الجدير بالذكر أن استطلاعات هذه المؤسسة وجدت أن 61% من العمال الأمريكيين محرومون من فرصة العمل عن بُعد بحكم وظائفهم، وما يزال هناك الكثير من المشككين بفاعلية وفوائد العمل عن بُعد، ومعظم هؤلاء من قادة الشركات على مستوى المديرين التنفيذيين.
لقد لاحَظَ مؤسس تطبيق فيسبوك (Facebook) مارك زوكربيرج (Mark Zuckerberg) أنَّ إنتاجية المهندسين ترتفع عند العمل في المكاتب، ويؤكد جيمي ديمون (Jamie Dimon) الرئيس التنفيذي لشركة جي بي مورغان (JPMorgan) أنَّ أسلوب العمل عن بُعد غير مناسب للموظفين الذي يريدون العمل بجد، وذلك في اجتماع مع موظفي الشركة في شهر مايو/أيار من عام 2021.
مع ذلك تخاطر الشركات التي تصرُّ على تطبيق سياسة الحضور الإلزامي للموظفين يومياً إلى مقر العمل، بخسارة الكثير من الفوائد التي يحقِّقها أسلوب العمل عن بُعد، ولأنَّ أسلوب العمل عن بُعد، أو العمل الهجين يمنح الموظف كثيراً من الاستقلالية؛ تتزايد ظاهرة ترك الوظائف في الشركات التي تمتنع عن تطبيق هذا الأسلوب المرن الذي يراعي احتياجات الموظف وحياته الشخصية خارج العمل.
وجدت شركة مايكروسوفت (Microsoft) في عام 2022 من خلال دراسة تجريها سنوياً للتعرف إلى توجُّهات القوى العاملة أنَّ 53% من الذين شملتهم الدراسة يضعون السعادة والصحة في أعلى سلَّم الأولويات (أي إنَّهم يرون أنَّ الصحة والسعادة أهم من تحقيق حلمهم الوظيفي)، وصرَّح أكثر من نصف هؤلاء من الجيل زد (Z Generation) وجيل الألفية أنَّهم على استعداد لتغيير وظائفهم إذا لم تُراعَ هذين العنصرين من قبَل الشركات التي يعملون فيها.
لا يمكن بطبيعة الحال إنكار أنَّ أسلوب العمل عن بُعد ينطوي على بعض السلبيات، فمثلاً تُصرِّح معظم النساء العاملات أنَّهن يعانين من صعوبة أكبر في التوفيق بين مسؤولياتهن الوظيفية، وواجباتهن الأسرية عند اتِّباع أسلوب العمل عن بُعد، إضافة إلى النتائج التي توصلت إليها الدراسات والتي تُظهر ارتفاعاً في معدلات الإصابة بالاكتئاب، والقلق عند اتِّباع أسلوب العمل عن بُعد (تجدر الإشارة إلى أنَّ هذه الدراسات أُجريت في فترة ذروة الجائحة التي كانت العامل الحاسم غالباً في شعورنا الدائم بالتوتر).
رغم ذلك، تُظهر الأبحاث، أنَّه عندما طُبِّقَ هذا الأسلوب وفق آليات عمل صحيحة من قبَل مديري الشركات، والفِرَق المدرَّبة على إدارة الموظفين العاملين وفق أسلوب العمل الهجين، مع وجود أنظمة دعم اجتماعي فعالة، وجودَ كثير من الفوائد المرتبطة بهذا الأسلوب المَرِن.
8 فوائد أظهرتها نتائج الدراسات والأبحاث لأسلوب العمل عن بُعد
1. تحقيق التوازن بين العمل والحياة الشخصية
غالباً ما كان من المستحيل تحقيق التوازن بين الحياة الشخصية والعمل قبل شيوع أسلوب العمل عن بُعد، وأصبح هذا الهدف الآن في متناول اليد، فيُصرِّح 71% من الموظفين الذين يتَّبعون أسلوب العمل الهجين أنَّ العمل عن بُعد يساعدهم، على الأقل مساعدة جزئيةً، على تحقيق التوازن بين الحياة الشخصية، والعمل وذلك وفقاً لاستطلاع أجرته مؤسسة بيو ريسيرش سينتر.
كما يتجنَّب الموظفون في هذه الحالة مساوئ الإدارة التفصيلية، على الرغم من كونهم لا يعملون في مكاتب الشركة، ولا يلتقون بالمديرين وجهاً لوجه إلَّا نادراً، وأفاد 71% من العاملين عن بُعد بأنَّ مديريهم أو رؤسائهم في العمل يمنحونهم ثقة أكبر مقارنةً بأسلوب العمل التقليدي.
2. خفضُ البصمة الكربونية (انبعاث الغازات الدفيئة) للموظف بمقدار النصف
لا تقتصر فوائد العمل عن بُعد على تعزيز سعادة الموظف فحسب، بل ثمَّة فوائد بيئية أيضاً، فتوصَّل بحث أجرته مؤسسة "ناشيونال أكاديمي أوف ساينسيز" (National Academy of Sciences) خلال عام 2023، أنَّ معدَّل مساهمة الفرد في انبعاثات الغازات الدفيئة، ينخفض إلى أقل من النصف عند العمل عن بُعد مقارنةً بالموظفين الذين يعملون في بيئات مكتبية.
كما تساعد ترتيبات العمل الهجين بعض الشيء أيضاً، فالعمل عن بُعد يومين أو أربعة أيام في الأسبوع يقلل من انبعاثات الغازات الدفيئة التي يسهم فيها الفرد بنسبة تصل إلى 29% مقارنةً بالموظفين الذين يعملون في المكتب، وقد أفاد تقرير لشركة زيروكس (Xerox) في عام 2015 أنَّ موظفيها العاملين عن بُعد قطعوا في سياراتهم مسافة أقصر بمقدار 92 مليون ميلاً (قرابة 150 كيلومتر)، وهذا قلَّل من انبعاثات غاز ثاني أكسيد الكربون (Co2) بما يقارب 41 ألف طن متري.
3. تعزيز نمط الحياة الصحي
قد يكون من الصعب تحديد ما إذا كان العمل عن بُعد مفيداً لصحتنا النفسية أم لا، خاصةً مع الدراسات التي أشارت إلى ارتباط الارتفاع في معدَّل الإصابة بالاكتئاب بهذا الأسلوب من العمل، وفسرت مجموعة من الباحثين البريطانيين نتائج أكثر من 1930 ورقة بحث تناولت انعكاسات العمل عن بُعد والعمل الهجين، ووجد الباحثون أنَّ الأشخاص الذين يعملون عن بُعد يختبرون مستويات أقل من التوتر، ويميلون إلى تناول مزيد من الطعام الصحي، كما تنخفض لديهم معدلات الإصابة بارتفاع ضغط الدم مقارنةً بالعاملين في بيئات العمل المكتبية.
أشارت الدراسة أيضاً إلى بعض السلبيات، فوجدت إحدى الدراسات التي روجِعت أنَّ 46.9% من الموظفين العاملين عن بُعد يعانون من زيادة في الوزن، ففي حين قدَّرت دراسة أخرى هذا الرقم بنسبة 41%، كما وجد الباحثون أنَّ العاملين عن بُعد أكثر ميلاً إلى التدخين واستهلاك المشروبات الكحولية.
4. تقليل معدل دوران العمالة
إذا كنت قلقاً من خسارة موظفيك نتيجة عروض عمل أكثر إغراءً من حيث منحهم القدرة على العمل من المنزل، فيجب أن تمنحهم هذه الفرصة بدورك، فأجرت شركة آول لابس (owl Laps) في عام 2019 استطلاعاً شمل 1200 موظفاً أمريكياً تتراوح أعمارهم بين 22 و65 عاماً، ووجدت أنَّ الموظفين كانوا أكثر ميلاً للبقاء في وظائفهم الحالية للسنوات الـ 5 المقبلة بنسبة 13% مقارنةً بالموظفين الذين يُفرَض عليهم العمل في المكاتب.
إضافة إلى ما سبق، فقد صرَّح 83% من المشاركين في الاستطلاع بأنَّ منحهم خيار العمل عن بُعد يعزز سعادتهم، في حين أفاد 80% منهم بأنَّ منحهم هذا الخيار يعني بالنسبة إليهم أن رب العمل يضع سعادتهم في الحسبان.
5. تقليل التوتر الذي يتعرض له أصحاب البشرة السمراء في بيئات العمل المكتبية
يقول الأشخاص ذوو البشرة السمراء، إنهم قادرون على إدارة التوتر إدارةً أفضل في العمل من المنزل، ويطالب الموظفون من ذوي البشرة السمراء في الولايات المُتحدة الأمريكية بمنحهم خيار العمل عن بُعد أكثر من أقرانهم من ذوي البشرة البيضاء، وذوي الأصول الآسيوية، واللاتينية، وذلك وفقاً لدراسة أُجريت في عام 2021 من قبَل مؤسسة "فيوتشر فوروم" (Future Forum) الخاصة بالأبحاث، والتي تُشرف عيلها شركة سلاك (Slack).
لقد أفاد الموظفون من ذوي البشرة السمراء بأنَّ شعورهم بالانتماء قد ازداد بنسبة 50% مقارنةً بالحالة التي يعملون فيها ضمن بيئات العمل المكتبية، إضافة إلى زيادة بنسبة 64% في قدرتهم على إدارة التوتر.
شاهد بالفيديو: كيف تعمل عن بعد في منزلك؟
6. تعزيز قدرة الأمهات العاملات على تحقيق التوازن بين العمل والحياة الشخصية
وجدت دراسة أُجريت في شهر مارس/آذار من عام 2023 من قبَل جامعة ملبورن (University of Melbourne) أنَّ النساء الموظفات، وخاصةً الأمهات منهن أبلغن عن شعورهنَّ بمزيد من السعادة عندما مُنحن خيار العمل عن بُعد، ويعتقد الباحثون أن السبب يُعزى إلى المرونة التي تساعد النساء على تحقيق التوازن بين العمل الضروري لتأمين متطلبات الحياة، ومسؤوليات الأمومة، ورعاية الأسرة والواجبات المنزلية والتي تتحمل النساء عادةً معظم أعبائها.
7. تخفيف العبء المادي والمعنوي عن الموظفين من ذوي الاحتياجات الخاصة
يقدِّر الموظفون من ذوي الاحتياجات الخاصة خيار العمل عن بُعد، لأنه يقلل من الصعوبات التي تواجههم في التنقل المرتبط بالذهاب إلى مقر العمل يومياً، إضافة إلى أنَّ هذا الخيار يمنحهم مزيداً من القدرة على التعامل مع حالاتهم الصحية المزمنة.
تتحدث مهندسة البرمجيات ميناكشي داس (Meenakshi Das) لموقع هاف بوست (HuffPost) عن قدرة الموظف على الوصول إلى عمله، فتقول: "لم يكن العمل من المنزل، قبل جائحة كوفيد-19 شائعاً عموماً، وكان على الأشخاص ذوي الاحتياجات الخاصة أن يطالبوا كثيراً حتى يحصلوا على مثل هذه التسهيلات"، وتضيف أن الجائحة جعلتنا ندرك كم نوفِّر من تكاليف عند العمل من المنزل، وكيف أنه من السهل توفير هذه الميِّزة من خلال السماح للموظف بالعمل من منزله، وتأمل أن تستمر الشركات على هذا النهج، ويستفيد أرباب العمل من ذلك أيضاً، إذ يؤكد قرابة ثلثي الموظفين من أصحاب الاحتياجات الخاصة أنَّ إنتاجيتهم تحسَّنت عند اتِّباع أسلوب العمل عن بُعد، مقارنةً بأسلوب العمل في المكتب، وذلك وفقاً لدراسة أُجريت في عام 2023 من قبَل جامعة نيو ساوث ويلز (New South Wales) في مدينة سيدني (Sydney) بأستراليا (Australia).
8. تعزيز الصحة النفسية للموظفين
تنخفض احتمالية إصابة الموظفين العاملين في الشركات التي تركز على أساليب العمل المرنة والأمان الوظيفي بالأمراض النفسية، أو حالات القلق الخطيرة، وذلك وفقاً لما توصَّلت إليه دارسة أُجريت من مدة قريبة ونُشرت في مجلة جي إيه إم إيه نيتوورك أوبين (JAMA Network Open ).
عَرَّفت الدراسة، التي شملت أكثر من 18 ألف موظفاً أمريكياً، المرونة الوظيفية على أنَّها قدرة الموظف على تعديل جدوله الزمني الخاص بالعمل بما يلائم متطلبات حياته الشخصية، ووجدت الدراسة أنَّ الموظف الذي يتمتَّع بجدول عمل مرن أقل عرضة بنسبة 13% للإصابة بالقلق على أساس يومي، وأقل عرضة للإصابة بالقلق لمرة واحدة في الأسبوع بنسبة 11%، وأقل عرضة للإصابة بالقلق لعدة مرات في السنة بنسبة 9%.
وجدت الدراسة أيضاً أنَّ المرونة والأمان الوظيفي أدَّيا إلى انخفاض حالات التغيُّب عن العمل انخفاضاً كبيراً، وهذا يعني انخفاضاً في التكاليف التي تتحملها الشركات، وزيادة في هامش الأرباح.
بعض سلبيات العمل عن بُعد
1. العمل لساعات أطول
على الرغم من الفكرة الشائعة بأن العمل عن بُعد يؤدي إلى الكسل وانخفاض الإنتاجية، فقد وجد الباحثون البريطانيون المشار إليهم آنفاً أن الأشخاص العاملين عن بُعد يعملون في الغالب لساعات أطول، بل ومن المُحتمل أن يمتدَّ عملهم إلى ساعات المساء، وأيام العطل، وأضِفْ إلى ذلك أنَّه يصعب أخذ إجازة مرضية بالنسبة إلى الموظف الذي يتَّبع أسلوب العمل عن بُعد.
وجدت دراسة أخرى تتبعت أكثر من 60 ألف موظفاً في شركة مايكروسوفت خلال النصف الأول من العام 2020 أنَّ الموظفين العاملين عن بُعد يعملون لساعات أطول بنسبة 10% من إجمالي ساعات العمل الأسبوعية مقارنةً بزملائهم العاملين في بيئات مكتبية.
2. انخفاض مستوى التعاون بين الأقسام المختلفة على مستوى الشركة
وجدت دراسة أخرى نشرت في مجلة "ناتشور هيومان بيهافيور" (Nature Human Behavior) أن التعاون بين مختلف الأقسام على مستوى الشركة قد انخفض بنسبة 25% مقارنةً بفترة ما قبل الجائحة، وهذا قد يشير إلى أنَّ أسلوب العمل عن بُعد يؤدي إلى هذه النتيجة السلبية.
3. سلبيات مرتبطة بعدم الحاجة للتنقل للذهاب إلى العمل
قد يكون ذلك غريباً بعض الشيء للوهلة الأولى، لكن يبدو أنَّ الأشخاص العاملين عن بُعد يعملون لساعات أطول؛ لأنهم يوفرون الوقت الذي يقضونه في التنقل بين المنزل والعمل، وراجعت دراسة أجرتها جامعة شيكاغو (University of Chicago) بيانات من 27 دولة، ووجدت أنَّ العاملين عن بعد وفروا ما يقرب من 72 دقيقة يومياً؛ بسبب عدم حاجتهم إلى الذهاب إلى العمل، ويقضي العاملون عن بُعد، في المتوسط نحو نصف ساعة من هذا الوقت الإضافي في العمل، وهذا يعني أكثر من ساعتي عمل إضافيتين في الأسبوع.
لقد سلط بعض علماء الاجتماع منذ بداية الجائحة الضوء على الجانب السلبي لإلغاء التنقل اليومي، ففي إحدى الدراسات التي أُجريت في عام 2022 والتي نشرت في مجلة "أورغينازيشينال سايكولوجي ريفيو" (Organizational Psychology Review) إن الوقت الذي نحتاجه يومياً للذهاب إلى العمل، والعودة إلى المنزل يساهم إلى حد كبير في الحفاظ على حدودنا الصحية، بمعنى أنَّ الوقت الذي نقضيه في التنقُّل يمنحنا الوقت للاسترخاء من أعباء العمل ومسؤوليات الحياة الأسرية، وهذا يُعزِّز قدرتنا على التعافي بعد يوم عمل طويل، والاستعداد نفسياً للعودة إلى المنزل.
أكد الأشخاص المشاركون في إعداد الدراسة على أنَّه دون امتلاك القدرة على التعلُّم والنمو والتكيُّف مع أسلوب العمل عن بُعد، فسنعاني بلا شك من عدم القدرة على الفصل بين مهام العمل وواجبات المنزل، وهذا سيؤدي إلى مزيد من التوتر، وباختصارٍ، تكمن الخطورة في أنَّنا نعمل في المكان نفسه المخصص للمعيشة، ونحتاج نتيجة لذلك إلى تعلُّم كيفية الفصل بين العمل والمنزل في البيئة نفسها المخصصة للأمرين معاً، وإلَّا فقد نصاب بالاحتراق الوظيفي.
في الختام
أصبح لزاماً على الموظف، منذ بدء الثورة الصناعية، أن يحقق مستوىً عالياً من الإنتاجية حتى يبقى في سوق العمل، ويحقق التقدم المهني، فلم تحقِّق لنا ثورة الاتصالات في البداية أية فائدة تُذكر على صعيد منح الموظف أسلوب عمل مرن يخفِّف من أعبائه، ويساعده على تحقيق التوازن بين عمله، وحياته الشخصية، ولكن والحق يقال إنَّ الجائحة كشفت لنا فائدة كانت غائبة عن أذهاننا لهذه الثورة التكنولوجية، وهي إمكانية العمل من المنزل، وبالرغم من بعض السلبيات التي يجب ملاحظتها في هذا الأسلوب من العمل، إلا أن الفوائد أكبر بكثير، خاصةً أنَّ بمقدورنا أن نتخطَّى هذه السلبيات من خلال امتلاك إدارة جيِّدة للوقت، وعقلية مرنة، وانفتاح على تطوير الذات.
أضف تعليقاً