أثر الفقر في الصحة النفسية

الصحة النفسية للإنسان هي جانب من جوانب توازنه لا يقل أهمية عن الصحة الجسدية؛ لأنَّها المنظار المتحكم برؤية الإنسان للأمور، وتقبُّله للمواقف، وتفاعله مع الأحداث، وتتحكم عدة عوامل بالتوازن النفسي للفرد.



ولعلَّ أثر الفقر في الصحة النفسية أمرٌ لا يمكن إغفاله؛ وذلك لأنَّ العوز المادي والتحجيم الاجتماعي الذي يُحتِّم الفقر وجوده في حياة الفقراء، يفرض عليهم نوعاً من الانطواء والانكسار وانعدام الثقة والخلل في تعريف المفاهيم والقيم؛ لذا فقد خصصنا هذا المقال للحديث عن أثر الفقر في الصحة النفسية، علَّه يكون سبباً في مدِّ يد العون نحو الفقراء، وتخفيف حِدَّة التفاوت الطبقي.

تعريف الفقر:

لا بد لنا من التطرق نحو تعريف الفقر قبل الدخول في تأثيراته وتبعياته في الصحة النفسية، وفي الإجابة عن سؤال "ما هو الفقر؟" نقول: الفقر في اللغة هو العوز والحاجة، وهو في تعريف لغوي لعبارة "فقر الرجل": يعني كسر فقار ظهره، ولعل هذا التعريف يوضح الإذلال والانكسار الذي قد يسببه الفقر لصاحبه.

أما تعريف الفقر اصطلاحاً فهو عجز الفرد عن تأمين حاجاته الضرورية، والفقر حسب معيار الدخل هو انخفاض مستوى الدخل السنوي إلى قيمة تتراوح بين 50-70 دولاراً بأسعار عام 1970 حسب رؤية البنك الدولي، أما الشعوب الفقيرة فهي الشعوب التي يكون معظم مواطنيها معدمين لا يملكون شيئاً من وسائل الإنتاج، ومن منظور آخر، يمكن تعريف الفقر بأنَّه شعور الأفراد بأنَّهم يعيشون في مستوىً مادي أقل من المستوى الذي يعيشه الآخرون في نفس البلاد أو في بلاد أخرى.

أثر الفقر في الصحة النفسية:

مما لا شك فيه أنَّ عجز الإنسان عن تأمين حاجاته الضرورية يؤثر في نظرته لنفسه؛ لذا إنَّ أثر الفقر في الصحة النفسية يكون بالغاً وسهل الملاحظة؛ لأنَّ أثر الفقر لا يتوقف على نظرة الإنسان لنفسه فحسب؛ بل يتعداها ليؤثر في سلوكاته الاجتماعية، ومبادئه في الحياة، وطريقة تربيته لأطفاله، وأسلوب تفكيره، ومما لا شك فيه أنَّ أثر الفقر في الصحة النفسية هو أثر سلبي في الأفراد أنفسهم وفي مجتمعاتهم، ونعرض فيما يأتي بعض آثار الفقر في الصحة النفسية للإنسان:

شاهد بالفيديو: 12 نصيحة للحفاظ على الصحة النفسية

شعور الفرد بالدونية والنقص:

من أثر الفقر في الصحة النفسية للإنسان أنَّه يُشعره بأنَّه أقل شأناً من الآخرين، ولقد ذُكِر في كتاب تربية الأولاد في الإسلام أنَّ الفقر سبب من بين جملة أسباب تُوقِع الإنسان منذ مراحل طفولته المبكرة في حفرة انتقاص نفسه عن الآخرين، وتساهم في تعقيد حالته النفسية، وانحراف أخلاقه ومبادئه وتصرفاته، وميوله نحو الرذيلة والإجرام؛ والسبب في ذلك كون الطفل يفتح عينيه على البؤس والحرمان وشقاء ذويه، ويزيد الأمر سوءاً مقارنة نفسه مع أقرانه الأفضل حالاً وأكمل نعمة؛ وهذا يؤجج في داخله نار النقمة والحقد، ويجعله عرضةً للإصابة بالعقد النفسية ومركبات النقص.

الشعور بالإحباط:

يندرج شعور الفرد بالإحباط تحت أثر الفقر في الصحة النفسية، والإحباط تعريفاً هو العملية التي تجعل الفرد مدركاً للعائق الذي يحول بينه وبين إشباع حاجاته، وتوقُّع استمرار وجود هذا العائق في المستقبل، وفي حالة الفقر يدرك الفرد الظروف المادية الصعبة التي يعيش فيها، ولا يشكل هذا الأمر مصدراً للإحباط بالنسبة إلى جميع الفقراء، فبعض الفقراء تغلب عليهم صفات الرضى والتقبل والتكيف مع الواقع، أما بعضهم الآخر - وهم الأغلبية - ينظرون إلى الفقر على أنَّه سبب إحباطي كبير يلغي جدوى محاولة الوصول لأي شيء، فيسيطر عليهم شعور بالضيق المستمر.

وتؤدي ثقة الفرد بنفسه دوراً كبيراً في إدراكه للإحباط، فالأفراد الذين يتمتعون بثقة عالية بالنفس يكون الانعكاس السلبي لأثر الفقر في الصحة النفسية لديهم أخف وطأة، فهم ينظرون إلى المواقف الصعبة والضغوطات المادية نظرة متفائلة مليئة بالرضى، بسبب الثقة التي اكتسبوها من قدرتهم على تذليل الصعاب والتغلب على العقبات.

أما الأفراد الذين فشلوا في ذلك، يتصدع بنيان ثقتهم بأنفسهم وتغلب السوداوية والتشاؤم على نظرتهم تجاه الحياة، ويستسلمون لليأس والإحباط، وبما أنَّ الفقر يسبب زعزعة في مستوى ثقة الفرد بنفسه، ومن ثمَّ فهو يؤدي دوراً حاسماً في كيفية إدراك المرء للمواقف المحبطة.

إقرأ أيضاً: 6 نصائح بسيطة للتخلص من الإحباط

العنف:

يُعَدُّ ميل الفرد نحو العنف من تبعيات أثر الفقر في الصحة النفسية، والعنف تعريفاً هو السلوك الذي يسبب الأذى للآخرين، سواء كان هذا الأذى نفسياً أم جسدياً؛ والسبب في ذلك الضغوطات المادية والاجتماعية التي يضع الفقر الإنسان فيها، من بطالة ونقص في الخدمات الاجتماعية وهجرة وسكن شعبي متقارب ومشكلات في المواصلات وغيرها، كل هذه الأسباب هي محرضات تعزز ميل الإنسان نحو ارتكاب الجرائم والعنف لتغطية الحاجات التي تمنع هذه المشكلات تلبيتها.

وتؤدي الفوارق الطبقية والاجتماعية وسوء توزيع الثروات الوطنية دوراً إضافياً في تعزيز الهوة التي يسببها أثر الفقر في الصحة النفسية، ويضاف إليها انتشار مظاهر التباهي والمبالغة في الترف من قِبل الأغنياء؛ وهذا يزيد شعور الفقراء بالظلم ويثير سخطهم وإحساسهم بالاضطهاد والتمييز، ويُترجَم هذا البركان من المشاعر السلبية الغاضبة على شكل ممارسات عنف وحالات إجرام لا يمكن السيطرة عليها، والتي قد يتحد فيها الأفراد الذين يعانون ذات الضغوطات المادية والفقر والقهر؛ لتشكيل عصابات تمارس العنف ممارسة ممنهجة بهيئة عمليات قتل واختطاف واغتصاب وسرقة.

وتشير الدراسات إلى أنَّ العائلات التي تعاني من الفقر المدقع وانخفاض المدخول المادي، ترتفع فيها نسبة العنف الأسري بسبب الضغط النفسي الذي يشعر به المعيلون، وعجزهم عن تلبية متطلبات الحياة الرئيسة للأسرة، فيكون العنف هو طريقتهم الوحيدة لفرض السيطرة والتأثير في أفراد العائلة، ولنا حرية التصور فيما يتعلق بشكل المجتمع المكون من أسر متفككة، وأفرادها غير المتوازنين.

إقرأ أيضاً: أكثر مظاهر العنف انتشاراً في المجتمع

تدني مستوى الطموح:

يُعَدُّ تدني مستوى الطموح تابعاً لأثر الفقر في الصحة النفسية، والطموح تعريفاً هو المقياس الذي يشعر الفرد بالنجاح أو الفشل على أساس وصوله إليه، وهو الإطار المرجعي المتضمن نظرة الفرد إلى ذاته، وهو في تعريف آخر أهداف ثابتة نسبياً تميز الأفراد وتختلف باختلاف تجاربهم الحياتية، ويتطلب الوصول إليها درجة من الصعوبة وتحمُّل المسؤولية والكفاح والمثابرة.

أشارت العديد من الدراسات إلى وجود تناسب عكسي بين مستوى الطموح والمستوى الاقتصادي، وإلى وجود حالة من تدني الطموح حد الانعدام بين أوساط الأفراد التي يسودها الفقر.

وعلى الرغم من أنَّ الطموح هو الطاقة الإيجابية الوحيدة القادرة على إخراج الأفراد من حفرة فقرهم، وهو الدافع الأكثر جدوى للتخلص من الفقر والأكثر أهمية حتى من المساعدات المالية.

الأمراض النفسية:

تُعَدُّ الإصابة بالأمراض النفسية أثراً من آثار الفقر في الصحة النفسية؛ بل ويجزم المؤتمر الثاني عشر لاتحاد الأطباء النفسيين العالمي أنَّ الفقر هو المسبب الأول للأمراض النفسية، وليس غريباً على الفقر أن يتسبب بالأضرار السلبية للكائن البشري، فكثيرة هي الأمراض الجسدية التي تعود أسبابها إلى الفقر، وتضاف إليها الآن مجموعة من الأمراض النفسية التي يسبب تطورها إعاقة جسدية، وهي الاكتئاب والوسواس القهري والإدمان والفصام والاضطراب الوجداني ثنائي القطب.

الأمراض النفسية التي يسببها الفقر:

يتسبب الفقر بالإصابة بالأمراض الجسدية والنفسية، وله آثار خطيرة في صحة الإنسان، فتبعيات الفقر المادية تتسبب بأمراض جسدية متعلقة بسوء التغذية وقلة النظافة وانعدام أساليب الحياة الصحية، أما تبعياته النفسية من ضعف الثقة بالنفس وفقدان الأمل والشعور بالدونية تجعل الإنسان عرضة للإصابة بالأمراض النفسية.

من أبرز الأمراض النفسية التي يسببها الفقر نذكر ما يأتي:

من أبرز الأمراض النفسية التي يسببها الفقر

اضطراب القلق العام Generalized Anxiety Disorder:

يُعَدُّ اضطراب القلق العام واحداً من الأمراض النفسية التي يسببها الفقر، وهذا الاضطراب تعريفاً هو شعور عام غير مفهوم وغير سار بالخوف والتوتر والتوجس والتحفز، ويأتي على شكل نوبات متكررة من الصداع وضيق النفس والشعور بضربات القلب، مترافقاً بإحساسات جسمية كزيادة في نشاط الجهاز العصبي اللاإرادي وكثرة الحركة.

الفصام Schizophrenia:

يُصنَّف الفصام بوصفه واحداً من الأمراض النفسية التي يسببها الفقر، وكلمة Schizophrenia مؤلفة من قسمين؛ الأول (Schiz) ويعني الانفصام، والثاني (Phrenia) ويعني العقل، ومعنى الفصام هو انقسام العقل - وليس انقسام الشخصية كما هو شائع - وهو مرض ذهاني يبدأ بمجموعة من الأعراض العقلية والنفسية، والتي لا تلبث أن تتدهور وتتحول إلى اضطرابات في السلوك والشخصية ما لم تُعالَج في وقت مبكر، وتكون الأعراض الأولية على شكل اضطرابات في الإدراك والسلوك والإرادة والتفكير والوجدان.

الاكتئاب Depression:

الاكتئاب أيضاً مصنَّف ضمن الأمراض النفسية التي يسببها الفقر، وهو مرض عصابي مصحوب بمشاعر ذنب مبالغ فيها وقلق ويأس وأرق، بالإضافة إلى انعدام الثقة بالنفس والبكاء المتكرر وفقد الشهية وجلد الذات المستمر؛ وهذا يتسبب في تبلد الفرد وانخفاض نشاطه، وتقوقعه عن نفسه وانكفائه عن إقامة العلاقات الاجتماعية، وشعوره الدائم بالعجز والخيبة.

ولا يمكن تشخيص الاكتئاب بناءً على الأعراض المؤقتة التي تصيب الإنسان عند الأزمات الخارجية وفقدان الأصدقاء والأحبة، التي تثير في دواخلنا مشاعر الفقد والضياع والأسى، فهي مشاعر طبيعية مؤقتة، ولكنَّها إذا ما استمرت لفترة أطول من المعتاد تتشخص بوصفها مرضاً نفسياً.

تأثير الفقر علينا:

وإنَّ أثر الفقر في الصحة النفسية ليس أقل شأناً من أثره في الصحة الجسدية، فهو يجعل الأفراد الذين يعيشون في ظروف اقتصادية صعبة يشعرون بالعوز والحاجة، وعدم القدرة على تلبية احتياجاتهم واحتياجات أسرهم؛ وهذا يوقعهم في دوامة من العجز والدونية وفقدان الثقة بالذات، ويدفعهم إلى اتباع طرائق إجرامية وعنيفة لتأمين متطلبات حياتهم أسوة بغيرهم من المحيطين، كما أنَّ ملاحظة الأضرار التي يسببها الفقر في صحة الإنسان النفسية والجسدية يجعلنا نفهم الحكمة المقصودة من القول المأثور: "لو كان الفقر رجلاً لقتلته".

المصدر




مقالات مرتبطة