في هذا المقال، نستعرض خمس طرق عملية يمكن للمؤسسات تطبيقها للحد من الإرهاق وتحسين رضا الموظفين بطريقة مستدامة.
ما هو الإرهاق الوظيفي؟ وما علاقته برضى الموظفين؟
يوضح هذا القسم المفهوم العلمي للإرهاق الوظيفي وتأثيره المباشر في نفسية الموظف وأدائه ورضاه العام عن العمل، فالإرهاق الوظيفي لا يُعدُّ مجرد شعور مؤقت بالتعب؛ بل هو حالة مزمنة من الإجهاد العاطفي والجسدي والعقلي، تنتج عن ضغوطات العمل المتواصلة، وتؤثر سلباً في حفاظ الفرد على التوازن والفعالية.
تعريف الإرهاق الجماعي وأعراضه
الإرهاق الوظيفي الجماعي (Collective Burnout) هو حالة من الإنهاك الجسدي والعاطفي والعقلي تصيب مجموعة من الموظفين داخل فريق أو مؤسسة، نتيجة تعرضهم المشترك لضغوطات العمل المزمنة وشعورهم المستمر بعدم القدرة على التحكم أو التأثير في بيئة العمل. لا يقتصر هذا النوع من الإرهاق على فرد واحد؛ بل ينتشر بين أعضاء الفريق، ويؤثر في ديناميكيات العمل الجماعي، والمعنويات، والأداء العام للمؤسسة.
يظهر هذا النوع من الإرهاق غالباً في بيئات العمل التي تسودها ثقافة سامة، أو تفتقر إلى الدعم القيادي، أو تعاني من عبء عمل مفرط، أو من غياب العدالة والاعتراف بالجهود، وقد يتفاقم الوضع عند تجاهل الإدارة للأعراض أو عدم اتخاذ تدابير وقائية، ومن أعراضه الشائعة:
1. انخفاض الحافز الجماعي
يعكس تراجع الحافز الجماعي انخفاضاً في رضى الموظفين، فيُلاحظ ضعف في الدافعية العامة لأداء المهام وفقدان الشغف بالمشروعات والعمل الجماعي، مما يؤثر سلباً في الحماس العام ويضعف الأداء داخل الفريق.
2. تدهور في العلاقات بين الزملاء
تزيد اختلالات بيئة العمل الصحية التوترات بين الزملاء وتُضعِف روح التعاون والدعم المتبادل، ما يخلق أجواء غير مستقرة تعوق بناء علاقات إيجابية وتضعف التماسك الجماعي.
3. الانسحاب العاطفي والسخرية
يتبنَّى الموظفون تحت تأثير ضغوطات العمل المستمرة مواقف سلبية كالسخرية واللامبالاة تجاه المؤسسة والقادة، ويتراجع اهتمامهم بالمخرجات المهنية، مما يعكس انسحاباً عاطفياً خطيراً داخل بيئة العمل.
4. انخفاض الإنتاجية الجماعية
تتدهور الإنتاجية الجماعية نتيجة تراجع رضى الموظفين واستمرار ضغوطات العمل، فيُلاحظ بطء في الإنجاز، وتكرار في الأخطاء، وضعف في جودة المخرجات، مما يهدد تحقيق الأهداف المؤسسية.
5. الغياب المتكرر أو ارتفاع معدل الدوران الوظيفي
تزداد حالات الغياب وطلبات الإجازة في ظل غياب توازن الحياة المهنية، ويستقيل عدد من الموظفين أو يبحثون عن بيئات عمل توفر لهم الاستقرار والدعم الكافي.
6. الإجهاد العام والشعور بالإرهاق الدائم
يؤدي ضعف بيئة العمل الصحية واستمرار ضغوطات العمل إلى شعور جماعي بالإرهاق حتى في بداية اليوم، مع صعوبة في التركيز واتخاذ القرارات، ما يؤثر سلباً في فاعلية الفريق وجودة العمل.
العلاقة بين الإرهاق وانخفاض الرضى الوظيفي
توجد علاقة عكسية قوية بين الإرهاق والرضى الوظيفي؛ إذ تؤدي زيادة مستويات الإرهاق إلى انخفاض ملحوظ في الرضى عن العمل، وتُفسَّر هذه العلاقة من خلال النقاط التالية:
1. يقلل الإرهاق الحماس والتحفيز
يفقد الموظفون الذين يعانون من الإرهاق العاطفي القدرة على الاستمتاع بعملهم والشعور بالإنجاز، ما ينعكس سلباً على رضاهم العام، وقد وجدت دراسة (Maslach وLeiter 2016) أنَّ الموظفين الذين يعانون من الإرهاق الوظيفي المرتفع، يعانون من انخفاض في الرضى الوظيفي بنسبة تصل إلى 60–70%.
2. يؤدي الإرهاق إلى السلبية واللامبالاة
يُضعِف التجرد من العمل والشعور بالانفصال عن المهام والزملاء الشعور بالانتماء ويؤدي إلى فتور العلاقة مع بيئة العمل، مما يقلل الرضى، وتدعم دراسة (Harvard Business Review 2019) هذه النتيجة، فأظهر 42% من الموظفين المرهقين رضى وظيفياً منخفضاً.
3. يؤثر الإرهاق في الأداء والإنتاجية
يؤدي الإرهاق إلى تراجع في الأداء وضعف الإحساس بالكفاءة الذاتية، مما ينعكس سلباً على الرضى الوظيفي، وقد أوضحت دراسة (Harvard) نفسها أنَّ المؤسسات التي تفشل في معالجة الإرهاق، تخسر ما يصل إلى 30% من إنتاجيتها نتيجة تدني الرضى.
4. يزيد الإرهاق نيَّة ترك العمل
يفكِّر الموظفون المرهقون في الاستقالة أو يبحثون عن فرص عمل أخرى، وقد أكَّد ذلك تقرير (Gallup 2023) بعنوان "الإرهاق الوظيفي: الأسباب والحلول"، وأوضح أنَّ 76% من الموظفين، يعانون من الإرهاق الوظيفي على الأقل، بينما أفاد 28% أنَّهم يعانون منه دائماً أو غالباً، فالموظفون الذين يعانون من الإرهاق باستمرار هم أكثر عرضة بمقدار 2.6 مرة لأن يكونوا في طور البحث النشط عن وظيفة جديدة مقارنة بمن لا يعانون من الإرهاق، وإضافة إلى ذلك، فإنَّهم أكثر عرضة بنسبة 63% لأخذ أيام مرضية، و23% أكثر احتمالاً لزيارة غرفة الطوارئ، مما يعكس التأثير الجسدي والنفسي العميق للإرهاق الوظيفي.
إحصائيات خليجية حول ضغوطات العمل
- أجرَت مؤسسة (Mercer Talent Enterprise) دراسة حول زيادة التوتر وعبء العمل بين موظفي الخليج (يونيو 2022) شملَت موظفين في دول مجلس التعاون الخليجي، وأظهرت النتائج أنَّ 68% من موظفي الخليج، أبلغوا عن زيادة ملحوظة في مستويات التوتر في مكان العمل خلال الفترة الأخيرة و48% منهم أقرُّوا بأنَّ عبء العمل، قد زاد كثيراً خلال الاثني عشر شهراً الماضية، مشيرة إلى أنَّ زيادة التوتر وعبء العمل، تُفاقِم ظاهرة الإرهاق الوظيفي والاحتراق المهني.
- وجدَت دراسة صادرة عن مركز دبي للصحة النفسية عام 2022 أنَّ قرابة 60% من الموظفين في الإمارات، يعانون من مستويات متوسطة إلى عالية من ضغوطات العمل.
- أظهرت دراسة من جامعة الملك سعود عام 2021 أنَّ 55% من العاملين، يعانون من ضغوطات عمل تؤثر في صحتهم النفسية والجسدية.
- تُظهِر دراسة مجلس التعاون الخليجي (GCC) أنَّ 70% من الموظفين، يعانون من الإرهاق المهني بسبب عبء العمل، وتُعد هذه الدراسة جزءاً من تقرير شامل صادر عن مجلس التعاون الخليجي للعمل والتنمية الاجتماعية (GCC-OSSD) في عام 2023.
شاهد بالفيديو: 5 خطوات لمواجهة الاحتراق الوظيفي
طرائق لتجنب الإرهاق الجماعي وتحسين رضى الموظفين
يستعرض هذا الجزء الحلول الفعالة لتخفيف الضغط المهني وتحفيز الموظفين على الأداء ضمن بيئة متوازنة، وإنَّ تجنب الإرهاق الجماعي هو عنصر أساسي لاستدامة الإنتاجية وجودة العم. فمن خلال تطبيق استراتيجيات مدروسة، تخلق المؤسسات بيئة العمل الصحية التي تشجع على التعاون، وتعزز رضى الموظفين، وتحسن الأداء العام وتقلل معدلات الغياب والاستقالة. وأهم الطرائق التي تحقق هذا التوازن الحيوي بين متطلبات العمل ورفاهية الموظفين:
1. تطبيق نظام عمل مرن يعزز التوازن بين الحياة والعمل
يمنح النظام المرن في العمل الموظف حرية اختيار أوقات ومكان العمل بما يتناسب مع ظروفه الشخصية، مما يقلل من ضغوطات العمل الناتجة عن التنقل اليومي الطويل وضيق الوقت ويحقق توازن الحياة المهنية والعائلية. وهذا الشعور بالتحكم في الوقت يقلل الإرهاق الوظيفي، ويحد من الغياب والانسحاب المرتبطين بالتوتر والضغوطات الحياتية، بالتالي يحسن النظام المرن التركيز والإنتاجية؛ لأنَّ الموظفين يعملون في أوقات يشعرون فيها بأفضل حالتهم.
كمثالٍ عملي، سمحَت شركة تقنية في دبي لموظفيها بالعمل من المنزل ثلاثة أيام في الأسبوع مع خيارات مرنة لبداية الدوام بين 8 و11 صباحاً، مما أدى إلى انخفاض طلبات الإجازات المرضية بنسبة 25% وارتفاع ملحوظ في رضى الموظفين.
2. تعزيز ثقافة التقدير والاعتراف بجهود الموظفين
تعد ثقافة التقدير والاعتراف بجهود الموظفين من الركائز الأساسية التي تقلل الإرهاق الوظيفي وتعزز رضى الموظفين؛ إذ لا يقتصر التقدير على المكافآت المالية فقط؛ بل يشمل أيضاً الكلمات المشجعة والإشادة العلنية بالإنجازات مهما كانت صغيرة، مما يعزز شعور الانتماء والاعتراف بقيمة العمل المبذول. وهذا الدعم النفسي يخلق بيئة العمل الصحية والإيجابية التي ترفع المعنويات وتحفز على بذل مزيد من الجهد، وتقلل مشاعر الإهمال أو الاستغلال التي قد تؤدي إلى الإرهاق.
3. توفير برامج دعم نفسي ومهني داخل الشركة
تعد برامج الدعم النفسي والمهني داخل الشركات من الأدوات الفعالة لمواجهة ضغوطات العمل والحد من الإرهاق الوظيفي، فتوفر هذه البرامج خدمات استشارية وجلسات تدريبية تساعد الموظفين على تطوير مهارات إدارة التوتر والتعامل مع التحديات، مما يعزز توازن الحياة المهنية والشخصية. ومن خلال توفير بيئة آمنة لمناقشة المشكلات النفسية والمهنية، يعبِّر الموظفون عن احتياجاتهم ويبحثون عن حلول فعالة، وبالتالي يحسِّنون أداءهم ويرفعون رضاهم الوظيفي.
4. تشجيع فترات الراحة والإجازات بانتظام
تجدد فترات الراحة القصيرة خلال يوم العمل طاقة الدماغ والجسم، بينما تتيح الإجازات السنوية للموظف استعادة نشاطه بعيداً عن ضغوطات العمل اليومية، ويعد تشجيع الموظفين على استخدام هذه الفترات دون الشعور بالذنب أمراً ضرورياً لتجنب الإرهاق الوظيفي وضمان رضى الموظفين.
5. إعادة تصميم المهام وتوزيع العمل بذكاء
يقيِّم تصميم المهام عبء العمل ويوزِّعه بعدل بين أفراد الفريق، فلا يكون هناك تكدس مهام على عدد قليل من الموظفين؛ إذ ينظم استخدام أدوات تخطيط المشروع الأولويات ويقلل التكرار ويعزز التعاون والعمل الجماعي.
دور القيادة الواعية في الوقاية من الإرهاق الوظيفي
يُبرز أهمية تبنِّي القادة لنهج مرن وإنساني في الإدارة لتقليل الضغط وتحسين الرضى الجماعي، فالقيادة الواعية لا تحقق الأهداف المؤسسية فحسب؛ بل تشمل أيضاً الاهتمام بصحة الموظفين النفسية والجسدية، مما يخلق بيئة العمل الصحية والداعمة والمستقرة، وتحقق القيادة ذلك من خلال:
1. أهمية الاستماع الفعال
يعد الاستماع الفعال ركيزة أساسية في الحد من ضغوطات العمل التي قد تؤدي إلى الإرهاق الوظيفي، فعندما يُظهر القائد اهتمامه الحقيقي بمخاوف الموظفين ومشكلاتهم، يشعرون بأنَّ صوتهم مسموع ومقدَّر، مما يمنحهم شعوراً بالرضى ويرسخ شعور الانتماء. وهذا التواصل المفتوح يتيح التعرف المبكر على علامات الإرهاق، ويقدِّم الدعم المناسب قبل تفاقم المشكلة.
2. التعامل السريع مع بوادر الإرهاق
تكشف القيادة الواعية مبكَّراً عن علامات الإرهاق الوظيفي من خلال متابعة أداء الموظفين وسلوكاتهم، مثل تراجع الإنتاجية أو ازدياد حالات الغياب. وتُخفف الاستجابة السريعة لهذه المؤشرات، سواء بتقديم الدعم النفسي المناسب أم بتنظيم عبء العمل ضغوطات العمل وتحد من تفاقم الإرهاق. وهذا النهج لا يحافظ فقط على صحة الموظفين النفسية والجسدية؛ بل يعزز أيضاً رضاهم الوظيفي ويقلل معدلات الاستقالة المرتبطة بالإرهاق.
3. خلق بيئة تواصل مفتوحة
يعد توفير بيئة عمل تشجع على الحوار المفتوح والصريح بين القادة والموظفين عاملاً أساسياً في الوقاية من الإرهاق الوظيفي، فعندما يشعر الموظف بالأمان في التعبير عن تحدياته وضغوطاته، يصبح من الممكن تبنِّي حلول جماعية تناسب الجميع وتقلل أو تنهي شعور العزلة والإرهاق الوظيفي الناتج عن ضغوطات العمل.
شاهد بالفيديو: 7 علامات شائعة للاحتراق المهني وكيفية التعامل معها
كيف تقيس رضى الموظفين وتتعرف على علامات الإرهاق المبكرة؟
ترصد أدوات القياس وأساليب التقييم التي تساعد الموارد البشرية مدى رضى الموظفين قبل تفاقم الإرهاق، فقياس رضى الموظفين ضروري لفهم حالة الفريق النفسية والمعنوية، وتحديد المؤشرات المبكرة للإرهاق الوظيفي. ومن خلال استخدام التقنيات التالية تتعرف المؤسسات بدقة على مستويات الضغط التي يواجهها الموظفون، مما يتيح اتخاذ إجراءات وقائية فعالة تعزز بيئة العمل الصحية:
1. استبيانات رضى الموظفين
الاستبيانات هي أدوات قياس تجمع آراء الموظفين بانتظام حول جوانب متعددة من بيئة العمل، مثل ظروف العمل، والعلاقات بين الزملاء، والدعم الإداري، والتوازن بين الحياة المهنية والشخصية؛ إذ ترصد هذه الاستبيانات مستوى الرضى العام لدى الموظفين، وتحدد المشكلات التي قد تسبب ضغوطات العمل والإرهاق الوظيفي، وتُصمَّم الأسئلة لتغطي عوامل متنوعة تؤثر في رضى الموظف، كما تُجرى دورياً لمتابعة التغيرات وفعالية التدخلات.
2. تقييم الأداء النفسي والسلوكي
هو عملية تحليل ومراقبة سلوكات الموظفين والمؤشرات النفسية التي تعكس حالتهم النفسية ومستوى تحملهم لضغوطات العمل، ويشمل هذا التقييم مراقبة علامات، مثل التغير في المزاج، والانسحاب الاجتماعي، وانخفاض الإنتاجية، وزيادة الأخطاء. ويمكن استخدام أدوات تقييم نفسية معتمدة أو ملاحظة مباشرة من قبل المشرفين والتي تكتشف بوادر الإرهاق مبكراً وتتدخل قبل أن تتفاقم المشكلة.
3. مقابلات فردية دورية
هي جلسات حوار منتظمة تُجرى بين الموظف والمدير المباشر أو قسم الموارد البشرية لمناقشة التحديات المهنية والشخصية التي قد تؤثر في أداء الموظف ورضاه، وتتيح هذه المقابلات فرصة للموظف للتعبير عن مخاوفه واحتياجاته في بيئة آمنة وداعمة. كما تساعد القيادة على فهم أفضل للتحديات التي يواجهها الموظفون، واكتشاف علامات الإرهاق المبكرة، مثل الإجهاد أو فقدان الحماس، وبناءً على هذه المعلومات، يُقدَّم الدعم المناسب أو تُعدَّل بيئة العمل لتخفيف الضغوطات.
في الختام
لا يتحقق تجنب الإرهاق الوظيفي من خلال تقليل ساعات العمل فقط؛ بل يتطلب تبنِّي منظومة متكاملة تجمع بين الدعم النفسي، والتحفيز المستمر، والتخطيط الإنساني المرن الذي يراعي احتياجات الموظفين.
فمن خلال تطبيق الطرائق الخمس التي تُستعرَض، ومن تعزيز ثقافة التقدير، والاعتراف بجهود الموظفين، إلى توفير برامج الدعم النفسية والمهنية، واعتماد نظم العمل المرنة، وتشجيع فترات الراحة، وصولاً إلى إعادة تصميم المهام بذكاء، يخلق القادة في دول الخليج بيئة عمل صحية ومستدامة تعزز الإنتاجية، وترفع مستوى رضا الموظفين.
لا يحمي هذا النهج الشامل صحة الموظفين فقط؛ بل يعزز نجاح المؤسسات ويضمن استمراريتها في سوق العمل التنافسي؛ لذا يصبح الاستثمار في رفاهية الموظف عاملاً أساسياً لتحقيق التوازن المثالي بين متطلبات العمل وراحة الإنسان.
أضف تعليقاً