بالمرضى. كان برنامجي صعباً للغاية بالنسبة إلى مبتدئة.

خلال كل ما كنت أمر به، كنت أتساءل بين وقت وآخر إذا ما كنت قادرة على القيام بذلك؛ لكنَّني لم أسمح لنفسي أن أفكر كثيراً بذلك، كنت أُنجز مهامي فقط. وعندما أفكر، فإنَّني لا أعرف كيف تمكَّنتُ من القيام بذلك، وكل ما أعرفه أنَّني فعلت ذلك بطريقة ما.

ولا أرى أنَّ ما حققتُه كان بفضل ذكائي أو سرعة بديهتي أو المعارف التي اكتسبتُها من قراءة الكتب، ولا لأيَّة موهبة خاصة. إنَّ ما حققتُه كان بفضل المثابرة.

ما هي الأمور التي تتناقض مع المثابرة؟

عالِمة النفس "أنجيلا داكويرث" (Angela Duckworth)، الأستاذة في "جامعة بنسلفانيا" (University of Pennsylvania) ومؤلفة كتاب "المثابرة: قوة الشغف والإصرار" (Grit: The Power of Passion and Perseverance)، تُشبِّه المثابرة بالعزيمة والجرأة، وتصفها بأنَّها الشغف وقوة الإرادة لتحقيق أهداف طويلة الأمد.

ولكن لنفكر أولاً في حقيقة المثابرة، توضِّح "داكويرث" أنَّ المثابرة ليست موهبة وليست شيئاً نمتلكه بالمصادفة، وهي لا تعني مقدار رغبتنا في الحصول على شيء ما في لحظة ما.

كما أنَّها ليست اندفاعاً عابراً ولا كسلاً أو تخاذلاً ولا تنطوي على خوف من الفشل أو الرفض، هي حالة لا تعوقها الأوضاع التي يسود فيها عدم اليقين أو الشعور بأنَّنا نخوض في المجهول، ولا تعرف التراجع عند مواجهة الصعوبات.

شاهد: 10 قواعد للعقلية الناجحة!

ما هي المثابرة؟

يُقال إنَّ المثابرة هي واحدة من أعظم القدرات التي يمكن للإنسان أن يطوِّرها. في الواقع، تحدَّثت الأديان عن المثابرة بوصفها فضيلة عظيمة؛ إذ تقول إنَّ الإنسان يتألق في الشدائد؛ وذلك لأنَّه يجب أن يعرف أنَّ الصعوبات تعلِّمه المثابرة، كما أنَّها تصقل الشخصية وتجعلها تتحلى بالأمل، والصبر هو أحد أصعب الأشياء؛ لكنَّ الصبورين يحققون النصر في النهاية.

المثابرة تعني القوة الذهنية والقدرة على تحمُّل المعاناة والمصاعب، إنَّها القدرة على المحاولة مجدداً بعد كل إخفاق، والقدرة على تجاوز كل الصفات الشخصية التي تعوقك، والتقدُّم مع كل ما يقوله الأشخاص الذين يشككون بقدراتك وما قد يخطر ببالك من شكوك.

المثابرة تعني امتلاك الثقة في مواجهة الظروف الغامضة، والصعوبات التي تبدو مستحيلة الحل للوهلة الأولى. إنَّها نوع من الإيمان يتحدى أحياناً كل قوانين المنطق والعقل.

تأثير المثابرة في الصحة النفسية والجسدية:

المثابرة تُساعدنا على تحقيق أهدافنا، وتُحسِّن من صحتنا أيضاً؛ إذ وجدت دراسة نُشِرَت في مجلة "أبنورمال سايكولوجي" (Abnormal Psychology)، درسَت آلاف الأشخاص خلال 18 عاماً، أنَّ الأشخاص الذين يتمتعون بمستويات أعلى من المثابرة والتفاؤل أقل عرضة للإصابة بالقلق والاكتئاب.

وقالت "نور هاني زينل" (Nur Hani Zainal)، المؤلفة الرئيسة للدراسة: "إنَّ المثابرة تحفز الشعور بالعزيمة الذي يجعل الفرد يتمتع بمرونة أكبر، وتقلل من فرص الإصابة بالاضطراب الاكتئابي الشديد واضطرابات القلق العام واضطرابات الهلع. وتشير النتائج التي توصَّلنا إليها إلى أنَّه يمكن للأشخاص تحسين صحتهم النفسية من خلال تحقيق مستويات عالية من المثابرة والمرونة والتفاؤل".

يمكن أن تساعدنا المثابرة أيضاً على الحفاظ على الروتين الصحي، مثل نظام غذائي صحي وممارسة الرياضة. ويختلف المثابرون عن غيرهم في أنَّهم عندما يخرجون أحياناً عن المسار الصحيح فإنَّهم يعودون بسرعة ويتابعون.

إضافةً إلى ذلك، فإنَّ الأشخاص المثابرين يتمتعون بقدرة أكبر على العمل في ظل الضغوطات والصعوبات والألم أو غيره من المشكلات الصحية ويستطيعون تحقيق أهدافهم.

استلهام المثابرة من الآخرين:

نتعلَّم مهارة المثابرة بطريقتين، الأولى أن نمارسها، والثانية أن نرى الآخرين يطبِّقونها. وفي الواقع، إنَّ أفضل طريقة لتعليم أطفالنا المثابرة هي أن نكون قدوة لهم.

اكتشفت دراسة نُشِرَت في مجلة "ساينس" (Science) درسَت أطفالاً يبلغون من العمر 15 شهراً، أنَّ رؤية حالتين فقط يعمل فيهما أحد البالغين بجد لتحقيق أهدافه، يمكن أن تجعل الأطفال يعملون بجد أكبر عندما يكونون أمام مهمة يجب عليهم إنجازها، وذلك مقارنةً بالأطفال الذين يرون بالغاً يحقق نجاحاً دون بذل جهد.

بالإضافة إلى رؤية الآخرين يثابرون، فإنَّ في مقدورنا استلهام المثابرة من قصص كفاح الآخرين، على سبيل المثال: واجه "هنري فورد" (Henry Ford) العديد من الإخفاقات في عمله؛ وهذا أدى إلى إفلاسه خمس مرات، وأيضاً "توماس أديسون" (Thomas Edison) حاول 10000 محاولة فاشلة قبل أن يتمكن من اختراع المصباح الكهربائي.

بالنسبة إلى "أديسون" فهو لم يفشل 10000 مرة؛ إنَّما اكتشف 10000 طريقة لا يعمل بها المصباح الكهربائي قبل أن يكتشف أخيراً الطريقة الناجحة؛ بمعنى أنَّه عدَّ محاولاته المتكررة بمنزلة نقاط انطلاق. وفي مقال شهير له قال: "العديد من الإخفاقات في الحياة حصلت مع أشخاص لم يدركوا أنَّهم كانوا على بعد خطوات من النجاح قبل أن يستسلموا".

وكان الرئيس السابق "أبراهام لينكولن" (Abraham Lincoln)، شخصاً مثابراً وجريئاً؛ إذ خسر في الانتخابات الرئاسية ثماني مرات قبل أن ينجح ويصبح رئيساً للولايات المتحدة الأمريكية (USA).

عُرِف الرئيس "جورج واشنطن" (George Washington) بشجاعته المُذهلة وتصميمه الدؤوب على جعل التجربة الأمريكية تجربة ناجحة. عانت القوى الثورية في أيامه من انتكاسات عدة؛ لكنَّ جهوده المتواصلة أدت إلى تفوُّق الجيش الوطني الأمريكي، في حين كان يُعتقَد أنَّ الغلبة ستكون لقوات بريطانيا العظمى.

حتى الطبيعة تُقدِّم لنا دروساً في المثابرة، سواء كان ذلك بالتنقيط البطيء للمياه الغنية بالمعادن على مدى قرون لتكوين الأعمدة الصاعدة والأعمدة الهابطة في الكهوف، أم ظهور نبات في غابة بعد تعرُّضها لحريق، وتشكُّل الماس ببطء من الفحم.

وكما يقول الرئيس الثلاثون للولايات المتحدة "كالفين كوليدج" (Calvin Coolidge): "لا شيء في العالم يمكن أن يحل محل المثابرة. المثابرة والتصميم وحدهما القادران على تحقيق النجاح. إنَّ شعار "استمر في العمل" لطالما حل وسيحل مشكلات الجنس البشري".

إقرأ أيضاً: كيف تتعامل مع مشاعر الإحباط؟

كيف تجعل من المثابرة ممارسة يومية؟

يُقال إنَّ الضربة التي لا تكسر الظهر تقوِّيه، وعندما نثابر فإنَّنا نطوِّر من قدرتنا على مواجهة تحديات الحياة وتحمُّل مصاعبها، وهي مهارة مثل باقي المهارات التي تتطور بالممارسة؛ وهذه هي بعض الطرائق التي يمكننا من خلالها تطوير قدرتنا على المثابرة.

في البداية يجب أن نعرف قيمنا الأساسية، فمن خلال وجود بوصلة أخلاقية قوية تتكون من الصدق والنزاهة والسلوك الأخلاقي، سنمتلك الإيمان اللازم الذي يدفعنا للمثابرة عند مواجهة المصاعب؛ وذلك لأنَّه عندما تكون ركيزتنا الأساسية متينة، نكون قادرين على تصميم منهجية عمل جادة، والنظر إلى الأمور من منظور أوسع وتذكير أنفسنا دوماً بالهدف الأهم.

لاحقاً تأتي مرحلة اتخاذ الإجراءات، حتى لو كانت مجرد إجراءات سهلة، وبعدها سنتمكَّن من الاستفادة من الانتصارات الصغيرة والنجاحات السابقة لتقوية عزيمتنا.

من الهام أيضاً عدم المبالغة في التفكير، فالأفكار السلبية يمكن أن تُثبط عزيمتنا؛ لذا يجب أن تتذكر أنَّه لا ينبغي تصديق كل ما نفكر فيه. إذا كانت أفكارنا لا تتماشى مع أهدافنا فيجب أن نعمل على استبدالها بأفكار أخرى.

إنَّ الحفاظ على الاتساق والالتزام بجدول زمني يساعد أيضاً أكثر من الاندفاع للقيام بالأشياء في لحظات الحماسة فقط؛ وهذا يتطلب مستوى عالياً من ضبط النفس ومقاومة اللحظات التي نشعر فيها بضعف الحماسة، أو الرغبة في فعل شيء مختلف أكثر سهولة.

يجب علينا أيضاً أن نتعلم كيف نواجه مخاوفنا وأن نتغلب عليها، لا أن نُذعن لغريزتنا الطبيعية التي تدفعنا لتجنب المواجهة؛ لأنَّ ذلك يعني أنَّنا لن نتمكن من التغلب على الخوف طالما أنَّنا نتجنَّبه.

كما يكون من الهام الحفاظ على تفاؤلنا في مواجهة المخاوف والمشقة والتعلم من سلبياتنا والعمل على تطوير أنفسنا؛ وهذا هو الوضع الذي يكون فيه التأمل الذاتي أمراً بالغ الأهمية.

شيء واحد يجب ألا نقع فيه، وهو الإحباط، يجب أن نتغلب على شعورنا بالإحباط ومخاوفنا، وأن نسيطر على أفكارنا وانفعالاتنا، ومن الهام أيضاً أن نتحمل مسؤولية أفعالنا، وإلا سنشعر بأنَّنا نخرج عن المسار الصحيح؛ وهذا يجعل الاستمرار في المثابرة أمراً مستحيلاً.

إقرأ أيضاً: 4 استراتيجيات للتركيز على أهدافك وتجنب عوامل التشتيت

التأمل في الماضي والتقدُّم:

مع أنَّني لم أدرك ذلك وقتها، إلا أنَّ المصاعب علَّمَتني أنَّ في مقدوري أن أثابر، وأنا ممتنة لهذه الدروس على الرغم من صعوبتها؛ ذلك لأنَّها جعلت مني شخصاً أقوى وأفضل. لقد استلهمت المثابرة من العظماء في التاريخ الذين أظهروا عزيمة لا تُقهر؛ لذا في النهاية أتمنى أن يتحلى كل منا بالشجاعة والعزيمة لفعل الصواب والتمسك به حتى عندما نشك في قدرتنا على فعل ذلك.

مع دخولنا في العام الجديد وما نملكه من أهداف وأحلام، فإنَّ جعل المثابرة جزءاً أساسياً من حياتنا سيساعدنا، وستكون القرار الأكثر تأثيراً في العام الجديد.

المصدر




مقالات مرتبطة