السعي وراء الكمال: أسبابه، وآثاره السلبية، وطرق محاربته

الكمال هو الخدعة الكبرى الموجودة في حياة الإنسان، والتي لن يكتشفها إلَّا بعد وصوله إلى مرحلة النُّضج الفكري، والعاطفي، والعقلي؛ وذلك لأنَّ الكمال ليس له أيّ وجود؛ بل هو فكرة مجرَّدة لا تتناسب مع الواقع، وكلّما سعينا إلى الوصول إلى تحقيقه، غرقنا في الخيبة أكثر.

فلو نظرنا حولنا بعين ناقدة، إلى أي لوحة فنيّة، أو أغنية، أو قصيدة، أو أي شيء، فسنرى أنّه يمكن تحسينه؛ لذا إن كنت شخصاً ينشُد الكمال الخالص، فبالتأكيد ستتواجه تحديّات كبيرة، قد يستحيل تخطّيها.



ما هو تعريف الكمال؟

في الحقيقة، لا يمكن أن نتَّفق على تعريف واحد للكمال ومقاييسه، ولكن يمكن أن نقول:

  • إنَّه مجموعة من القواعد المثالية، التي يجب أن تكون وظيفتها شحن دوافعنا بالطاقة الإيجابيّة للارتقاء باتجاه الكمال، الذي لا يمكن أن نصل إليه لأنَّه مفهوم متغيِّر، وهذه فكرة إيجابية عن الكمال.

لكنَّ المشكلة تكمن فيمن يَسجُن ذاته داخل مفهوم الكمال المطلق والمجرَّد، ولا يَعُدُّه نموذجاً للتحفيز، وهذا تقصير مجتمعيٌّ، وثقافيٌّ، وتربويٌّ، منتشر عند مختلف الطبقات، والمستويات الاجتماعية.

ما هي صفات الإنسان الكمالي؟

  • ينشأ السعي وراء الكمال من جرَّاء التفكير المتصلِّب أو المتعنِّت؛ إذ لا يغيِّر الإنسان الكمالي توقعاته، أو خططه، أو تعامله وفقاً للموقف؛ بل يلجأ إلى تأجيل الحل، أو تجريح النفس وتقريعها، والاستسلام للأمر الواقع والامتناع عن المحاولة.
  • إنَّ الإنسان الكمالي يكون معرَّضاً للإصابة بالقلق والاكتئاب أكثر من غيره، كما أنَّه معرَّض بشكل أكبر للتفكير بالانتحار، وكذلك تزداد لديه معدلات الإصابة بالألم الليفي العضلي والتعب المزمن، واللذان يُعدَّان نتيجة للاكتئاب.
  • مشكلة الإنسان الكمالي، هي أنَّ حبَّه لذاته، واحترامه لها، مشروط بالإنجاز والقيام بالأعمال المتقَنة؛ وهذا ما يسبِّب اضطرابات نفسية وجسدية؛ لأنَّه من المستحيل على أي إنسان مهما كانت درجة مهاراته أو خبراته، أن يُنجِز أعمالاً متقَنة طوال الوقت.
  • يشعر الإنسان الكمالي -في أغلب الحالات- أنَّه شخص محتال، ويعيش في حالة خوفٍ دائمٍ من انكشاف أمره، مع أنَّه لم يرتكب أي خطأ، ولكن بما أنَّه لا يَعُدُّ نفسه ذا قيمة إلا في الحالات المثالية، فإنَّه سيشعر في أغلب الحالات أنَّه لا يستحق ما وصل إليه.
إقرأ أيضاً: 8 صفات يجب أن تتحلّى بها لتكون ناجحاً في حياتك

كيف تتخلص من وساوس المثالية؟

من أجل أن تنزع عن ذاتك ثوبها الوسواسي، ليكون كلُّ شيء من حولك في حالة مثالية، توجد عدّة أساليب من الممكن أن تحقِّق ذلك:

  • من المفيد، أن تتقبَّل بكلِّ رحابة صدر المواقف الجديدة، والأشياء غير المتوقعة، التي تصادفها في طريقك.
  • لا بدَّ أن تكون إنساناً منفتحاً على الفرص الجديدة، وتحاول أن تستثمر السعادة التي قد تقدِّمها لك.
  • عوِّد نفسك على حالة عدم الأمان، أو عدم الاستقرار.
  • الحياة ليست درباً معبَّداً بالورود والعصافير، لا بد أن تتقبَّل حدوث مثل هذه الأمور، وتعتاد على تكرارها.
  • تذكَّر جيداً، أنَّنا لسنا بحاجة إلى شراء سرير ذي تصميم أنيق ومريح إلى درجة الكمال لكي ننام؛ بل نحن بحاجة إلى أن نكون قادرين على النوم في أيّ فراش، ولو كان مصنوعاً من المسامير.
  •  اكتشف الأمر الذي يقودك إلى طلب الكمال، وعليك معرفة ما يدفعك نحو هذا الكمال.

 بعد أن تعلم بدقَّة ماهيَّة هذا الدافع، يجب عليك أن تُخضِعه لمحاكمة عقليّة عادلة، وتسأل نفسك:

  • هل هذا العمل الذي أريده بشكل مثالي يستوجب كلَّ هذا الاهتمام منّي؟
  • هل المثالية موجودة عند الأشخاص الناجحين كلهم؟
  • هل كان الدافع لديهم أن يكونوا مثاليين بكلِّ شي؟

في الحقيقة، لو اطّلعت على قصص عظماء التاريخ، والعلماء، وكبار الأطباء والمخترعين، سترى أنّهم لم يكونوا بتلك المثاليّة.

شاهد أيضاً: 7 أمور يجب أن تتذكرها حينما تقسو عليك الحياة

مهارات يجب علينا إتقانها:

  • من المفيد أن تتعلَّم مهارة مجاملة الذات، وهي أن تقوم بمخاطبة ذاتك باللباقة واللطف والذوق الرفيع أنفسهم، التي تخاطب بها الآخرين. خاطِب نفسك بصوت مرتفع.
  • لا بد لنا جميعاً، أن نقنع أنفسنا بقانون هام، هو أنَّنا حين نركِّز على الأشياء الخاطئة، ونعطيها أكثر مما تستحق من اهتمامنا، فإنَّنا سنتغافل عن الأمور الصحيحة والأشياء الإيجابية، بطريقة أو بأخرى، سواء بوعي أم بغير وعي.
  • يوجد في الحياة كثير من التقلّبات والأحداث، منها السلبيُّ ومنها الإيجابيُّ، ومنها ما هو خاضع لإرادتنا أو سيطرتنا، ومنها لا نملك إزاءها أيّ خيار، ولا يمكننا منعه أو تجنُّبه، مثل: الشيخوخة أو الموت.
  • تذكَّر طوال الوقت، أنّ السعي السليم والصحي إلى الكمال، هو الذي يحرِّكه الحماس لا الخوف، ويقوده الأمل وليس القلق، وتغلِّفه الثقة وليس التردُّد.
إقرأ أيضاً: 6 نصائح فعّالة للتخلص من مشاعر الخوف من الفشل

ما هي المشكلة في السعي وراء الكمال؟

إنَّ المشكلة في بعض الحالات، ليست في أنَّ الشخص لديه معايير عالية، يقيس بها نجاحاه وإمكانياته وما حوله من ظروف؛ إنّما تكمن في أنَّه في بعض الحالات، التي يشعر بها أنَّه مسيَّر وليس مخيَّر.

وتكمن المشكلة عند نسبة كبيرة من الناس، أنَّهم يعطون أهميّة مبالغاً بها لتوقُّعاتهم، أكثر من الأهمية التي يعطونها للواقع الذي يشكّل الملعب الحقيقي للإنسان، فنحن نعيش في الواقع، لا نعيش داخل توقّعاتنا.

عدا عن الإحباط الذي يرافق الإنسان في مختلف مراحل حياته؛ لأنَّ الكمال من المستحيل أن يتحقق، ومن ثمَّ يبقى الشخص في حالة لوم مستمر للذّات وعدم الرضى؛ وهذا يؤدي إلى ضعف الثقة بالنفس؛ بل يتجاوز ذلك إلى مشكلات أبعد.

فقد يُصاب الإنسان بالقلق، وشيئاً فشيئاً يتحول هذا القلق في حال استمراره لفترة طويلة إلى اكتئاب؛ نتيجة خمود أو خمول العناصر المتهيِّجة التي يعمل فيها القلق؛ فيمكن أن نشبِّه القلق بالمعركة الحامية، والاكتئاب بالرماد الناتج عن الدمار الذي تخلِّفه هذه المعركة.

ما هو التحليل النفسي الكامن وراء الميل الوسواسي نحو الكمال؟

قد يكون السبب في حُبِّك الزائد للمثاليّة والكمال، أنَّك عشت طفولة تتَّسم بالكثير من الفوضى، وليس فيها أي نوع من النظام؛ وهذا أدى إلى معاناتك من جرَّاء هذه الفوضى، وزرع في داخلك هاجس الإتقان والرغبة في أن تكون كلُّ الأمور من حولك في حالة مثالية لا يشوبها شائبة؛ وذلك من أجل أن تسيطر على كل جزئيات حياتك، وتحصل على النظام الذي كنت فاقداً له خلال مرحلة طفولتك.

يميل بعض المحلِّلين النفسيين إلى تفسير سعي الإنسان نحو الكمال، وإتقان الأعمال بالطريقة الصحيحة والمثالية، على أنّه رغبة الإنسان بإدخال الأمان إلى قلبه، ولكي يشعر بتقدير الذات، ويزيد من ثقته بنفسه ويطوّر قدراته وإمكاناته، فلا نستطيع إنكار أنَّ أكثر ما يقوِّي ثقة الإنسان بنفسه، هو إتقانه للعمل الذي يحبُّه، وحصوله على إعجاب نفسه وإعجاب الآخرين.

إلَّا أنَّ بعض مدارس علم النفس، تُرجِع سعي الإنسان نحو الكمال، بأنَّه عاش مرحلة ما من حياته، لم يكن فيها أبواه راضين عمَّا وصل إليه في حياته من إنجازات، وما حقَّقه من أهداف؛ وهذا يعني أنَّه عاش في جوٍّ من القلق والتوتر أو عدم الرضى الزائد عن الحدِّ، حتى لو كانت الأمور على ما يرام، أو أنَّ هناك نواقص يسيرةً فيما يقوم به.

إقرأ أيضاً: علم النفس التحفيزي: سر قوة الدافع

ماذا يمكن أن نفعل لمحاربة الكمالية؟

  1. التخلُّص من التفكير الذي يُملِي علينا ما يجب أن نقوم به وما يجب أن نفعله.
  2. من الأفضل أن نتدرَّب على أن نكون قادرين على التعامل بعفوية في الظروف التي تَفرِض علينا ذلك.
  3. التخلص من التفكير الثنائي (أسود- أبيض)؛ إذ يجب أن نعلم أنَّ هذين اللونين، لا وجود لهما بشكل منفرد، فالحياة عبارة عن خليط من الاثنين.
  4. من المهم جداً، أن نُثني على أنفسنا بمجرَّد بذل الجهد والمحاولة، ولا نضع النتيجة المثالية شرطاً حتمياً لنكون راضين عن أنفسنا.
  5. لا بد أن نتوقَّف عن النظر إلى الأخطاء على أنَّها كارثة كبرى، وعدِّها جزءاً لا يتجزأ من طبيعة الحياة.
  6. منح أنفسنا الوقت الكافي لإنجاز مهمة معيَّنة، عوضاً عن الإسراع في تنفيذ العمل، من أجل إنهائه في وقت قياسي؛ لأنَّه في حال برمجنا أدمغتنا على إنجاز العمل بوقت قياسي وسريع، سيكون ذلك على حساب الدقّة في العمل، وفي حال أُنجِزَ العمل بدقَّة، ولكن بمدة أطول مما وضعناه لأنفسنا، سنقع أيضاً في حفرة لوم الذات، ونضيع على أنفسنا بهجة الاحتفال بعملنا هذا. 
  7. النظر إلى أنفسنا وواقعنا، بعين تملؤُها الرحمة والتعاطف؛ لأنَّ أكثر من يستحق الرحمة، والعطف، والكلمة الطيبة هي ذاتنا وأنفسنا، فلن نستطيع أبداً أن نعطي المحبة للغير، إن كنَّا لا نعطيها لأنفسنا بالدرجة الأولى.

شاهد بالفيديو: كيف تتخلص من رغبتك في الكمال؟

في الختام:

لن يوصِلُنا السعي نحو الكمال إلى أي نهاية؛ لأنَّ السؤال: ماذا كان عليَّ أن أفعل؟ يحمل عدداً غير منتهٍ من الأجوبة، فمن الأفضل أن نستمتع باستعراض ماذا فعلنا حقاً؛ وهذا يجعلنا نستمتع استمتاعاً أكبر.




مقالات مرتبطة