العلاقة المخيفة بين انعدام الأمن المالي والصحة الذهنية

البحث الذي يتناول العلاقة بين الرفاه المالي والصحة العقلية واضح، وقد اختبرَ "إيفان آنز" هذا الأمر بنفسه.



حذرَ الخبراء من التبعات الخفية لجائحة كورونا (COVID-19) لشهور عدَّة، والتي يُعَدُّ أبرزها تزايد الضغط على صحتنا الذهنية.

لقد كان همُّنا الأول، بالطبع، هو عدد الوفيات، والاختبارات، وتوافر معدات الوقاية الشخصية، وأجهزة التنفس الصناعي، والرعاية الطبية، بعد ذلك كان علينا تقليص العمل وجهاً لوجه ووقف معظم رحلات السفر وحث الناس على البقاء في المنزل، وتبعَ ذلك قروض طارئة ومساعدات لملايين الأفراد والشركات المتضررة.

لكن لا يبدو أنَّ الأزمة في طريقها إلى الانحسار بأي شكل ولا تزال التوترات تتصاعد، وربما سيظهر الخطر الأكبر الآن، حيث بدأَت مراحل الغضب والاكتئاب والإنهاك وحالات الانتحار بسبب وجود ملايين العمال الذين ما زالوا عاطلين عن العمل وازدياد الضغط على البرامج المُخصَّصة لمساعدتهم.

الصحة الذهنية هي الأزمة المتفاقمة التي قد تحجب العواقب الأخرى جميعها، ولكنَّها تزيدها سوءاً على الدوام. وفقاً لمجلة "تايم" (Time)، يعاني واحد من كل خمسة بالغين في الولايات المتحدة من اكتئاب حاد كل عام (حتى قبل الضغوط والمخاوف الإضافية التي سبَّبَتها أزمة الصحة العالمية، والاضطرابات العرقية، والاقتصاد المتوقف الذي شهدناه هذا العام).

ما الذي يجب أن نعرفه عن الاكتئاب والانتحار؟

تنتج بعض أشكال الاكتئاب من اختلال في التوازن الكيميائي أو من المرض أو الإصابات. وفي هذه الحالات، قد يخضع الأفراد للعلاج الطبي جنباً إلى جنب مع العلاج بالحديث، ولكن بخلاف الأسباب النفسية أو الطبية، فإنَّ الظروف الخارجية التي تؤثر في الاكتئاب كثيرة؛ كالعزلة، والقلق، وقضاء كثيرٍ من الوقت في استخدام الأجهزة الإلكترونية، والتنمر، وعدم الاستقرار الاقتصادي، والديون، والبطالة.

في حين أنَّ الإحباط يبدو مفهوماً بين الأشخاص الضعفاء بيننا، إلا أنَّه من المثير للاهتمام أنَّ خطر الإصابة بالاكتئاب الشديد قد يكون أعلى بالنسبة إلى أرباب الأعمال الأثرياء والناجحين. فبالنسبة إليهم، تكون التوقعات عالية وفي الأوقات الصعبة ترتفع مخاطر الفشل (أو مخاطر الإحراج العام، إلى جانب الخوف من تأثير الفشل في الموظفين والمستثمرين والعائلات). وتشمل هذه الأوقات الصعبة المواقف المفاجئة، كما حدث مع منتج الأفلام والمُهتَم بالأعمال الخيرية "ستيف بينج" (Steve Bing)، الذي انتحر مؤخراً وهو في الخامسة والخمسين من عمره.

لسوء الحظ، قصة "بينج" ليست فريدةً من نوعها. خذ مثلاً رائد الأعمال الشاب والناجح للغاية "إيفان آنز" (Ivan Anz)، كان المؤسس المسؤول عن شركة إيكويتي آند هيلب (Equity & Help)، كما كان رائد أعمال منذ أن كان في السابعة من عمره، حيث كان يشتري الحلوى لبيعها بسعر أعلى للأصدقاء، وهو حالياً يرأس شركةً تُصنَّف من بين أفضل 500 شركة حول العالم وحصل على العديد من الجوائز.

قرأ "إيفانز" مقالةً نُشِرَت مؤخَّراً في مجلة فوربس (Forbes) عن مستثمر في شركة روبن هود (Robinhood) يُدعى "ألكسندر كيرنز" (Alexander Kearns)، وهو طالبٌ يبلغ من العمر 20 عاماً في "جامعة نبراسكا" ( University of Nebraska)، عاد من الكلية إلى المنزل ويعيش مع والديه في مدينة "نابرفيل" (Naperville) في ولاية "إلينوي" (Illinois). ومثل العديد من الشباب، فتح حساباً في شركة الاستثمار التي تركز على أفراد جيل الألفية للقيام بصفقات دون عمولة.

ثمَّ بدأ في تجربة خيارات البيع وخيارات الشراء، التي كانت محفوفةً بالمخاطر، والتي زادت مخاطرها الآن مع تعرُّض السوق لتقلبات شديدة يوماً بعد يوم. في العاشر من حزيران، أظهر حسابه أنَّ الرصيد المتبقي في حسابه هو ناقص 730.165 دولاراً عند تسوية تداولاته. (وفقاً لمؤسسي الشركة، بينما كان البيان عبر الإنترنت مربكاً لـ "كيرنز"، كان صافي رصيده الفعلي في ذلك الوقت حوالي 16000 دولار).

ترك "كيرنز" رسالة مليئة بالغضب تجاه شركة "روبن هود"، حيث قال فيها: إنَّه ليس لديه أدنى فكرة عما كان يفعله، ثمَّ قتل نفسه.

كان من الواضح أنَّ الرعب تمكَّن من "آنز"؛ فقد قال: إنَّه كان من الممكن أن يفعل مثل هذا الشخص. كرائد أعمال، كان حب المنافسة من طبيعته، وبدأ برنامجاً إذاعياً وشركة تسويق، وأسَّسَ وكلاء "تويوتا" في أمريكا اللاتينية، وفاز بجوائز تجاريَّة إقليمية، وكان رجل أعمال معجزة يتمتع بثروة تفوق أحلامه، وهو بالكاد في العشرين من عمره.

لقد كان سعيداً، أو هكذا بدا الأمر، حتى بدأ في رؤية إعلانات عبر الإنترنت عن أشخاص أكثر نجاحاً منه، حيث رأى على موقعي "إنستغرام" (Instagram) و"فيسبوك" (Facebook) أنَّ الخبراء الذين يحافظون على نجاح حقيقي يتعلمون مضاعفة ثروتهم في عام أو ستة أشهر أو ربما حتى أسابيع. وفي صورهم، كانوا يقودون سيارات الفيراري ويعيشون في القصور.

متى لا يكون النجاح المالي كافياً؟

حددَ "آنز" طموحاته وعزم على تحقيقها، حيث درس سوق العملات الأجنبية (Forex) والخيارات ومجموعة متنوعة من الاستثمارات عالية المخاطر، مُصمِّماً على تعلُّم أسرار "تحويل ألف دولار إلى مليون دولار في أسبوع".

لكنَّه كان بائساً، وشعر أنَّ إنجازاته كانت ثانويةً في عالم كل شيء فيه ممكن التحقيق. بدأ يتجادل مع زوجته، ولأول مرة في حياته، تشاجر مع والديه. كان ينام ساعةً واحدةً فقط في الليلة.

هربَت روحه الريادية، حيث أصبح هدفه الوحيد السعي إلى تحقيق نجاح مالي ضخم. ثمَّ جاءت "لحظة كيرنز" الخاصة به عندما أدرك في لحظة أنَّ ستة أشهر من العمل، وليالي الأرق والقلق قد أسفرَت عن نتيجة واحدة وهي خسارة مُفاجِئة وكبيرة. كان مفلساً تقريباً، حيث بلغَت خسارته 238000 دولاراً.

عانى بسبب ذلك من فقدان في هويته، شعر بهوَّة عميقة لدرجة أنَّه شعر بأنَّ كل شيء قام به في حياته حتى تلك اللحظة كان لا يستحق العناء. لقد فهم بالضبط كيف شعر "كيرنز" وأدرك مدى قربه من اتخاذ قرار مثل قراره.

 ولكن من حسن حظ "آنز"، بقيَت زوجته "بيلا" وعائلته بجانبه. وجدَت "بيلا" بناءً على طلبه مستشاراً روحياً يمكِنه رؤيته.

يتذكر قائلاً: "أدركتُ أنَّ الأفكار التي تراودني لا تعكس شخصيتي. أنا إنسان ويمكِنني التحكم بعقلي وجسدي".

تحسَّنَت صحته الذهنية عندما أدرك أنَّ التحديق بتوتر بالرسوم البيانية والمخططات على الشاشة كل يوم لم يكن نافعاً، واتبعَ نظاماً غذائياً نباتياً أعاد توازنه وصحته.

ثمَّ، وفي أثناء استحمامه، شعر بالكثير من الإلهام حول ما يجب أن يفعله. سينتقل هو و"بيلا" إلى الولايات المتحدة مع آخر 3000 دولار متبقٍ معه، ووضعَ خطةً لشركته الحالية، إيكويتي آند هيلب (Equity & Help)، التي استثمرَت في العقارات الصغيرة المرهونة، فنظفَت الشركة هذه العقارات وجدَّدَتها، ومن ثمَّ منحَتها للعائلات غير القادرة على تأمين الائتمان أو دفع مبالغ عالية تكفي لشراء منزل من خلال الوسائل التقليدية.

دفعَت العائلات حوالي ثلثي ما كانت ستنفقه على الإيجار، لكنَّها دفعَت ما يكفي لتزويد المستثمرين بعائد جيد. وخلال تلك الفترة، كانوا يساهمون في العمل على تحسينات إضافية في المنزل. بالنسبة إلى المستثمرين، يُعَدُّ هذا النموذج مستداماً، فبالإضافة إلى العوائد، فهو يُشعرهم أنَّ عائلاتهم تتلقى الدعم والمساعدة من أموالهم. ويسمِّي "آنز" هذا مفهوم "الاستثمار الخيري".

أثرَت التجربة بالمجمل فيه بشدة، وحقَّقَ نجاحاً كبيراً بعد أن شعر بالعار والخسارة، إلى جانب الاكتئاب الشديد وفقدان الصحة الذهنية والبدنية، وهو يشارك الآن هذه التجربة بحرية على أمل أن تساعد أرباب الأعمال الآخرين.

شاهد بالفيديو: 12 نصيحة للوصول إلى الاستقرار المالي في حياتك

يقترح "آنز" ما يلي لحماية وضمان الصحة الذهنية:

1. ألَّا يقتصر الهدف من العمل والاستثمار على المال:

يقول: إنَّه من الضروري أن يعمل أرباب الأعمال والمستثمرون والموظفون الجدد في شركة (سواء كانت شركتهم أم شركة شخصٍ آخر) تأسَّسَت على مبادئ الاستدامة والاستثمار الخيري، فيجب أن يكون الهدف كبيراً بما يكفي لإقناعهم بالعمل بشغف وبذل الوقت والجهد، بدلاً من أن يكون تحقيق الثراء فقط.

2. معرفة أنَّ النجاح الذي يُقاس بالرفاهية مجرد سراب:

العديد من "المعلمون" المزعومون، الذين يصرون على أنَّهم لديهم الأسرار الحصرية للثروة الفورية، محتالون. حتى عند العمل بشكل قانوني، فإنَّ الثروة التي يجسدونها إما مزيفة أو مستعارة أو مكتسَبة من الفعاليات والمنتجات التعليمية وليس من الأساليب التي يعلمونها. ومن المثير للاهتمام، أنَّ العديد من "كبار رجال الأعمال" المعروفين يترنحون الآن في ظل الأزمة الصحية العالمية بعد أن اختفت الملايين التي كانوا يجنونها من الفعاليات. واستدانوا المال لشراء العديد من استثماراتهم الفعلية في العقارات بنسبة تصل إلى 85% وسوف تتلاشى استثماراتهم كلها أيضاً. ويستخدم غالبية خبراء تداول الأسهم ممارسات مشكوك فيها ذات مخاطر مرعبة. بشكل عام، بدلاً من السعي إلى الحصول على المال من أجل المال، يقول "آنز" إنَّ الحرية المالية الحقيقية تتكون من المعرفة والسيطرة والقوة الروحية والوفاء العاطفي والمتعة والإرث والأهداف.

إقرأ أيضاً: ما هي الحرية المالية؟ وكيف يمكن الوصول إليها؟

3. تعلُّم أنَّ الصحة البدنية تدعم الصحة الذهنية والعاطفية:

كما اكتشف "آنز"، فإنَّ القيام بالأنشطة التي تستمتع بها، وتناول الطعام المغذي، والحصول على قسط كافٍ من النوم، وقضاء الوقت مع أفراد الأسرة أو الأصدقاء الهامين هي عوامل كبيرة في استعادة السعادة والتوازن العاطفي، لذلك، اجعل هذه المكونات الصحية تتصدر أولوياتك.

4. عدم التردد في طلب المساعدة المتخصصة:

يقترح "آنز" التحقق من الموارد التي تستخدمها بدقة، فاستمِر في ذلك حتى إذا كانت المساعدة التي تتلقاها غير كافية أو حاولتَ مساعدة شخص آخر وفشلتَ. عندما علم "آنز" أنَّه في مشكلة، ضغط على زوجته للعثور على مستشار محترف مناسب حتى عندما كانت مواردهم المالية قد انهارت، ويؤكد أنَّه لا يوجد فشل كبير لدرجة أنَّه لا يمكِن تحسينه بالقليل من المساعدة المهنية.

باختصار، تجربة "آنز" تجسد نتائج الدراسات الحديثة حول الاكتئاب والانتحار. ويُعَدُّ الأمان الاقتصادي عاملاً هائلاً في الأمان العاطفي الذي يدعم الصحة الذهنية، وفي عام 2020، وعلى الأرجح لمواسم عدَّة قادمة، ستؤثر الأزمة الصحية العالمية والانكماش الاقتصادي في مئات الآلاف من الموظفين وأرباب الأعمال في الولايات المتحدة وخارجها، لذلك، لم تكن مخاطر الصحة الذهنية أعلى مما هي عليه هذه الأيام.

فكيف يمكِننا أن نغيِّر هذا إذاً؟

يجب أن نبذل بشكل جماعي وفردي كل ما في وسعنا للتواصل، وللمساعدة في الإغاثة العاطفية والمالية، وللاطمئنان على مجتمعنا والأشخاص من حولنا، كما يجب علينا التركيز على الطرائق التي يمكِننا من خلالها إنشاء وإيجاد التحسينات وتقديم المساعدة.

ووفقاً لـ "آنز"، يجب علينا أيضاً أن نصبح "مستثمرين خَيِّرين" إلى أقصى درجة ممكنة، ويجب أن نجد هدفاً وشغفاً في التغلب على العقبات مع إنشاء طرائق جديدة للتواصل وتخفيف ضغوط الآخرين من حولنا، فبهذه الطريقة نعزز ونبني رفاهيتنا أيضاً.

المصدر




مقالات مرتبطة