إتقان الفنون غير المنطقية

أتذكَّر بدقةٍ اللحظة التي ظننت فيها أنَّني أصبحتُ عالماً، فما زلت أستطيع سماع صوت أستاذي الجامعي في علم النفس وهو يقول: "قفوا، وليُخرِج كلٌّ منكم قطعةً نقدية، سوف نلعب لعبة".



ملاحظة: هذا المقال مأخوذٌ عن المدوِّن مايكل بيترزاك، والذي يحدِّثنا فيه عن الإيمان والمنطق.

سأل وهو يقف أمام 500 طالبٍ في قاعة المحاضرات الضيقة: "ما هي احتمالات أن نرمي هذه القطعة، ليظهر وجه "الطرَّة" 10 مراتٍ على التوالي؟

وافقنا جميعاً على أنَّ هذا مستحيل؛ فطلب أن يرمي كلٌّ منَّا قطعته النقدية، والشخص الذي تُظهِر قطعته النقدية وجه "النقش" عليه أن يجلس.

جلس نصف الطلَّاب بعد الجولة الأولى؛ وفي الجولة الأخرى، أخذ أكثر من 100 طالبٍ آخر مقاعدهم؛

وعندما انتهت آخر رمية، لم يكن هنالك أحد عدا عن ثلاثة أشخاصٍ رأوا "الطرةَ" 10 مراتٍ على التوالي. صرخنا جميعاً: "هذا مستحيل"، فقال المحاضر: "لا يوجد شيءٌ مستحيل؛ إنَّه قانون الاحتمالات فحسب".

أظهر لنا خلال ساعتين متتاليتين أنَّ الأحداث التي نَعُدُّها خارقةً للطبيعة، ليست سوى مصادفةٍ عشوائية.

تبنَّيت المنطق والطريقة العلمية منذ ذلك اليوم، وكانا بمثابة النور الذي يقودني.

منطق عدم المعرفة:

لقد أبعدتُ نفسي عن المعرفة التي لم تخضع لأيِّ مراجعة، وأمضيت عقداً وأنا أمتلك إجابةً عن كلِّ سؤال؛ ولكنَّ معرفتي كانت قليلة، رغم أنَّه كان لدي فهمٌ قويٌّ للواقع، فلماذا لم أكن سعيداً في معظم الأوقات؟

كانت تلك المحاضرة نقطةً محوريةً في طريقة إقناعي، وكان نقاشي مع زوجتي في إحدى السنوات مسألةً أخرى، فلقد تناقشت وإيَّاها عن الحياة بعد الموت، واتخذتْ موقفاً غير منطقيٍّ سخر منه المنطق العلميُّ الذي لدي؛ وبينما كنت أُجادلها، أدركت أنَّني لا أُصدِّقُ كلمةً ممَّا أقول، إذ توافقت قناعاتي وإيماني مع ما تقوله.

كنت أعمل على تنمية حدسي لسنوات؛ ولكن في تلك اللحظة، رأيت بوضوحٍ كيف أنَّ هوسي العقائدي بالعقلانية البحتة قد أبعدني عن سعادتي، فقد كنت أحتاج إلى مضاعفة رحلتي في الفنون غير المنطقية لأثق بحدسي وأمتلك إيماناً راسخاً بقوة وطاقة الكون، والتي هي بشكلٍ مطلقٍ أكثر ذكاءً من العقل.

لن أتخلَّى عن العقلانية، أنا أساويها فقط مع "القلب"، ولقد دفعني المنطق والعلم ومجتمعنا إلى التقدُّم إلى الأمام، ولكن ليس بعيداً عن كونه غير معروفٍ في الغالب. لقد قرَّرت تبنِّي ما يصلح، حتَّى لو لم يكن له تفسيرٌ منطقي.

شاهد بالفيديو: 10 حقائق قد لاتعرفها عن العقل البشري

الفنون غير المنطقية:

افتتح "مالكولم جلادويل" (Malcolm Gladwell) كتابه الرائع (Blink) بإيضاحاتٍ رائعة، وكان منها: "كان متحف جيه بول جيتى (J. Paul Getty) على وشك الحصول على تمثالٍ يونانيٍّ نادرٍ وغالٍ، ولكن عندما كان الخبراء يتحقَّقون من أصالته، راودهم الشك من اللحظة الأولى أنَّه تمثالٌ مزيف".

لم يكن الخبراء بحاجةٍ إلى التحليل للوصول إلى الحقيقة؛ هم متأكِّدون من ذلك بحدسهم. كيف يكون ذلك؟ إنَّ التفكير السريع اللاواعي الموجود لدينا مُستخَّفٌ به إلى حدٍّ كبير، على الرغم من أنَّ العلماء بدأوا فهمه، واتفقوا على أنَّ تأثيره أقوى من التفكير المنطقي الواعي.

أنا على وشك أن أُرِيكم مدخلاً واسعاً من المعرفة، ولكن لن يكون لدينا الوقت لاستكشاف أعماقها بالكامل. إليك المدخل وبعض المخططات لمساعدتك على الفهم بشكلٍ أوسع:

1. الحدس:

الحدس هو مهارتنا الفطرية في استخدام العواطف اللاواعية لاتخاذ القرارات. يدرك علماء الأعصاب أنَّ معظم قراراتِنا يجري اتخاذها دون وعيٍ، على الرغم من العمليات العقلية المعقدة لإيجاد تفسيرٍ منطقيٍّ لقراراتنا بعد تنفيذها. هل تشعر بالرهبة أو القلق من أنَّ هنالك شيءٌ لا يجري على ما يرام؟ إذاً، فهو حدسك من يخبرك بشيءٍ ما.

يمكن أن يجعلنا استخدام الحدس بشكلٍ سيءٍ نرسل رسالةَ انتقادٍ قاسية، ولكنَّه بشكلٍ عامٍّ يرغبُ بأن نكون سعداء؛ ومع التدريب المستمر، يمكننا استخدامه لتحسين أفكارنا واتخاذ قراراتٍ أفضل وأسرع.

يستطيع الباحثون الآن قياس الحدس بشكلٍ علمي، وقد أظهر الخبراء من خلال دراستهم لفترةٍ طويلةٍ أنَّه يمكن تحسينه من خلال التدريب. وصفَ ستيف جوبز الحدس بأنَّه "أكثر قوةً من العقل"، ووصفه ألبرت أينشتاين بأنَّه "الشيء الحقيقي الوحيد القيِّم". فلماذا لا تعمل على تطوير حدسك؟

إقرأ أيضاً: هل يجب أن نثق بشعورنا الغريزي عند اتخاذ القرارات؟

كيفية تطوير الحدس:

  • استخدِم تقنية "هارت ماث" (HeartMath): ستضعك هذه التقنية في حالةٍ من الانسجام، حيث يتواءم الجسم والعقل والعواطف، ويعملون معاً بشكلٍ أفضل؛ ممَّا يقوِّي حدسك. الأمر بسيط:
    1. ضع يديك على قلبك وركِّز انتباهك على هذه المنطقة، وتخيَّل أنفاسك تتدفَّق من قلبك وخارجه، وتنفَّس ببطءٍ وعمق.
    2. استعن بشعورٍ إيجابيٍّ مثل: الامتنان، أو الحب.
    3. بعد أقلِّ من 60 ثانية، ستتمكَّن من الوصول إلى مزيدٍ من حدسك وإبداعك.
  • أخفِض صوت أفكارك المنطقية: يمكنك القيام بذلك من خلال التأمُّل، أو أحلام اليقظة في أثناء الاستحمام، أو القيادة بمفردك، أو الاستماع إلى الموسيقى. عندما تعطي عقلك قسطاً من الراحة، يمكنك سماع رسائل من اللاوعي، فقط ركِّز انتباهك على أحلامك؛ وسيرسل لك حدسك رسائل في أثناء النوم.

من أتقن الحدس من الناجحين؟

  • توني روبنز (Tony Robbins): يُدرِّس توني روبنز نسخةً من تقنية "هارت ماث" (HeartMath) التي يُطلِق عليها "التنفس القلبي"، ويوضِّح أنَّه عندما نوائم قلبنا (الحدس) وعقلنا (المنطق)، نتخذ قراراتٍ أفضل، ونجد حلولاً جديدةً للمشكلات.
  • ستيف جوبز (Steve Jobs): أخبر سنيف جوبز كاتب سيرته الذاتية بما يلي: "بدأت أدرك أنَّ المفهوم الحدسي كان أكثر أهميةً من التفكير المجرَّد والتحليل المنطقي الفكري". لم يكن جوبز معروفاً بكونه آلةً في تحليل الأرقام فحسب؛ بل وكان يتمتَّع بالبداهة، وإن كان مزاجياً من خلال قيادته غير التقليدية.

2. الإيمان:

يتداخل الإيمان غالباً مع المذاهب الدينية، ولكن لا يجب أن يكون كذلك؛ فهو ببساطةٍ خيارٌ يعتمد على الحالة العقلية، وذلك بأن تقول: "أنا على يقينٍ تامٍّ من هذه النتيجة، حتَّى ولو كانت الاحتمالات تبدو مُروِّعة".

أطلق توني روبينز (Tony Robbins) على الإيمان مصطلح "اليقين"، وهو يعلم أنَّه "خُلِق في داخلك وليس في محيطك"، ويمكنك الآن اختيار الصواب وتحديد وتحقيق هدفك دون انتظار الظروف الخارجية.

نَمِّ يقيناً لا يتزعزع، ويمكنك حينها فعل أيِّ شيء.

كيفية تطوير الإيمان:

  • التمثيل البصري: تدرَّب على تطوير رؤيةٍ واضحةٍ ومفصَّلةٍ لحياتك في كلِّ صباح. اجلس بهدوءٍ وأغمض عينيك، وتخيَّل كلَّ التفاصيل كما لو كان الأمر حقيقة؛ مثل: المنظر الخلاب من نافذة المنزل الذي تعيش فيه، والطريقة التي تظهر بها، والمبلغ الكبير من المال في حسابك المصرفي. اشعر بالامتنان الشديد؛ لأنَّ هذه الأشياء في طريقها إلى حياتك بالفعل.
  • المانترا (التغنِّي): كرِّر عباراتٍ مثل: "يأتي المال إليّ طوعاً وبسهولة"، أو "أنا أعيش في حالةٍ رائعة"، فالشعور بعاطفةٍ بما تريد هو أسرع طريقةٍ لإعادة برمجة عقلك. قم بذلك في أثناء القيادة أو المشي أو تحضير الطعام.
  • الاستسلام: دعك من السيطرة على حياتك، وسوف تجد أنَّ الكون لديه طريقةٌ لتحقيق ما تحتاج إليه، وليس ما تريده؛ وعادةً ما يكون شيئاً أفضلَ ممَّا كنت تتمنَّى.

من أتقن الإيمان من الناجحين؟

  • إيلون ماسك (Elon Musk): الرجل الذي لم يواجه تحديَّاً واحداً فحسب، بل تحديين اثنين، وكان هو الرابح. مع شركة تيسلا، سوف يحدُّ من التلوث عبر صناعة مركباتٍ كهربائيةٍ تحسِّنُ المناخ. مع شركة سبيس إكس، خفَّض تكاليف إرسال الشحنة في الفضاء بنسبة 86%، وهو في طريقه لوضع البشر على المريخ بحلول عام 2024. أنت لن تنجح في مهامٍ كهذه دون الإيمان.
  • جين سينسيرو (Jen Sincero): في الأربعين من عمرها، كانت مُفلسةً وتسكن في منزلٍ صغير؛ لكنَّ "جين" قرَّرت تغيير طريقة تفكيرها، وأكَّدت لنفسها أنَّها ستكون غنية. اقترضت 85 ألف دولارٍ للاستثمار في تدريب الأعمال عندما لم تكن تستطيع شراء تذكرة فيلم، وهي الآن وكيلةٌ لأهمِّ المبيعات وكاتبةٌ ومدربة أعمال. عندما يكون لديك إيمان لا يتزعزع بالنتيجة التي حدَّدتها لنفسك، سوف تحافظ على دوافعك وتزيل أيَّ عقبةٍ تواجهك.
إقرأ أيضاً: 4 طرق لإعادة برمجة نشاطك الفكري

3. الصدفة والتزامنية:

الصدفة هي تلك الأحداث السعيدة التي تؤدِّي إلى نتائج إيجابية، كأن تجد 20 دولاراً في جيبك لم تكن تعلم بها؛ أمَّا التزامنية فهي أن تتحدَّث عن صديقٍ ويتصل بك في اللحظة ذاتها. هذه ليست مجرد أشياءٍ تحدث لك؛ فلقد لوحظ أنَّ هذه الأحداث يمكن دعوتها إلى حياتك من خلال الممارسة.

حاولتُ لفترةً طويلة أن أفسِّر هذه الأحداث على أنَّها صدفةٌ لا معنى لها، لكنَّ الحياة تُظهِر أنَّ هناك نظاماً للكون لا يمكن تفسيره بعقلانية.

كيفية تطوير الصدفة والتزامنية:

اتبع إشاراتك: الشهر الماضي، سقطَ يعسوبٌ من الشرفة بجانبي. في تلك اللحظة، كنت أكتب عن "غابرييل بيرنشتاين" (Gabrielle Bernstein)، التي استخدمت في كتابها (The Universe Has Your Back) اليعسوب كعلامةٍ تساعدها في اتخاذ القرارات.

كنت سأسخر من هذا، ولكن في تلك اللحظة، ميَّزتُ هذه الإشارة، وشغَّلت من فوري كتابها الصوتي هذا. في الفصل الأول، عثرت على معلومةٍ أساسيةٍ كنت أحتاجها لحلِّ مشكلةٍ كانت تواجهني. هل كان الكون يكلِّمني؟ أم أنَّ عقلي الباطن القوي يخبرني أين يمكنني إيجاد الحل؟ أم أنَّها كانت مجرد صدفةٍ عشوائية؟ عددتُ أنَّ الجواب غير هام، إذ يرسل الكون الإشارات، حتَّى لو لم تفهم تماماً كيف أو لماذا.

قدَّمت الصدفة والتزامنية الكثير من الحظ الطيب إلى حياتي، وتعلَّمت أنَّه كلَّما أصغيتُ لتلك الرسائل بثقة، ظهرت أكثر في حياتي. يبدو الأمر جنوناً بالتأكيد، ولكن ليس لديك ما تخسره بتجربته لمدة 30 يوماً.

من أتقن الصدفة والتزامنية من الناجحين؟

  • غابرييل بيرنشتاين (Gabrielle Bernstein): كتبت "غابرييل" ستة كتبٍ تقول فيها: "إذا تركت الأمور تجري ببساطةٍ واستسلمت لإرادة الكون، فسوف يرسل لك كلَّ الحبِّ والفرح والرخاء الذي تحتاجه. كلُّ ما عليك فعله هو الإصغاء للإشارات".
  • مايكل سنجر (Michael Singer): بصفته منتمياً إلى حركة الهيبيز التي نشأت في سبعينيات القرن الماضي في ألتشاو وفلوريدا في الولايات المتحدة، كان يرتدي حذاء بيركنشتوك وكانت تسريحة شعرهِ على شكل ذيل الحصان، وكان كلُّ ما أراده هو التأمُّل في الغابات. في هذه الرحلة الروحية، اتخذ قراراً جذرياً بأن يتخلَّى عن رغباته الشخصية، ويتَّبع أيَّ إشارةٍ قد ترسلها الحياة إليه. أدَّى هذا القرار إلى مصادفةٍ هائلةٍ قادته إلى مستوياتٍ عاليةٍ من النجاح، وتكريماً لعطاء الحياة، أنشأ مجتمعاً روحيَّاً مزدهراً، وأطلق شركات البناء والبرمجيات، وأصبح الرئيس التنفيذي لشركة (Web MD) التي تبلغ قيمتها مليار دولار. إنَّ كتابه الأكثر مبيعاً "تجربة الاستسلام" (The Surrender Experiment)، هو تأكيدٌ قويٌّ على هذه الفنون غير المنطقية.

عندما يكون المنطق هو القاعدة الأساسية في الحياة، لن تكون النتائج عظيمة، مثل ارتفاع درجات الحرارة العالمية وزيادة الانقراضات الجماعية لزيادة الناتج المحلي الإجمالي بمقدارٍ ضئيل؛ وهدم علاقاتنا انطلاقاً من مبدأ "نحن الأخيار وهم الأشرار"؛ والعمل لـ 60 ساعةً في الأسبوع من أجل "بناء حياة أفضل"، وقضاء عمرنا لندرك في النهاية بأنَّنا لم نَعِش أبداً.

يشكِّل المنطق أعظم الأصول البشرية، لكنَّنا نعمل بشكلٍ أفضل عندما نستند أيضاً على الفنون غير المنطقية التي نحصل عليها من الحياة.

المصدر




مقالات مرتبطة