ملاحظة: هذا المقال مأخوذٌ عن تجربةٍ شخصيَّةٍ للمدون مايكل بيترزاك، والذي يحدِّثنا فيه عن أهميَّة العزلة والطبيعة في رحلة حياتنا.
في الصَّباح ذاته غادرت ذلك المكان المُمقت، وفجأةً هطلت زخَّاتٌ خفيفةٌ من المطر، لكنَّ الشمس الثاقبة منعت استمرارها لوقتٍ طويل. كان حريٌّ بي أن آوي إلى مكانٍ أحتمي به من المطر، لكن في الواقع ساقتني قدماي إلى الحديقة، وغطَّ عقلي في سباتٍ بينما كنت أسير خلال الممرِّ الإسفلتي، وجلست وحيداً على مقعدٍ والمطر ينهمر فوق رأسي، وتأمَّلت السماء والأشجار وكأنَّني أراهم لأوَّل مرَّة.
وفي هذه العزلة، وجدت سلامي النفسي، وأعدت النَّظر في حياتي، وتوصَّلت إلى عدَّة أمور كان أولها: أنَّ الحزب السياسي الَّذي أعمل لصالحه يهدر وقته كلَّه بإعادة الانتخابات، فضلاً عن التَّركيز على سياسة عمله ومبادئه الجوهريَّة؛ لذا قرَّرت أن أترك ذلك العمل. وثانيها: صارحت شريكتي بضرورة انفصالنا، وقلت لها أنَّ النسيان يتولاه الزمن؛ فعلى الرَّغم من الحبِّ الكبير، إلا أنَّه لم يكن بيننا أيَّ توافقٍ.
قبل هذا اليوم كانت حياتي مبعثرة، وبفضل تلك العزلة أضحى مسارها واضحاً أكثر.
لمَ يعدُّ اتباعك للنموذج التالي إنجازاً؟
يقول روب بيل: "كثرٌ هم من يدورون في حلقةٍ مغلقة، وهذا ما ينعكس سلباً عليهم".
عزيزي القارئ: ربَّما قد تكون مثلي، المنجز والنَّاجح والمصمِّم على تحقيق أفضل النَّتائج. حسناً، كن فخوراً بما أنت عليه، لكن ضع في عين الاعتبار أنَّ نشاطك المكثَّف يقلِّل من إنجازك.
بالعزلة وحدها نستطيع التماس أهدافنا ورغباتنا، ومن ثمَّ إقرانها بالأفعال. وإنَّ إقصاء نفسك عن العزلة يؤدِّي إلى:
- القلق، والاكتئاب، والشعور بالعوز: هل يجب أن تحدَّ من إشراك عقلك ومشاعرك في كلِّ ما تتعرَّض إليه من مواقف؟ إذ أنَّه من المحتمل أن تجهد صحَّتك العقليَّة، ممَّا ينعكس سلباً على سلوكك.
- الملاءمة: إذا لم تعطِ نفسك الوقت الكافي لمعرفة ما تريد، وكيف تفكِّر؛ فسوف تتقمَّص شخصيَّات الآخرين وأفكارهم.
- خطر التعرُّض إلى نوباتٍ قلبيَّةٍ ومشاكل صحيَّةٍ أخرى: يزيد النَّشاط المفرط من إفراز هرمون الكورتيزون (التَّوتر) في جسمك، وهذا ما يؤدِّي إلى كثرة الوفيَّات في عمر الـ 40.
- تراجع مستوى الإبداع لديك: تشير بعض الدِّراسات إلى أنَّ من لا يطيق المكوث وحيداً، يتضاءل منسوب الإبداع لديه. ولعلَّ جُلَّ ما يميِّزك عن الرِّجال الآليين في زمن الآلات هو إبداعك.
- النَّدم: إنَّه لأمرٌ كارثيٌّ أن تلحظ بعد فوات الأوان الفجوة الكبيرة بين أهدافك وأفعالك، لذا خذ وقتك في تحديد الهدف الذي تصبو إليه قبل المباشرة بأيِّ عمل.
إنَّ عزلتك هي من يُسمِعك صدى قلبك ورغباته، والقلب هو منبع الحكمة والبهجة، وما إن تسلِّمه زمام الأمور سيقودك إلى مبتغاك.
كيف تجعل العزلة عادةً لديك؟
يقول ستيف جوبز: "يكون عملك مثمراً عندما تنجزه بخالص الحبِّ والشَّغف، وإن لم تجده، فاسعَ إليه ولا تستسلم. حاله كحال أمور القلب، عندما تلتمسها ستجد الجواب عن كلِّ شيء".
لا شكَّ أنَّه أمرٌ صعبٌ أن تجد البيئة المناسبة للعزلة، وخاصَّةً في محيطٍ لا يعينك على ذلك أبداً. نذكر مثلاً: الإعلانات، والتَّطبيقات، والتِّلفاز، والأصدقاء، والعائلة؛ يسهم كلُّ هذا بشكلٍ أو بآخر في تشتيت أفكارك. إنَّ هذه البيئة تُشعِرنا بعدم الارتياح لبقائنا وحيدين، فلا ريب أنَّ المسارات العصبيَّة قد تثقلها تلك المؤثِّرات الخارجيَّة وتجعلها تتوق إلى الرَّاحة.
إنَّ ازدهار مستقبلك وحياتك يتوقَّف على التحرر من تلك الحلقة المغلقة، حيث أنَّ إدراك الهدف وبلوغه يتطلَّب الاختلاء بالذَّات وليس التَّأجيل إلى وقتٍ لاحق.
وهذه أفضل الطرائق التي من شأنها أن تساعدك في أن تعيش عزلتك:
1. استيقظ باكراً:
"العزلة هي أمُّ الاختراع" كما يقول مهاتما غاندي.
لقد كنت أتأمَّل بزوغ الفجر لبرهةٍ، وربَّما قد أطلت بالوقت قليلاً، إذ لا يسعك أن تتخيَّل المتعة في ذلك حتَّى تجعل منه عادةً وروتيناً تواظب عليه. لربَّما قد يستغرق الأمر منك وقتاً طويلاً وتجارب مستمرَّةً وبعض الهفوات حتَّى تجعل منه عادة، وبعد ذلك تنعَّم بساعات الصَّباح الأولى قبل أن تغرق في ضوضاء العالم المتمثِّلة بـ: الاتِّصالات، والرَّسائل، والنَّاس وضجيجهم، وشتات عقلك وتفكيرك.
إنَّ هذا الوقت هو الجزء المفضَّل من يومي، وبهذه العزلة أتمكَّن من سماع صوت قلبي ورغباته، ومن تبصُّر أمور حياتي بشكلٍ أفضل.
من ينهض باكراً من المشاهير الناجحين؟
نذكر عدَّة أسماء ومنهم: ريتشارد برانسون، وأوبرا وينفري، وتيم كوك، وإندرا نويي (Indra Nooyi) -المديرة التنفيذيَّة لشركة بيبسي كولا- وجاك دورسي؛ جميعهم ينهضون قبل السادسة صباحاً.
2. مارس رياضة الرَّكض، والمشي، وركوب الدراجة:
تقول باتريشيا هايسميث: "يتقد خيالي كلَّما ابتعدت عن الناس وعن الحديث إليهم".
تعدُّ ممارسة الرياضة البدنية حليفة العزلة، فعندما تمتطي درَّاجتك وتمضي لاكتشاف العالم، ينعم عقلك بالهدوء، وترى الحياة بمنظورٍ مختلف؛ وهذا ما لا تستطيع إدراكه بوقوفك مكتوف اليدين.
إليكَ بعض الخطوات لتضمن أن تصبَّ هذه النشاطات في خدمة هدفك وإيجاد عزلتك:
- اذهب بمفردك.
- لا تستمع إلى الموسيقى أو الملفات الصَّوتية.
- اترك هاتفك في المنزل.
- انخرط في الطَّبيعة مبتعداً قدر الإمكان عن تجمُّعات النَّاس.
- تجنَّب جهاز المشي والدَّراجة الثَّابتة، فذلك أمرٌ رتيبٌ وممل؛ على خلاف الخوض في العالم الخارجي.
من يمارس رياضة الرَّكض، والمشي، وركوب الدراجة من المشاهير الناجحين؟
هنالك العديد، ومنهم: مارك زوكيربرغ، ودينيس مولينبرغ (Dennis Muilenburg) -المدير التنفيذي في شركة بوينغ للطائرات-، وبرينت بيلم (Brent Bellm) -المدير التنفيذي في شركة BigCommerce-، ودينيس ودسايد -مدير شركة Impossible Foods-. إذاً ما عليك إلَّا أن تسير على خطاهم.
3. لا تهمل دور أحلام اليقظة:
يقول ألبرت إينشتاين: "يطغى الخيال على المعرفة". إنَّ هذه المسألة لا ترتبط بالأطفال فحسب، حيث يؤكِّد العلماء أنَّ أحلام اليقظة هي عمليَّةٌ إيجابيَّةٌ وطبيعيَّة تحدث في العقل؛ ويضيف ماركوس ريتشل (Marcus Raichle) -أخصَّائي أعصابٍ في جامعة واشنطن- أنَّ العقل عندما يبحر في الخيال يعود بكنوزٍ دفينة.
عندما تراودنا أحلام اليقظة، فقد تلهينا قليلاً عن إنجاز بعضٍ من مهامنا؛ ولكنَّ العقل يلتفت إلى أهدافٍ أخرى. تُسمِعنا هذه الأحلام صوت اللَّا وعي، والذي يعدُّ مكمن الحكمة، والأمل، والأمنيات والدَّوافع؛ على عكس الإجهاد العقلي، والذي يمنعنا -كما يقول جيفري دافيس (Jeffrey Davis)- من إيجاد الحلول والأفكار البنَّاءة.
العقل الباطن هو منبع الإبداع، واللُّجوء إلى هذه الهبة الربَّانيَّة هو الطَّريق الأقصر في الوصول إلى أهدافك. أما زالت تعتريك الشكوك؟ أظهرت دراسةٌ في عام 2012 أنَّ النَّاس الذين يأخذون قسطاً من الرَّاحة ويسافرون في أحلامهم بعيداً عن الإجهاد العقليِّ أفضل من سواهم بما يقارب 41% في مواجهة المشاكل وحلِّها.
وهذه تعدُّ نقطةً لصالح الحالمين.
مَن الذين راودتهم أحلام اليقظة مِنَ الناجحين المشاهير؟
عُرِفَ عن ألبرت إينشتاين اتقاد مخيلته، ففي سنِّه الـ 16 نسج في خياله سيناريو قاده إلى ابتكار النظريَّة النسبيَّة: ماذا سوف يدرك إن تمكَّن من الانتقال بسرعة شعاعٍ ضوئي؟
4. قُد بمفردك:
كما يقول ألدوس هيكسلي: "كلَّما كان العقل أكثر اتقاداً، وجد في العزلة بيئةً حاضنةً له".
إذا كنت سائقاً متمرساً، فلا بدَّ وأنَّك خضت تجربة الوصول إلى مقصدك من دون أن تتذكَّر تفاصيل الرحلة، إذ كان عقلك ينشغل بأمورٍ أخرى.
تتطلَّب القيادة إشاراتٍ تنفيذيَّةً من الدماغ كالتَّركيز مثلاً، لكن في الطرق المملَّة يَبطُل عمل هذه المهام في منطقة الفصِّ الجبهيِّ من المخ؛ لذلك قُد بحذرٍ دوماً، ولا تنسَ خلال سفرٍ طويل أن تسرح بخيالك قليلاً. وباعتبار الطرق السريعة رتيبةً ومملَّة، فقد تشكِّل بذلك الفرصة المواتية لتختلي مع نفسك.
عندما كنت في الجَّامعة، كنت أضطَّر إلى أن أقود مرَّة كلَّ أسبوعين ولمدَّة ساعتين من الوقت بغية أن أرى وأجتمع بأصدقائي. استحضرت ذاكرتي حينها الكثير من الذِّكريات المحبَّبة، ممَّا انعكس إيجاباً عليَّ وساعدني في إيجاد الحلول لمشاكلي.
من كان يلجأ إلى القيادة كي يجد عزلته من المشاهير الناجحين؟
في سنِّ الـ 58، قام الرِّوائي الأمريكيِّ (جون ستينبيك)، والحاصل على جائزة بوليتزر (Pultizer)، برحلة قيادةٍ بما يقارب الـ 10.000 ميلاً. كما أنَّ الكتاب الَّذي قام بتأليفه آنذاك حقَّق أفضل مبيعات.
5. احجز مكاناً لشخصٍ واحد:
لطالما كانت تقصُّ أمِّي علينا الحكاية ذاتها، وتعيدها على مسامعنا؛ ومفادها أنَّها ذهبت ذات يومٍ إلى المطعم وطلبت من النَّادل أن يهيِّئ لها طاولةً لشخصٍ واحد، فاكفهرَّ وجهه وقال لها: "آسف ليس لدينا مكاناً". كم ضحكنا على ذلك!
لأسبابٍ غير منطقيَّةٍ، يعدُّ ذهابك إلى العشاء وحدك أمراً محرجاً، لكنَّه كان من طقوسي المفضَّلة؛ فبينما كنت أشيِّد شركة الطاقات المتجددة في زامبيا، كنت أذهب إلى السينما بمفردي وأشاهد فيلماً، وبعدها أمتِّع نفسي بعشاءٍ فاخر.
قد يبدو أمراً غير مألوف، لكن أن تنظر بعين الاهتمام إلى نفسك وتدلِّلها يعدُّ أفضل رعايةٍ للذَّات، وسوف ينعكس ذلك إيجابيَّاً عليك، وستغدو في اليوم التَّالي على أتمِّ الاستعداد لإنجاز جميع مهامك.
من يذهب في موعدٍ مع نفسه من المشاهير الناجحين؟
دانيال راديكليف والمعروف باسم: هاري بوتر، ورينيه زيلويغر، وتوم هانكس وحتَّى أنَّ بيل كلينتون قد شُوهِد يأكل لوحده. تغمر حياتهم الشهرة والشعبية، لكنَّهم بحاجةٍ إلى قضاء بعض الوقت مع أنفسهم بعيداً عن الناس؛ لذا فأنت لديك حريَّة التصرُّف مثلهم تماماً.
6. اذهب للتخييم بمفردك:
قبل سنين خلت كنت أُراوِح مكاني، كما أنَّني أوشكت على الإفلاس، وفي بعض الأوقات كنت ألجأ إلى بيع بطاقة الائتمان الخاصَّة بمعدَّات التَّجهيز، وأسعى في كل حدبٍ وصوب بغية أن أتدبَّر أموري وأقوم بتغطية النَّفقات، ومع هذا كلِّه لم أحصد سوى الإخفاق.
على حين غرّةٍ قمت باستئجار سيَّارةٍ وتوجَّهت إلى منتزه، وأمضيت ليلتين في البريَّة نائياً بنفسي عن النَّاس، من ثمَّ رحت أتأمَّل البخار المتصاعد من البحيرة، سارحاً بجمال ألهبةِ النِّيران لساعات، كما كان يتهادى نقيق الضَّفادع إلى مسمعي، وبعدها غططتُ في نومٍ عميق.
وبعيداً عن صخب المدينة شعرت بصفاء الذِّهن ورأيت الأمور بشكلٍ أوضح، وعندما عدت إلى المنزل اتَّخذت قراري بترك عمل المبيعات، والذي جعلني في حالةٍ مزرية؛ كما قمت بتصفية أصول الشَّركة، مودِّعاً العمل الذي لم يحقِّق لي أيَّاً من أهدافي. ومنذ ذلك الوقت أصبحت أقوم كلَّ صيفٍ بالتخييم لوحدي، ممَّا ساعدني في تشكيل رؤىً جديدة في حياتي.
إذا لم تكن من محبِّي النزهات، فيتوجَّب عليك تغيير تفكيرك؛ لأنَّك لن تمضي قُدُماً ما لم تخرج من دائرة الراحة التي تعوِّد نفسك عليها. وفي تجربتك الأولى لا داعٍ لأن تذهب إلى مكانٍ بعيدٍ وأن تمضي وقتاً طويلاً، بل حاول أن تجد بيئةً مناسبةً للتخييم يعمُّها الهدوء واقضِ ليلةً واحدةً فقط، أو أمضِ النَّهار فحسب. فالطَّبيعة هي ملاذك لتجد وتكتشف نفسك، وإن لم يكن لديك وسيلة نقلٍ خاصَّةٍ بك، فوسائل النَّقل العامَّة متوفِّرةٌ في العديد من المنتزهات.
من كان يذهب للتخييم بمفرده من المشاهير الناجحين؟
لقد أمضى هنري ديفد ثورو -الكاتب والفيلسوف الأشهر في القرن التّاسع عشر- سنتين وشهرين ويومين في الغابة. كما كتب عن تلك التَّجربة في كتابه الكلاسيكيِّ (Walden)، والذي أقرؤه على الدَّوام لأتذكَّر القوَّة الخارقة للعزلة في أحضان الطَّبيعة.
جميعنا غارقون في مشاغل الحياة وسُذَّج، نفسد حياتنا ونتباهى بذلك. كم منَّا يسعى إلى إيجاد علاجٍ لمرض السَّرطان ويعمل على حفظ السَّلام في العالم؟ لكنَّ كلُّ ذلك يذهب أدراج الرِّياح؛ لأنَّنا لم نسبر أغوار أنفسنا، ولم نعرف رغباتنا وأهدافنا الحقيقيَّة التي نأمل تحقيقها في رحلة حياتنا.
إنَّ قلبك وعزلتك كلاهما سوف يساعدانك في معرفة ما تريد، فقط أعطِ وقتاً كافياً لنفسك وأصغِ إليها جيِداً.
أضف تعليقاً