لكن يبدو الآن أنَّنا نمر بمرحلة من الاستقرار، فيُظهر استطلاع أجرته مؤسسة "ذا كونفيرنس بورد" (The Conference Board) في عام 2022 وجود ارتفاع في معدَّل السعادة والرضى في مكان العمل، بل حتى إنَّه بلغ أعلى مستوياته منذ بداية الاستطلاع في عام 1987.
يتناول الاستطلاع 26 عنصراً، بدءاً من الرواتب، إلى التدريب، والمكافآت التي تساهم جميعها في قياس معدل الرضى الوظيفي، وتُظهر النتائج أنَّ ما يزيد عن 62% من الموظفين الأمريكيين يشعرون بالرضى الوظيفي، مقارنةً بـ 60.2% في عام 2021، ومقارنةً مع عام 2010، فقد بلغ مستوى الرضى الوظيفي أدنى معدلاته مسجلاً نسبة 42.6% بسبب الركود الكبير، فيمكننا القول إنَّنا نشهد زيادة واضحة في سعادة الموظفين وشعورهم بالرضى.
ما الذي يجعل الموظفين أكثر سعادة في بيئة العمل؟
تؤدي نتائج الاستطلاع سابق الذكر إلى طرح السؤال الآتي: ما الذي يؤدي إلى هذه النتائج الإيجابية؟ ولماذا حدث هذا التغيير الآن؟
تكشف النتائج الرئيسة للاستطلاع عن إجابات، ومن ذلك أنَّ العوامل التي تساهم بشعورنا بالرضى الوظيفي، بما تتضمنه من التوازن بين الحياة الشخصية والعمل، وعبء المهام، وإجراءات تقييمات الأداء هي الأسباب الرئيسة التي تؤثِّر في شعور الموظف بالرضى في مكان العمل، لكن يوضح التقرير الناتج عن الاستطلاع أيضاً أنَّ بعضاً من أكثر الموظفين شعوراً بالرضى هم أولئك الذين انتقلوا للعمل في وظائف أخرى منذ بداية الجائحة، وبالطبع كما كان متوقعاً، أدَّت إجراءات تعزيز المرونة في العمل إلى زيادة معدلات الرضى الوظيفي مقارنة بالعمل الدائم عن بُعد أو في مكان العمل.
ليس من السهل قياس كل مؤشرات السعادة بشكل كمي، وهي حقيقة تعرفها جيداً الكوتش المهني "تراميل جونز" (Tramelle Jones) مالكة شركة "تي دي جي كونسالتينغ" (TDJ Consulting)، ولذلك تُطلق على هذه العوامل تسمية "العوامل غير المادية".
تقول "جونز": "يخبرني عملائي أنَّ الأسباب التي دفعتهم إلى البقاء في وظائف منخفضة الأجر وعدم الانتقال إلى أماكن عمل أخرى هي القدرة على ارتداء ملابس غير رسمية، وتوفُّر تدريب الأقران، ومقايضة المهام (تبادل المهام بين الزملاء)، وإمكانية أخذ إجازة للاهتمام بالصحة النفسية، وعلى الرغم من أنَّ هذه العوامل غير المادية لا تحل محل الأجور العادلة، إلا أنَّها تؤثِّر بشكل كبير في قرار الموظفين بشأن البقاء أو الانتقال إلى وظيفة أخرى".
مع ذلك، فإنَّ السؤال هو ما إذا كان التأكد من كونك سعيداً وراضياً في وظيفتك هي مسؤوليتك أم مسؤولية مديرك في العمل، فعلى الرغم من تأثير هذا العامل في زيادة معدل الاحتفاظ بالموظفين وتعزيز أدائهم، إلا أنَّ تحقيق السعادة في الحياة الوظيفية هو مسؤولية مشتركة بين الموظف وأية عوامل خارجية ومن ذلك مديره في العمل.
الفجوة بين الجنسين فيما يتعلق بالرضى الوظيفي:
أسفرت نتائج الاستطلاع المذكور آنفاً عن عدم التساوي بين الرجال والنساء في الشعور بالرضى الوظيفي، وهي نتيجة مماثلة لكثير من الاستطلاعات التي تُظهر تفاوتاً بين الجنسين.
وجد الاستطلاع أنَّ الرجال أكثر شعوراً بالرضى بناءً على جميع العوامل الـ 26 التي حددها الاستطلاع، وكان معدَّل الشعور بالرضى لدى النساء أقل بـ 4 أجزاء من المئة مقارنةً بالرجال، وتتضمن النقاط الأساسية التي أدت إلى هذا التفاوت ما يأتي:
- سياسة الإجازات المَرَضية.
- خطط المكافآت.
- سياسات التأمين الصحي المتعلقة بالصحة النفسية.
- قنوات التواصل.
- سياسة الترقيات.
تشير هذه النتائج إلى توسُّع الفجوة بسبب صعوبة تعامل الأمهات الموظفات مع توقعات العمل والحياة الأسرية في آن معاً، إضافة طبعاً إلى عدم المساواة في الأجور، وفرص نيل الترقيات، وهو الأمر الذي ما تزال تطالب به النساء منذ عدة قرون.
واجهت "أليس نولماير" (Alyse Nullmeyer) مديرة قسم نجاح العملاء، في مؤسسة "وورك فورس أوبرتونيتي سيرفيسز" (Workforce Opportunity Services) غير الربحية بعضاً من هذه الصعوبات بشكل شخصي، فقام أولاً رب عملها في الشركة التي كانت تعمل بها سابقاً بإلغاء وظيفتها بعد أن أعلمت مديرها بحملها، إضافة إلى ذلك، فقد واجهت تفاوتاً في الأجور على أساس الجنس.
تقول "نولماير": "تحدثت مع مديري عما أتقاضاه من أجر، وأخبرني أنَّ الإدارة لا تستطيع زيادة الراتب خارج حدود نظام التقييمات في الشركة، واستمررت، بالرغم من ذلك بتقديم المساعدة في عمليات التوظيف نظراً لخبرتي في هذا المجال، ورغبتي بأن تحقق شركتنا النجاح، ولكنَّ الشركة وظفت رجلاً ليس لديه خبرة في هذا المجال، وهو حاصل على نفس مستوى تعليمي، وكان راتبه المبدئي أكثر بكثير مما كنت أتقاضاه بعد عدة سنوات من العمل في هذه الشركة".
بعيداً عن تجربتها الخاصة، وجدت "نولماير" أنَّ مساعدة الأم الموظفة على تقديم الرعاية لأطفالها، وتوفير جداول عمل مرنة هما أكثر ما يمنح النساء الموظفات الشعور بالرضى عن وظيفتهن الحالية والبقاء فيها بدلاً من البحث عن وظيفة أخرى.
شاهد بالفيديو: 5 خطوات لتعزيز ولاء الموظفين
الاستقلالية ضرورة لتحقيق السعادة والرضى الوظيفي:
تقول "لورا بوتنام" (Laura Putnam) مؤلفة كتاب "الأساليب الفعالة لإنشاء مكان عمل صحي" (Workplace Wellness that Works) إنَّ إظهار التقدير لجهودك، ومنحك الاستقلالية في عملك هما عاملان أساسيان لتحقيق السعادة في مكان العمل، وتضيف أنَّ عدم مساواة المرأة بالرجل في مكان العمل هو ما يحرمها من اختبار الشعور بالرضى الوظيفي.
تقول "بوتنام": "تمثِّل أشياء من قبيل التقليل من أهمية النساء، أو عدم إظهار التقدير لجهودهن، أو إنكار أي فضل لهن في تاريخ الشركة تجربة مشتركة لدى جميع النساء الموظفات، ومع أخذ هذا في الحسبان يصبح من غير المستغرب أن تكون النساء أقل سعادةً من الرجال في مكان العمل".
عملت "بوتنام" مع أكثر من 200 شركة، ووجدت أنَّ القاسم المشترك بين جميع حالات انخفاض الرضى الوظيفي هو افتقار الموظف للاستقلالية، وتقول "بوتنام": "لقد شهدت الآثار السلبية لما يعاني منه الموظفون من معاملة يومية غير محترمة في مكان العمل، وما ينتج عنها من حرمان الموظف من حاجته للشعور بأنَّه مسؤول عن كيفية ووقت ومكان إنجاز العمل".
السعادة والرضى الوظيفي بوصفه أحد المؤشرات الحديثة:
لم نكن نفكِّر، منذ عقود مضت، فيما إذا كانت الوظيفة تحقق لنا السعادة أم لا، فكان اهتمامنا ينصب على الدخل والمزايا وسهولة التنقل إلى العمل ذهاباً وإياباً في أحسن الحالات، لقد تغيَّر هذا الوضع، وتغيَّرت العوامل التي تحدد ما إذا كنا نعمل بوظيفة "جيدة" أم لا.
تقول "باربرا بالمر" (Barbara Palmer) مؤسسة شركة "برود بيرسبيكتيف كونسالتينغ" (Broad Perspective Consulting) إنَّ بيئات العمل قد تغيَّرت كلياً عمَّا كانت عليه في السابق، وخاصةً بالنسبة إلى الجيل الجديد من الموظفين.
تقول: "أعتقد أنَّ العمال الشباب أكثر ميلاً إلى البحث عن السعادة والتعبير عن احتياجاتهم لإنشاء بيئة (من خلال المشاريع التي يعملون فيها والأشخاص الذين يعملون معهم) تلبي احتياجاتهم وتجعلهم أكثر سعادة، وتتحقق سعادة الموظف من قدرته على إظهار شخصيته الحقيقية، والعمل بنزاهة في بيئة داعمة تُظهر التقدير لجهوده".
تشير "بالمر" - إضافة إلى ذلك - إلى المفاهيم المستجدة، والعلاقة الوثيقة بين حياتنا المهنية والشخصية خاصةً، أنَّ الجائحة أدت إلى تزايد اهتمامنا بالسعادة، والشعور بالرضى في مكان العمل، وتوكِّد "باربرا": "لم يعد بإمكاننا فصل حياتنا في المنزل عن العمل، وما يلزم الشركات هو فهم هذا التكامل حتى تتمكن من التفكير بالموظف بصفته إنساناً له حياته خارج العمل، وليس مجرد شخصٍ يُنجز المشاريع.
عندما نوسِّع منظورنا، فإنَّنا سنأخذ بالحسبان عوامل مثل صحة الموظف، والتأمين الصحي الذي يشمل الأمراض النفسية، وثقافة الشركات التي تفكر في الشخص ككل، وليس فقط المشاريع التي يعمل عليها الأفراد، وعندما نفكر بشكل شمولي، وبالحدود المتعلقة بالصحة وجداول العمل، تؤثِّر كلماتنا وسلوكاتنا في موظفينا، فشعور الموظف بالرضى يأتي من معاملته بطريقة إنسانية في المقام الأول".
في الختام:
من الرائع أن نعرف أنَّ السعادة والرضى لدى الموظفين هما في أعلى معدلاتهما منذ عقود، لكن لا يعني ذلك أن نتجاهل ما تعانيه بيئات العمل من مشكلات تنتظر الحلول المناسبة، بدءاً من عدم المساواة بين الجنسين، وليس انتهاءً بافتقار الموظفين في كثير من الحالات إلى الاستقلالية، وتفهُّم احتياجاتهم الفردية.
أضف تعليقاً